لجريدة عمان:
2024-09-22@14:50:04 GMT

الحرية الأكاديمية وتطلعات المجتمع

تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT

تنطلق الحرية الأكاديمية أساسا من حقوق الإنسان المتأصلة في التعليم والتعلُّم واكتساب المعارف، فمنذ اتفاقية اليونسكو المناهضة للتمييز في التعليم في العام 1960، اكتسب حق التعليم قانونية شرعية، ورغم أن المصطلح تم استخدامه للمرة الأولى في عام 1915، وعُقد أول مؤتمر للحُرية الأكاديمية في عام 1925 في الولايات المتحدة، إلاَّ أنه لا توجد إلى الآن حسب الأدبيات المتوفرة وثيقة متكاملة للحُرية الأكاديمية، سوى تلك المواثيق التي أطلقتها بعض المؤتمرات والاجتماعات الدولية التي تُحدِّد المفهوم والواجبات؛ بدءا من مؤتمر سيينا الذي عقدته الرابطة الدولية لأساتذة ومحاضري الجامعات في عام 1982، وليس انتهاءً بالمؤتمر العلمي الثاني للحُريات الأكاديمية في الجامعات العربية، الذي نظمه مركز عمَّان لدراسات حقوق الإنسان بالتعاون مع مجموعة من المؤسسات الأكاديمية العربية وجامعة الأمم المتحدة في عام 2008.

ولعل تلك المساهمات التي حاولت تعقيد مفاهيم تلك الحُرية وقدرتها على إحداث تغيير وأثر ذلك على المستوى الأكاديمي، وإمكانات الدعم الذي يمكن أن تقدمه المؤسسات الأكاديمية من خلال تنشئة أجيال قادرة على التعبير عن رأيها بما يخدم مجتمعها ومدى مساهمته الفاعلة في المؤسسات المدنية الداعمة للأهداف الوطنية، ولذلك فإن تعريف الحُرية الأكاديمية - حسب إعلان ليما الصادر في عام 1988 - بأنها تلك الحُرية التي يكتسبها الأكاديمي من خلال «التدريس والبحث والنشر والتحدُّث» ضمن الأوساط الأكاديمية، لا يعني الأستاذ الجامعي وحده بل أيضا المتعلِّم الذي يحق له تلك الحُرية وفق السياسات الأكاديمية المتاحة.

إن هذه الحُرية تستوجب إيجاد البيئة المناسبة للممارسة، وهي بيئة ممكِّنة للأكاديميين والطلاب معا، فكلاهما يستطيع أن يتحدث ويكتب وينشر بحُرية ضمن السياسات التي يحددها القانون وكلما كانت تلك الحُرية أوسع آفاقا كلما استطاع كلاهما التعبير عن رأيه والمشاركة بشكل أكثر انفتاحا، ولهذا فإن الحُرية الأكاديمية وفق تلك المفاهيم تتعلَّق بقدرة المؤسسات الأكاديمية نفسها على تهيئة البيئة المناسبة وضمان ممارسة الحقوق المتعلِّقة بها ضمن منظور منفتح، يهدف إلى تطوير مفاهيم الحُرية وإيجاد أجيال قادرة على البحث والنشر والتعبير عن الرأي وطرح التساؤلات الجادة.

وعليه فإننا لو نظرنا إلى الحُرية الأكاديمية من منظور حقوق الإنسان بشكل عام، سنجد أنها تطوُّر أساسي لتلك الممارسات التي تحفِّز على العطاء البحثي والقدرة على الإبداع من ناحية، وتدريب فعلي للمنتسبين لمؤسسات الأكاديمية على حُرية الرأي التي تنطلق من الوظائف الفكرية والنقدية التي تقوم عليها تلك المؤسسات، ولهذا فإن المساحة التي تمنحها المؤسسة للأساتذة والطلاب تختلف باختلاف قناعاتها وإيمانها بأهمية تلك الحُرية وقدرتها على تعزيز الدور الأكاديمي للمؤسسة، وبالتالي إمكانات تلك الحُرية على بناء مفاهيم جديدة للمنظومة الأكاديمية ككل.

يُحدثنا مؤشر الحُرية الأكاديمية 2024، الصادر عن جامعة فلوريدا أتلانتيك (FAU)، عن تلك المعاناة التي تعانيها الحُرية الأكاديمية من تقييد على مستوى البحث العلمي والنشر وكذلك حُرية الرأي؛ غير أن بعض المؤسسات الأكاديمية تبذل الكثير من الجهد بواسطة الخطاب المفتوح وإنتاج المعارف السليمة علميا والتعليم المنطلق من مفاهيم تلك الحُرية وقدرتها على حماية (الاستقلالية الجامعية)، و(النزاهة العلمية)، ولهذا فإن هذه الحُرية تقتضي (الاستعداد للدفاع عن الاستقلالية المؤسسية واتخاذ تدابير لتعزيز الحُرية الأكاديمية الفردية).

يسجل المؤشر تراجعا عاما للحُريات الأكاديمية في العالم؛ فبعد أن كان ما يقرب من 4 مليارات شخص يعيشون في سياقات الحرية الأكاديمية المحمية بشكل جيد في عام 2006، فإن هذا العدد قد انخفض في عام 2023 إلى 2.8 مليار شخص فقط، ويُعزى ذلك إلى ما يمُر به العالم من تطورات على المستوى السياسي والاجتماعي إضافة إلى التعقيدات المتعلقة بمستويات اتخاذ القرارات وحُرية الرأي في العديد من دول العالم، والتناقضات التي تعاني منها المجتمعات، لذا فإن المؤشر يسجِّل تراجعا في عشر بلدان منها (بنجلاديش والهند وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية).

إن ما يمُّر به العالم اليوم من متغيرات وتناقضات على مستوى الصراعات، وجَّه المؤسسات الأكاديمية في العالم إلى ممارسة الحُريات والمطالبة بحقوق تلك الحُريات؛ إذ شهدنا الكثير من الوقفات السلمية التضامنية أو الاحتجاجية في العديد من جامعات العالم، والجرأة في طرح القضايا المرتبطة بالعلوم الحديثة، ومتغيرات البيئة، إضافة إلى طرح قضايا الانتهاكات الجيوسياسية وغيرها التي نجدها بشكل أكثر جرأة في جامعات الوطن العربي، الأمر الذي يعكس الفهم العام لمستويات الحُرية الأكاديمية وقدرتها على إيجاد متنفَّس في المآزق التي تمر بها المجتمعات.

لقد قدَّمت المتغيرات الحالية مفاهيم جديدة للحُرية الأكاديمية ليس بفضل حق الجامعات في التعبير عن نفسها وحسب، بل أيضا الكشف عن مدى قدرة جامعاتنا على التعبير عن نفسها وفق معطيات المرحلة الحالية والتطلعات المستقبلية التي تواكب الأهداف الوطنية والإقليمية، وبالتالي فإن هذه الحُرية على الرغم من خصوصيتها إلاَّ أنها تشكِّل إحدى تلك الحُريات التي تؤثر على قدرة المجتمعات على إحداث أثر إيجابي على كافة القطاعات التنموية خاصة على المستوى البحثي والمعرفي وقدرتها على تلمُّس احتياجات المجتمع وأولوياته.

إن الحُرية الأكاديمية تمثِّل عنصرا من عناصر القوة للمؤسسات، وهذه القوة تحتاج دوما إلى إتاحة الفرص أمام الأكاديميين للتعبير عن قدراتهم في المشاركة المجتمعية؛ فعلى الرغم من أن الخدمة المجتمعية إحدى مقومات تقييم الأساتذة في المؤسسات الأكاديمية إلاَّ أن الكثير منهم لا يُلقي لها بالا سوى اعتبارها هدفا عليه تحقيقه بصرف النظر عن احتياجات مجتمعه أو أولوياته، والحق أن الأمر هنا لا يتعلَّق بمستويات التقييم بقدر تعلُّقه بمدى فهم أولئك الأكاديميين لمبادئ الحُرية التي يتمتعون بها، وقدرتهم على إدراك المسارات التنموية في أوطانهم؛ فالدور الأكاديمي الذي يقومون به لا يقتصر على التدريس بل يتسع ليكون جزءا أساسيا من البناء التنموي في كافة القطاعات.

ولهذا فإن اتساع مفاهيم الحُرية الأكاديمية لا يتعلَّق بالمؤسسات وحدها بل يشمل الأكاديميين أيضا، لأنهم المسؤولون عن ممارسة تلك الحُرية وآفاقها وتطلعاتها، وبالتالي عن إمكانات مواكبتها للمتغيرات والتحولات التي تمر بها المجتمعات؛ ذلك لأن الجامعات والكليات وغيرها من المؤسسات الأكاديمية إنما أُنشئت من أجل خدمة تلك المجتمعات تعليما وبحثا ومعرفة وابتكارا، الأمر الذي يعني أنها أداة أساسية في التطوُّر وإحداث القفزات التنموية في ظل الكثير من التحديات التي تواجهها، والحق أن الحُرية الأكاديمية مبدأ أساسي في مؤسساتنا الأكاديمية التي تحرص على إشراك الأساتذة والطلبة في كافة الممارسات الأكاديمية بدءا من السياسات المنظمة للعمل، والمبادرات والبرامج التي يقوم عليها العمل الأكاديمي، إضافة إلى الدعم البحثي المؤسسي، وتعزيز دور تلك المؤسسات في خدمة المجتمع.

إن الحُرية الأكاديمية تقتضي تمكين دور المؤسسات الأكاديمية، وتعزيز دور الأكاديميين والطلاب ليس من أجل التحصيل العلمي وحده بل أيضا من أجل تفعيل الدور التنموي لتلك المؤسسات، وقدرتها على المشاركة الفاعلة في تحقيق الأهداف التنموية، فلا توجد أماكن أفضل من الصروح الأكاديمية لطرح التساؤلات وفتح المناقشات التي تخدم الأهداف الوطنية، وتُعزِّز الدور الأكاديمي وتفتح آفاق البحث العلمي والأطروحات الجريئة التي تفضي إلى نتائج يمكن الإفادة منها في تغيير مسارات أو إحداث تطورات أو حتى وقف ممارسات لا تعود بالمنفعة على المجتمع.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المؤسسات الأکادیمیة الأکادیمیة فی وقدرتها على التعبیر عن الکثیر من فی عام

إقرأ أيضاً:

القائم بأعمال محافظ تعز: ثورة 21 سبتمبر حققت تطلعات الشعب في الحرية والاستقلال

الثورة نت/..

رفع القائم بأعمال محافظ تعز أحمد المساوى برقية تهنئة إلى قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي ورئيس المجلس السياسي الأعلى فخامة المشير الركن مهدي المشاط بمناسبة العيد العاشر لثورة 21 سبتمبر.

وأكد المساوى أن ثورة 21 سبتمبر حققت تطلعات الشعب اليمني، في الحرية والاستقلال، مشيراً إلى أن المسار الوطني للثورة، كان الرد العملي على تشكيك الأعداء، في أهدافها ونهجها الوطني، وأن تكوين تحالف من 18 دولة لمحاولة إيقاف الثورة منذ بدايتها دليل على قوتها وأهميتها.

وذكر أن ثورة 21 سبتمبر أثبتت صدقها ووفاءها للشعب ورفضها للظلم والطغيان، وحملت راية العدل والدفاع عن المستضعفين، لافتاً إلى أنها ستظل مصدر الهام للتحرر من التبعية والهيمنة الخارجية.

مقالات مشابهة

  • القائم بأعمال محافظ تعز: ثورة 21 سبتمبر حققت تطلعات الشعب في الحرية والاستقلال
  • مساعد رئيس الأكاديمية الطبية العسكرية: نعمل على مشروع متكامل لتطوير «التمريض»
  • رئيس الأكاديمية الطبية العسكرية لـ«الوطن»: نسهم في دراسة وتشخيص المشكلات الصحية المزمنة في مصر
  • للمرة الأولى.. تكريم فنانين عمانيين بحفل جوائز "الجمعية الأكاديمية للفنون" في فرنسا
  • رئيس الأكاديمية المتحدة للإعلام: «القاهرة الإخبارية» صرح كبير ينافس كبرى القنوات الإخبارية
  • عاجل| ميقاتي يطالب المجتمع الدولي بموقف واضح من المجازر التي ترتكبها إسرائيل
  • منتدى شباب العالم يشارك في قمة المستقبل بنيويورك تحت رعاية الأكاديمية الوطنية للتدريب
  • 21سبتمبر ثورة الحرية والاستقلال
  • «الحرية المصري»: تزايد الصراع في المنطقة سيكون له عواقب وخيمة
  • ”صحفي يمني يشيد بأيقونة الحرية اليمنية: سحر الخولاني في مواجهة الظلم الحوثي”