المجتمع في خطة التنمية القادمة: التطلعات والمآلات «1 - 3»
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
هذه المقالة تأتي في ثلاثة أجزاء، وهي امتداد لما كتبناه في نفس الزاوية الأسبوع الفائت تحت عنوان «تخطيط التنمية: المناطق الحرجة»، وناقشنا فيه تصورًا لأهم الاعتبارات التي يجب أن تركز عليها خطة التنمية الخمسية الحادية عشرة (القادمة)، والسياق الذي سوف تتحرك فيه. حيث نركز في هذه المقالة على حالة المجتمع في ضوء متغيراته وكيف يمكن أن تلامس الخطة القادمة الأحوال المجتمعية، وتتعامل مع القضايا الحرجة، وترسخ إطارًا للمجتمع (المستقر، الحيوي، والمتفاعل مع محيطه).
وسط كل ذلك يعنينا الحالة المحلية الراهنة، وكيف يمكن للخطة القادمة فعلًا أن تتبنى برامج اجتماعية، أو برامج تلامس قضايا المجتمع تكون أكثر تأثيرًا في الحفاظ على نسيجه، ومعالجة قضاياه الحرجة، وتلمس احتياجاته، وتطوير تفاعله مع محيطه. وإذا ما أردنا ترتيب ذلك في صيغة برامج مقترحة؛ فإن هناك خمسة برامج استراتيجية ذات ضرورة قصوى - حسب تقديرنا - في السنوات المقبلة: برنامج يُعنى بـ «التمكين الاجتماعي»، وبرنامج يعنى بتمكين «الثقافة المالية»، وبرنامج يعنى بتدعيم «الاستقرار والصمود الأسري»، وبرنامج يعنى بـ «الثقافة والتمكين المعلوماتي»، وبرنامج أخير يعنى بتعزيز «المشاركة المدنية». (وقد يكون بعض هذه الموضوعات فصلنا الحاجة إليها في مقالات سابقة؛ إلا أننا هنا نريد إبراز كيف تتفاعل هذه البرامج في منظومة واحدة). فبعد صدور وهيكلة أنظمة الحماية الاجتماعية وتبيان مزاياها وآلياتها؛ أصبح لزامًا التفكير في منظومة متكاملة أيضًا تحوي برامج التمكين الاجتماعي؛ وهي البرامج التي تمكن الأسر والفئات الأكثر احتياجًا من حالة الاعتماد على المنافع النقدية المباشرة إلى حالة المكنة من توفر الدخل المناسب الذي يوازي نشاطها وخدمتها المجتمعية. هناك نماذج راهنة تقدمها المؤسسات ذات العلاقة في شكل فرص عمل على سبيل المثال للأشخاص من ذوي الإعاقة، وفي شكل منصات تخدم الأسر المنتجة وتسوق منتجاتها، وفي شكل منصات أخرى للعمل الخيري وغيرها؛ إلا أن الفكرة كيف يمكن بناء منظومة واحدة متسقة ومتكاملة ومستديمة تعمل على التشكل من خلال استراتيجيات ودعم الحكومة، وتمويل تعاضدي من القطاع الخاص والأهلي، بحيث تكون قادرة على جمع كل هذه الفرص والممكنات اتساقًا مع أنظمة الحماية الاجتماعية المتكاملة. فحتى المنصات التي تخصص للاستفادة من خبرات المتقاعدين لابد أن تندرج تحت هذا المفهوم، وفرص العمل التي توفر للفئات الأشد احتياجًا، والتسهيلات التي تعطى لبعض الفئات المجتمعية كلها تندرج تحت مفهوم واحد؛ وعليه فإن وجود هذا البرنامج/ المنصة/ المؤسسة / التشريع - أيما كان التكييف الإطاري له - يسهل في دعم استدامة ونوعية المزايا والمنافع التي تقدمها منظومة الحماية الاجتماعية.
على الجانب الآخر وبعد تشكل منظومة الحماية الاجتماعية أيضًا، والاتجاه نحو فرض أشكال ضريبية مستجدة، وإعادة النظر في بعض أشكال دعم الخدمات العامة، وضرورة تغيير بعض المفاهيم المجتمعية المرتبطة بإدارة المال؛ أصبحت قضية «الثقافة المالية» قضية محورية - ليس لفئات بعينها وإنما لكافة فئات المجتمع»، وترتقي في الآن ذاته إلى المستوى الاستراتيجي الذي يستوجب إيجاد مبادرات وأنشطة وطنية تستهدف رفع وعي الفئات المجتمعية في إطار مفاهيم (الثقافة المالية) سواء كانت (مفاهيم الادخار - الاستثمار - الاستهلاك - الإنفاق)، وهو عمل يمكن أن يتبنى بين المؤسسات المعنية بتنظيم القطاع المالي والمصرفي، بالإضافة إلى البنوك، وتعضده مؤسسات الدولة الأخرى التي تستطيع الوصول بخطابها إلى المجتمع، سواء وزارة الإعلام، أو المؤسسات المشرفة على قطاع التعليم، أو وزارة الأوقاف والشؤون الدينية حتى يرقى إلى المستوى الاستراتيجي، وينبغي أن يعدد من أدواته وآلياته ورسائله للوصول إلى المجتمع؛ سواء كان من خلال تعزيز وعي المستفيدين من الخدمات المالية والمصرفية بالحقوق والواجبات التعاقدية، أو من خلال الألعاب التعليمية الموجهة للفئات الأقل عمرًا في مؤسسات التعليم، أو من خلال خطب الجمعة، أو الوثائقيات والكرتونيات التي يمكن أن تبتكر في هذا الصدد. تعزز المنافع المستجدة للحماية الاجتماعية كذلك وخاصة للأطفال وكبار السن هذا التوجه، ويمكن أن تكون إحدى الأدوات التي تستثمرها الأسر والمربون لتعزيز اتجاهات الأفراد نحو مفاهيم الثقافة المالية في إطارها المحدود.
سنستكمل الحديث عن بقية البرامج المقترحة في الجزء الثاني من هذه المقالة الأسبوع المقبل، على أن يكون الجزء الثالث مخصصًا لآليات التطبيق المقترحة والعوائد في ضوء حركة المجتمع واحتياجاته.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحمایة الاجتماعیة الثقافة المالیة من خلال یمکن أن
إقرأ أيضاً:
الفرص الاقتصادية والمخاطر والانعكاسات الاجتماعية
خالد بن سالم الغساني
ما يزال الحديث مُستمرًا والنقاش محتدمًا في الشارع العُماني- منذ تداول أنباء غير رسمية- عن السماح لمواطني الفلبين بدخول سلطنة عُمان دون تأشيرة لمدة أسبوعين اعتبارًا من عام 2026. القرار أثار جدلًا واسعًا، وشغل النَّاس وأصبح حديث المجالس، وحتى اللقاءات العابرة، ويرون أن توقيت القرار وسرعة إصداره يحملان أسئلة جوهرية حول التبريرات والمخاطر المحتملة.
فما بين من يعتبر الأمر خطوة دبلوماسية وإنسانية ومن يرى فيه تهديدًا للصحة العامة والاستقرار الاجتماعي، يظل المجتمع أمام تحدٍ في قراءة التداعيات الحقيقية لمثل هذه القرارات التي تلامس حياة النَّاس.
من ناحية إيجابية يمكن النظر إلى هذا القرار- في حال صحته- كفرصة لتعزيز العلاقات الدولية وتسهيل حركة السياحة والعمل القصير المدى، إضافة إلى الانفتاح على تجارب شعوب وثقافات جديدة، وهو ما قد ينعكس إيجابيًا على الاقتصاد المحلي من خلال زيادة الطلب على الخدمات والفنادق والمطاعم، وتعزيز التبادل التجاري غير الرسمي. الانفتاح بهذا الشكل يمكن أن يُظهر عُمان كدولة منفتحة ومستعدة للتواصل الدولي، وهو ما يُعد رسائل إيجابية على مستوى الدبلوماسية العامة.
لكن من زاوية أخرى، يحمل القرار مخاطر واضحة، لا يمكن تجاهلها؛ فالتقارير الرسمية الصادرة عن الفلبين نفسها تشير إلى زيادة ملحوظة في معدلات الإصابة بأمراض خطيرة، وعلى رأسها فيروس الإيدز، خصوصًا بين الفئة الشبابية الأكثر نشاطًا وحركة. هذه الفئة هي نفسها الأكثر قدرة على السفر والتنقل، ما يجعل احتمال انتقال العدوى إلى المجتمع المضيف مسألة واقعية تحتاج إلى تقييم دقيق. هنا يطرح السؤال نفسه: هل دولة بحجم وإمكانيات الفلبين المتواضعة، في ظل أوضاعها الصحية الخطرة، تستدعي مثل هذا الانفتاح؟ وهل من المنطقي أن تُفتح الأبواب دون اشتراطات صارمة للفحص الصحي؟ فتح الأبواب دون ضوابط صحية صارمة يُمكن أن يحوّل خطوة الانفتاح من فرصة إلى مخاطرة، وقد تكون عواقبها بعيدة المدى، تصل إلى التأثير على الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي، لأن الصحة العامة تُعد جزءًا لا يتجزأ من الأمن الوطني.
القرار يطرح أيضًا تساؤلات حول مدى التخطيط والدقة في اتخاذ مثل هذه السياسات؛ فالخطوة جاءت بشكل مفاجئ، بينما السياسة الصحية تتطلب تقييم المخاطر وربط التسهيلات بإجراءات واضحة للفحص الصحي والمراقبة المستمرة. وفي ظل هذا السياق، يظل الخطر محتمل الحدوث إذا لم تكن هناك آليات صارمة لضمان سلامة المجتمع، الأمر الذي قد يؤدي لاحقًا إلى نتائج كارثية على صعيد الصحة العامة.
من جانب آخر، يُثير القرار تساؤلًا حول مبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات الدولية؛ إذ لم يظهر أن الانفتاح مبني على أسس متوازنة بين مصالح السلطنة ومصالح الدولة الأخرى. فتح الأبواب دون تقييم دقيق لتوازن المصالح قد يخلق فجوات يمكن استغلالها لاحقًا في ظل الظروف أو المصالح المتغيرة. بالإضافة إلى ذلك، عرض القرار إعلاميًا على أنه إنجاز وسبق إقليمي يعكس قراءة جزئية للنجاح، في حين أن السبق الحقيقي ينبغي أن يُقاس من خلال الإنجازات التعليمية، الصحية، الاقتصادية والاجتماعية، وليس فقط التسهيلات المؤقتة لدخول الأجانب.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل الفوائد المحتملة للقرار، لكنها تتطلب شروطًا واضحة ومراقبة دقيقة. فالانفتاح لا يجب أن يكون مطلقًا، بل مرتبطًا بإجراءات تحفظ سلامة المواطنين وحقهم في بيئة آمنة. الفائدة الحقيقية تكمن في إيجاد توازن بين الانفتاح الدولي وحماية المجتمع من أي مخاطر صحية محتملة، ما يجعل من الضروري الربط بين التسهيلات وبين فحص صحي صارم، وربما برامج توعية للمسافرين والزائرين.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الأساسي: كيف يمكن للدولة أن توازن بين الفرص الإنسانية والدبلوماسية من جهة، وبين حماية صحة المجتمع واستقراره الاجتماعي من جهة أخرى؟ وأظن ان الإجابة تكمن في سياسات مدروسة، تعتمد على البيانات والمعرفة، تربط كل خطوة انفتاحية بضوابط صارمة تضمن الحفاظ على صحة المواطنين واستقرار المجتمع، دون التضحية بالفرص التي يقدمها التواصل الدولي. إنّ الحديث المستمر حول القرار منذ صدوره يؤكد على أهمية المراجعة الدقيقة، لأن أي خطوة غير محسوبة قد تتحول إلى سابقة يصعب التراجع عنها لاحقًا، ما يجعل من مسؤولية صانعي القرار حماية المجتمع قبل أي اعتبار آخر.
رابط مختصر