ترسانة حزب الله: ما خُفي أعظم وإخماد الحرب رهن دولتين
تاريخ النشر: 28th, February 2024 GMT
رسائلُ بالدم، وتفاوضٌ بالنار، على طول الجبهة الجنوبيّة الحدوديّة للبنان مع الأراضي الفلسطينّية المحتلّة. الأيام الأخيرة شهدت تصعيدًا خطيرًا، أخرج العمليات من إطارها المتعارف عليه، منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، حيث وسّعت اسرائيل نطاق عملياتها لتصل إلى عمق الجنوب وبعلبك، وطالت غاراتها مبانٍ سكنيّة وأرواحًا مدنيّة.
هل بدأت تتحول الميني حرب جنوب لبنان إلى حرب مفتوحة وشاملة؟ أم أنّ الفريقين يلهبان الميدان بقصد تحسين الشروط في عملية التفاوض؟
طيلة أشهر الحرب، لم تتوقف اسرائيل عن التهويل بحرب مدمّرة في لبنان وعاصمته بيروت، على غرار حربها على غزة، آخر تهديداتها ما أعلنه بالأمس عضو مجلس الحرب بيني غانتس عن استعدادهم "لصدور الأمر الذي سيتعيّن علينا فيه توسيع العمليات ضدّ الحزب في لبنان". يدرك الإسرائيلي أنّ الأمر ليس نزهة، لاسيّما وأنّ قدرات حماس لا تقارن بقدرات حزب الله، لكن ذلك وحده لا يشكّل تأكيدًا على عدم إشعال حرب مفتوحة، خصوصًا أنه ليس أمام نتنياهو سوى الهروب إلى الأمام، بعد فشله في تحقيق أيّ من أهدافه المعلنة في غزة. بالتوازي فشلت الجهود الدبلوماسية في إنجاز تسوية، وبقي الميدان مشتعلًا ومُهيّئًا لتفجير المعركة الكبرى في أيّ لحظة، فماذا تقول لغة الميدان؟
ألف عملية للحزب ولم يستخدم سوى 10% من قدراته
بالنظر إلى المسار العسكري الذي اتبعه حزب الله منذ الثامن من تشرين الأول، وفق معادلته القائمة على "الإشغال والإسناد" تجاوزت عملياته الألف عملية، يقول الخبير العسكري العميد المتقاعد ناجي ملاعب في حديثه لـ "لبنان 24" وذلك يُظهر إمكاناته العسكرية وترسانته الصاروخية "رغم المعارك اليومية استخدم الحزب فقط صاروخين من صواريخه القريبة المدى "الكورنيت" الروسي و"بركان" القادر على حمل رأس متفجر بمقدار 500 كلغ غرام متفجرات. أمّا صواريخه الاستراتيجيّة البعيدة المدى مثل "كروز" و"فجر" و"أبابيل OP" فلم يستخدمها بعد. كما أنّ إطلاقه 62 صاروخًا دفعة واحدة، على قاعدة ميرون الإسرائيليّة للمراقبة الجويّة، كردّ أوّلي على اغتيال العاروري، شكّل مؤشرًا أنّه لا زال يستطيع التدخل بقوّة، متى أراد. مجريات الميدان تؤكد أنّ الحزب استعدّ لمرحلة طويلة، ولديه احتياطي كبير من الصواريخ، ولم يستخدم من قوته أكثر من 10%. يضاف إلى ذلك عامل مهم، وهو عدم اعتراض بيئته على القتال، على رغم نزوح الاف الجنوبيين. فيما يتظاهر النازحون من المستعمرات الاسرائيليّة في مناطق الشمال يوميًّا، ويشكّلون قوّة ضاغطة على حكومة نتنياهو. بالمقابل يعدّ العدو الإسرائيلي نفسه كذلك لسيناريو عسكري قوي. وقد عمل على إخراج معظم قواته من وسط غزة، مقللًا من استنزافهم في كامل القطاع، وركّز جهده باتجاه رفح. بالتزامن استقدم أربع فرق إلى الحدود مع لبنان، وأجرى مناورة في تضاريس تحاكي الحدود الشمالية في إطار ما سماه "رفع الجاهزية"، واستعراضه للقوة يعني أنّه لا زال يحظى بدعم أميركي قويّ".
القتال مستمر حتى يحين زمن التسوية
يملك الفريقان ما يكفي من أدوات الحرب، لإبقاء نار الميدان ملتهبة في الوقت الذي يسبق التوصّل إلى حلّ سياسي معين، يلفت ملاعب، مرجّحا أن يستمر إشعال النار إلى حين انضاج طبخة سياسية، لتقديمها على الموائد الدبلوماسية. أما على المستوى الأشمل، فيدل استمرار القتال على عدم تبلور اتفاق بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران بعد، والجهتان تسعيان لذلك، وكلام وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان من بيروت في زيارته الأخيرة حول التهدئة وتجنّب التصعيد، يصب في هذا الاتجاه، علمًا أنّ الإيراني ومنذ عملية طوفان الأقصى انخرط في جهود دبلوماسية كبيرة، بالتوازي مع رسائله العسكرية من لبنان إلى اليمن مرورًا بالعراق. أمّا الأميركي فوقف منذ اللحظة الأولى بوجه الضغوط تجاه العملية العسكرية الاسرائيلية الانتقاميّة، محاولًا عبر كبار دبلوماسييه عزل الخارج عن العملية حتى تتمكّن اسرائيل من إتمامها، وهدفه عدم ترك اسرائيل تحت التهديد مستقبلًا، ليس في غزة فقط وإنّما على الحدود الشماليّة. لكن هذه استراتيجية لم تنجح حتى اليوم، ولن تنجح، باعتقاد ملاعب "طالما أنّ الفلسطينيين لديهم أسلحتهم وقرارهم، كما أنّ الهدف الأميركي الإسرائيلي المشترك بانهاء وجود ايران في المنطقة دونه صعوبات جليّة، حيث زوّدت ايران أذرعها في المنطقة بمستشارين وتقنيات قتاليّة مهمة، ولا زالت تملك أوراقًا. انطلاقًا من هذه الصورة، اذا لم تُحل سياسيًّا بين ايران والولايات المتحدة، سيبقى الفريقان على استعداد لاكمال المسار العسكري".
الحرب المفتوحة مستبعدة
ما نشهده في الميدان من تصعيد ليس توسعة ساحات القتال أو تطويرها نحو حرب شاملة وفق ملاعب "بل عبارة عن تطوير بنك الأهداف، بعد سقوط قواعد الإشتباك. ومن المرجح أن يستمر الوضع على هذه الحال من القتال، من دون الدخول بحرب مفتوحة".
اسرائيل تعدّل التكتيك: اغتيال القادة.. وعمليتان نوعيتان للحزب
استعراض الواقع الميداني في مرحلته الثالثة، يظهر كيف انتقلت اسرائيل إلى "الاستهداف الذكي" أو عمليات الاغتيال، حصل ذلك بناءً على نصيحة أميركية بالتقليل من قتل المدنيين واغتيال القادة، وفق ملاعب، لذلك شهدنا مروحة من الاستهدافات خارج غزة، في سياقها يأتي انفجار كرمال في طهران قرب مقبرة قاسم سليماني، واغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبيّة، و أبو باقر الساعدي القيادي في كتائب حزب الله العراقي في بغداد، وشخصيات من المقاومة جنوب لبنان، ومستشار الحرس الثوري الإيراني سعيد علي دادي في دمشق. بالمقابل محور المقاومة ردّ في أكثر من مكان، ضمن معادلة وحدة الساحات، من صواريخ الحوثيين التي استهدفت 39 سفينة في البحر الأحمر، إلى قصف إيلات بصواريخ لا زالت في دائرة التكتّم حول مصدرها، وصولًا إلى صواريخ الحزب من جنوب لبنان، حيث حصلت عمليتان نوعيتان، أحدثتا تغييرًا في المعادلة "الأولى استهداف قيادة المنطقة الشمالية في صفد، عند السادسة صباحًا برشقة صواريخ، تجاوز أحداها القبّة الحديديّة، وأصاب هدفه محقّقًا إصابات كبيرة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى رمزية ودلالة عملية صفد، بما تعنيه من استخدام المقاومة صاروخًا لم يُستخدم سابقًا، كما لم تنطلق صفارات الإنذار، ما يطرح سؤالًا عن امتلاك حزب الله أجهزة تشويش، وهو احتمال قائم، كما أنّ عدم تبنيّ الحزب عملية صفد، شكّل تكتيكًا ذكيًّا أربك العدو حيال مصدر الصاروخ، وامكانية أن يكون قد أُطلق من خارج لبنان. أمّا العملية النوعيّة الثانية، فكانت وصول طائرة مسيّرة إلى مدينة طبريا على مقربة من منزل أحد الوزراء الاسرائيليين، وقد اجتازت مسافة 50 كلم داخل الأجواء الإسرائيليّة، وقيل إنّها لم تنفجر، وهذا يشير إلى امتلاك المقاومة معداتٍ حديثة، أو إلى ضعف في الأجهزة الإسرائيليّة". المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: حزب الله
إقرأ أيضاً:
لماذا لا تستطيع إسرائيل أن تنتصر في غزة؟
عندما بدأت إسرائيل حربها على غزة في أكتوبر 2023، لم يكن الهدف المعلن أقل من «القضاء التام على حماس». بدا ذلك، لحظة انفعالية، وكأنه مهمة ممكنة. فإسرائيل دولة ذات تفوق عسكري لا يُضاهى في المنطقة، وتتمتع بدعم غربي سياسي وتسليحي ضخم، بينما تقاتل حركة محاصَرة، محدودة الموارد، ومعزولة جغرافيا. لكن أكثر من 20 شهرا من القصف والدمار والإبادة الجماعية لكل ما يدب على الأرض، لا يبدو النصر، وفقا للتوجيه السياسي المعلن والصادر للمؤسسة العسكرية، في الأفق، بل إن إسرائيل نفسها باتت أبعد من أي وقت مضى عن تحقيق أهدافها في الحرب.
ما الذي يحدث إذن؟ ولماذا لم تعد القوة العسكرية كافية لتحقيق الانتصار؟ ولماذا تصبح كل حرب تشنها إسرائيل على غزة أطول، وأكثر دموية، وأقل فاعلية؟
في عمق العقيدة العسكرية الإسرائيلية ـ كما هو الحال في كثير من العقائد العسكرية الغربية ـ ترسّخت فكرة الحرب الخاطفة، التي تحقّق النصر السريع من خلال الضربة الأولى الساحقة، وقد نجحت هذه العقيدة في حرب 1967، لكنها فشلت مرارا منذ ذلك الحين، خصوصا في مواجهة الخصوم غير النظاميين الذين يتقنون حرب المدن والأنفاق، ويجيدون تحويل نقاط ضعفهم إلى أدوات استنزاف طويلة الأمد.
تشبه الحالة الإسرائيلية في غزة ما يسميه بعض الاستراتيجيين «مغالطة الحرب القصيرة»؛ حيث يُفترض أن صدمة القوة ستدفع الخصم إلى الانهيار، لكن الواقع يُثبت أن الخصم ـ عندما يكون متجذرا شعبيا، وعقائديا، ومتحركا جغرافيا ـ لا يُهزم بهذه الطريقة، بل على العكس، كلما طال أمد الحرب، زادت فاعليته، واهتزت صورة القوة المتفوقة أمام جمهورها.
تُظهر تجربة إسرائيل في غزة أن التفوق العسكري وحده لا يكفي؛ فإسرائيل دمرت معظم البنية الأساسية في القطاع، وقتلت عشرات الآلاف، وهجّرت الملايين في غزة لأكثر من مرة، لكنها لم تستطع إقناعهم بالتخلي عن المقاومة، ولم تستطع فرض سيناريو «ما بعد حماس» رغم أنه كان شغل العالم الشاغل أكثر من شغلهم بإنهاء الحرب ووقف الإبادة. وفي غياب هذا السيناريو، تبدو الحرب بلا غاية واضحة سوى التدمير، وهذا ما يحدث الآن، فلا هدف واضح لجيش الاحتلال إلا التدمير والاستمتاع بالقتل والتجويع.. لكن هذا الأمر رغم فظاعته إلا أنه بات يفقد إسرائيل زخمها السياسي ويقوّض مشروعيتها الأخلاقية التي كانت توهم العالم بها.
وبينما تبحث إسرائيل عن «نصر كامل»، تواصل حماس الظهور والاختفاء، القتال والتكتيك، مقاومة القصف وممارسة الإعلام. لم تعد المعادلة تقتصر على مَن يملك الطائرات والدبابات، بل مَن يملك القدرة على الصمود، وعلى إدارة زمن طويل من القتال غير المتكافئ.. ومن يستطيع أن يقنع العالم بسرديته، ويبدو أن غزة تحقق تقدما عميقا في هذا الجانب رغم أنه بطيء جدا بسبب عملها منفردة في ظل غياب المشروع العربي الموحد في هذا الجانب.
وإذا كانت حرب إسرائيل الظالمة تفشل فإن السبب لا يعود كما يعتقد البعض إلى ضعفها العسكري ولكن إلى حجم التناقض بين الوسائل والغايات؛ فبينما تُستخدم القوة التدميرية بأقصى درجاتها، يبقى الهدف السياسي ـ القضاء على حماس ـ أو بمعنى آخر القضاء على المقاومة هدفا مجردا وغير واقعي بالنظر إلى عقيدة المقاوم الفلسطيني الذي ما زال متمسكا بحقه في أرضه وبأن مشروعه الأول هو تحرير أرضه من المحتل الإسرائيلي.
وأثبتت التجربة أن قتل القادة وتدمير المباني لا يعني نهاية المقاومة، بل إن رفض المحتل الإسرائيلي لأي شكل من أشكال الحل السياسي وإمعانه في التدمير والإبادة يحفز المقاومة ويوسع قاعدتها الشعبية وحاضنتها الاجتماعية وتغلغلها في العقيدة الفلسطينية. وما حدث في غزة خلال العامين الماضيين من شأنه أن يعمق الحقد ويحفز مشاريع الانتقام حتى عند أولئك الذين آمنوا في لحظة من اللحظات بفكرة «السلام» مع إسرائيل.
ومن الواضح أن الحروب بين الاحتلال والمقاومة في العقدين الماضيين لا تنتهي إلى نتيجة واضحة، إنها أقرب إلى «صراعات بلا نهاية»، لا اتفاقات سلام واضحة ولا بيانات استسلام، بل جولة تضع بذورا لجولة أخرى، وكل هدوء هش يفضي إلى انفجار عنيف جدا وهو ما يجعل من الصعب قياس النصر والهزيمة.
رغم ذلك فإن «حماس» في نظر الفلسطينيين والكثير من العرب تنتصر بمجرد بقائها على قيد الحياة، واستمرارها في المقاومة أو نجاحها في تنفيذ عملية نوعية مهما كانت نتائجها، وهذا يعكس الفارق بين من يُقاتل من أجل بقاء دولة، ومن يُقاتل من أجل بقاء القضية.
ربما كان الدرس الأهم من هذه الحرب ـ والحروب التي سبقتهاـ هو أن الاستراتيجية العسكرية يجب أن تكون امتدادا لرؤية سياسية واضحة، وليس بديلا عنها، وحين تنفصل عن السياسة، تتحول إلى عبث.
تستطيع إسرائيل أن تُلحق أذى هائلا بغزة كما تفعل الآن، لكنها لا تستطيع فرض السلام من طرف واحد، ولا بناء واقع دائم بالقوة فقط.
لكن ما يعيق إسرائيل عن تحقيق النصر في غزة ليس فقط قدرة حماس على القتال، بل غياب الاعتراف الإسرائيلي بأن هذا النوع من الحروب لم يعد يُنتصر فيه بالطريقة التقليدية، وقد آن الأوان أن تعترف بأن قوة السلاح وحدها لا تكفي، وأن غزة ومن فيها واقع لا يمكن أن تمحي وجوده أبدا وإن لم تبدأ بقراءة هذا الواقع بعيون سياسية لا عسكرية، فستظل تدور في حلقة حرب لا تنتهي، وتتحول حربها الظالمة بالضرورة إلى مجرد إبادة إنسانية.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان