يمن مونيتور:
2025-10-16@12:51:34 GMT

في الغربة وقسوتها

تاريخ النشر: 8th, September 2024 GMT

في الغربة وقسوتها

يمن مونيتور/ضفة ثالثة

أو تدركون معنى الغربة وقسوتها؟

القسوة في أن تعيش خارج الوطن الّذي تتمنّى أن تتنفّس رحيق هوائه، وأن تلفحك شمسه النّاعمة، وتلتحفك سماؤه بنجومها اللّامعة، وتفترش الأرض سجّادة خضراء تزرع فيها جسدك، وتنتشي بعطر الصّنوبر والزّيتون والزّيزفون.

الأقسى من ذلك ألّا تستلقي على تلك السّجادة المزركشة بكل ألوان الحياة ليلًا، يداعبك الهواء الحنون عليك، تطوي رجليك، وتنظر إلى السّماء، وتروح تعدّ النّجوم، تلك الأمّ، وذاك الأب والأولاد يسيرون خلفهما في خطّ مستقيم.

قد يزيحون عنه أحيانًا مداعبة لهما، فالأولاد عادة يحاولون مداعبة أهلهم.

غدرت به الحياة كما غدرت بالكثيرين من الشّعب الفلسطيني الّذي ترك أرضه مرغمًا تحت خطّ النّار والموت والدّمار والإكراه، وعاش لاجئًا بعيدًا عن بيته وأرضه، لكنّه ظلّ مصمّمًا على التّشبّث بالوطن، بالأرض، بالحرّيّة. قاوم وحارب واعتقل، وعاد من جديد إلى الوطن بعد غربة طويلة عاشها في اللّجوء، وكأنّه شعر بأنّه سيكون بمأمنٍ حينما يلفّ تراب الوطن جسده، فاستُشهد، ضحك، ابتسم، وكأنّ عصفورة الحلم أخبرته بذلك.

نحن البعيدون نقول: من سيعيد رفاتنا إلى أرض الوطن؟ من سيحمل نعوشنا، ويلف بها الطّرقات حتّى نستنشق لآخر مرّة هواء الوطن؟

أبو علي مصطفى حقّق حلمه بعودته إلى الوطن، واستُشهد فيه، ولُفّ نعشه بعلم الوطن، وجال محمولًا على الأكف تعانق روحه السّماء، ويستنشق عطر الوطن، ونعم بدفء ترابه.

قد يعتقد كثيرون بأننا نحسده على استشهاده ذلك، نعم، نحن نحلم بمثل تلك الشّهادة، نروي تراب وطننا بدمائنا، يهتف لنا الهاتفون، نُلف بعلم الوطن، ويحتضننا ترابه.

كيف سنقول له وداعًا ذلك الوطن القريب البعيد؟ ونحن نعيش في الغربة الّتي تستقبلنا ونعيشها بمرارةٍ قاسية، كيف سيضم رفاتنا والأرض مغروسة بقنابل وألغامٍ بعدوٍّ يقطع المسافة بيننا بسور شائك مدبّب. ننظر إليه من ذاك الجنوب المجبول بدمنا ودم أهله. يقتلنا الحنين، والعجز في بلاد اللّجوء، تكبّلنا المسافات والشّرائط الشّائكة، ونحن ننتظر، نعدّ الدّقائق والسّاعات وحتّى الشّهور والسّنوات الطّوال الّتي تحملنا على أجنحة الرّيح نتهادى عليها، على أمل العودة، لكن ما تلبث أن تسقطنا في وكرنا المليء بكلّ أصناف الهموم والعذاب، لنستقرّ بين أسنان منشار يحزّ رقابنا. لا نموت، ولا نعيش، لكنّه يجعلنا ننتظر ببطء موتنا المنتظر، ونحن نقول: “من يعيد رفاتنا إلى الوطن؟”.

من عاشوا في الوطن وغادروه يدركون أنّ الوطن يسكننا ونحن على بعد مسافة منه، وأعيننا شاخصة في تلك الأماكن الّتي عرفناها ولم نرها.

أتخيّل طرقاته مع كلّ طلعة شمس، أحسب نفسي أسير على طرقاته، أداعب الهواء، وأمتشق الرّيح، وألقي التّحيّة على الشّمس النّاعسة، وعلى الباعة والأطفال والرّجال والعاملين، وعلى كلّ من تدب فيه الحياة بعد نومٍ طويلٍ. وفجأةً يوشوش في أُذْني عُصفورٌ صغير، فأصحو من حلمي وأدرك أنّني ما زلت أعيش في بلاد اللّجوء الّتي تلوكني بأسنانها الهمجيّة، تطحنني حتّى لا ترسو سفني في الوطن، وأتساءل بغُصّة تقتلني: “متى سأعود إلى أرض الوطن؟ متى سينتهي هذا الكابوس؟ متى سأصير إنسانةً كاملةً؟”.

أوليس البعد عن الوطن يسقط عنّا إنسانيتنا؟

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: الغربة القسوة

إقرأ أيضاً:

الوطنية بين الجغرافيا والضمير

يقودنا هذا العنوان إلى سؤالٍ فلسفيٍّ عميق: ما هي الوطنية في زمننا هذا؟

أهي مجرد انتماءٍ عاطفيٍّ إلى رقعةٍ جغرافيةٍ تُرسَم حدودُها بالخرائط وتُدافِع عنها الجيوش؟ أم هي التزامٌ أخلاقيٌّ وفكريٌّ ببناء الإنسان والمكان معًا، دون أن تكون الوطنِيّة شعارًا يُرفَع في المناسبات الانتخابية أو صدى يُكرَّر في الخُطب المكرورة منذ ثورة 1919 حتى يومنا هذا؟

لقد تحوّلت الوطنية في وعينا الجمعي إلى كلمةٍ ثقيلةٍ من فرط الاستخدام، كلمةٍ فقدت بريقها الأصلي حين كانت تخرج من أفواه الثوّار والفلاحين والطلبة في الشوارع والميادين، لا من أفواه المترشّحين على المنصّات.

في زمن سعد زغلول، كانت الوطنية موقفًا وجوديًا قبل أن تكون شعارًا سياسيًا، كانت فعل مقاومةٍ ضدّ الاحتلال، وصوت الضمير الجمعي الذي قال: تحيا الأمة، أمّا اليوم، فصارت الوطنية ورقةً يُلوَّح بها كل من أراد مجدًا أو مقعدًا أو حصانة.

لكن الوطن، في جوهره، ليس ورقةَ اقتراعٍ ولا نشيدًا في الطابور الصباحي، بل هو حالة وعيٍ متجذّرة في القلب والعقل معًا.

الوطنية هي أن تُدرِك معنى التراب الذي تمشي عليه، والعرق الذي سقاه أجدادُك، وأن تُكمِل البناء لا أن تهدمه بشعاراتٍ زائفة. إنها ليست حنينًا إلى الماضي، بل مسؤوليةٌ تجاه المستقبل.

في الجغرافيا يُقال: إن الوطن هو المكان الذي تلتقي فيه حدود الأرض بحدود الذاكرة.

وفي السياسة، هو الكيان الذي يضمن الحقوق ويصون الكرامة.

أمّا في الفلسفة، فالوطن هو المعنى الذي يمنح الإنسان سببًا ليبقى.

هذه الثلاثية - الأرض، الدولة، المعنى إن اختلّ أحد أضلاعها، سقطت الوطنية في فخّ التبعية أو الاغتراب.

لقد تغيّر مفهوم الوطنية بتغيّر الأزمنة، كانت في الماضي صراعًا بين المستعمِر والمستعمَر، بين السلاح والكلمة. واليوم، أصبحت صراعًا من نوعٍ آخر: بين الوعي والفراغ، بين من يبني الوطن ومن يبيعه.

فالعدوّ لم يعُد دائمًا يأتي من وراء الحدود، بل من داخل النفوس التي فرّغت الانتماء من معناه.

حين نتأمل خريطة العالم العربي بعد قرنٍ من ثورة 1919، نجد أن الجغرافيا ثابتة، لكن الوعي الوطني أصبح متشظّيًا.

هناك من يرى الوطن في الزعيم، ومن يراه في القبيلة، ومن يراه في الدين، ومن لا يراه في شيءٍ على الإطلاق.

وبين هؤلاء جميعًا تضيع الفكرة الأصلية: أن الوطن ليس ملكًا لأحد، بل مسؤولية الجميع.

الوطن ليس هويةً جامدة، بل كائنٌ حيٌّ يتنفّس بقدر ما نمنحه من صدقٍ وعدل.

والوطن الذي يعلو فيه صوت القهر على صوت القانون، لا يمكن أن يُنبت وطنيين.

والوطن الذي تُختزَل فيه المواطنة إلى بطاقة رقم قومي أو نشيدٍ يُذاع قبل الأخبار، لا يصنع إلا جموعًا بلا وعي.

الوطنية ليست كلماتٍ تُقال، بل فعلٌ مستمرٌّ ضدّ القبح والظلم والتهميش.

الانتخابات الحالية - مثل كل استحقاقٍ سياسي - تُعيد طرح السؤال من جديد:

هل نحن ننتخب من أجل الوطن، أم نستخدم الوطن لتبرير الانتخاب؟

كثيرون يرفعون اللافتات ويتحدثون باسم “المصلحة الوطنية”، بينما الواقع يشهد أن الوطنية أصبحت سلعةً انتخابية تُباع على الأرصفة الإعلامية.

لا نحتاج إلى من “يدّعي حبّ الوطن”، بل إلى من “يُتقن خدمته”.

فالوطنية ليست في الصور والابتسامات أمام الكاميرات، بل في العمل الصامت، في إنقاذ قريةٍ من العطش، أو طفلٍ من الجهل، أو عاملٍ من الفقر.

الوطن ليس في الخرائط وحدها، بل في العيون التي تلمع حين يُذكَر اسمه، في المزارع الذي يصحو قبل الفجر، في المعلمة التي تزرع الأمل في عقل طفلٍ صغير، في الطبيب الذي يسهر في المستشفى الحكومي دون انتظار مكافأة.

هؤلاء هم من يصنعون الوطنية الحقيقية، لا من يتحدثون عنها في البرامج الانتخابية.

وفي المقابل، لا ينبغي أن تتحوّل الوطنية إلى عصا تُهشّ بها السلطة على المعارضين، ولا إلى بطاقة “حسن سلوك” يمنحها الإعلام لمن يرضى.

الوطنية لا تُقاس بالولاء للحاكم، بل بالولاء للحقّ والعدل.

ومن يعارض الظلم حبًّا في وطنه، أكثر وطنيةً ممن يصمت خوفًا أو طمعًا.

إننا بحاجة إلى إعادة تعريف الوطن، لا في كتب الجغرافيا، بل في ضمائرنا.

فالوطن ليس فقط مساحة الأرض، بل مساحة الأخلاق المشتركة التي تجمعنا.

وحين تتآكل القيم، تتفتت الجغرافيا من داخلها، وحين نكذب باسم الوطنية، نفقد القدرة على بنائها من جديد.

فليكن الانتماء إذن فعلًا لا قولًا، ولتكن الوطنية عهدًا لا شعارًا.

نحن لا نحتاج إلى وطنٍ أكبر، بل إلى وطنيين أنقى.

فالوطن لا يُبنى بالأغاني والخُطب، بل بعرقٍ نزيهٍ وضميرٍ حيٍّ، وبإيمانٍ بأن كل لبنةٍ في هذا التراب هي من نصيبنا جميعًا.

وربما آن الأوان أن نسأل أنفسنا بصراحة:

هل نحب الوطن حقًّا، أم نحب ما يمنحنا إياه من امتيازات؟

هل نحافظ عليه لأننا نخاف عليه، أم لأننا نخاف من فقدانه؟

الوطن ليس ما نقوله في العلن، بل ما نفعله في الخفاء حين لا يرانا أحد.

تلك هي الوطنية الحقيقية، وتلك هي الجغرافيا التي لا تُرسَم بالخرائط، بل تُكتَب في القلب.. .!! (كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية)

اقرأ أيضاًرئيس جامعة حلوان: نصر أكتوبر ليس فقط حدث تاريخي بل درس خالد فى الإرادة والعزة الوطنية

محمد العدل ينتقد تغيير لحن «اسلمي يا مصر»: تشويه لذاكرتنا الوطنية

مقالات مشابهة

  • درجكم طويل ونحن رياضيون فماذا قصد منها الشرع
  • الرئيس تبون: أترحم بخشوع على أرواح من توفاهم الأجل من جيل المناضلين الوطنيين في ديار الغربة
  • درجكم طويل ونحن رياضيون.. عبارة للشرع اختزلت مسار الثورة والحوار مع روسيا
  • الوطنية بين الجغرافيا والضمير
  • بن سبعيني: “أجواء التكريم رائعة.. ونحن فخورون بالتأهل إلى المونديال”
  • محامي الزمالك: ننتظر قرارًا بعودة أرض أكتوبر.. وسنحصل على أرض إضافية في التجمع السادس
  • حماس: إسرائيل خرقت الاتفاق باستهداف المدنيين .. ونحن ملتزمون بكل تفاصيل الاتفاق
  • عاجل | الملك يغادر أرض الوطن إلى إيطاليا
  • محمد مناعي لاعب منتخبنا الوطني: عازمون على كتابة التاريخ
  • الملك يعود إلى أرض الوطن