يشعر الفرد بالأمان النفسى والراحة والاطمئنان بالعيش فى الماضى الذى يألف أحداثه وأشخاصه، وقد تجسد ذلك بوضوح على مدار خمسة عشر يوما عشنا جميعا فيها حالة من الغموض والترقب المرتبطة بأحداث مسلسل «عمر أفندي» التى تدور بين حقبتين زمنيتين؛ عكست الأولى عالمنا المعاصر الضاغط بكل ما قد تحمله طياته من قسوة، بينما عكست الثانية الماضى فى حقبة الأربعينيات وزمن قصص الحب الأفلاطونية وبدايات عديد من الفنون الاستعراضية والحياة ذات الإيقاع الهادئ المتزن، حيث يبدو كل شيء ذا رونق خاص وجذاب.
بطل القصة من وجهة نظرى هو الغائب الحاضر «تهامي» الذى برع فى أداء دوره الفنان القدير محسن صبري، وبدأت من خلاله أحداث المسلسل، ف»تهامي» هو الأب الذى يسعى إلى إرضاء ابنه «علي» الذى يريد أن يتزوج فتاة شديدة الثراء، أحبها فاضطر للعمل مع والدها وتوقيع شيكات على نفسه لإثبات عدم طمعه بأموالها، وبسبب رفض «تهامي» بيع منزله لسر ما، ورفضه الزيجة هو الآخر لعدم التكافؤ وأمام إصرار ابنه يقاطع كل منهما الآخر لسنوات، ويتوفى تهامى لتبدأ أحداث المسلسل بعد وفاته، وينكشف السر لعلى.
إذ ينقلب كل شيء رأسا على عقب فور وفاة تهامي، حيث يكتشف «علي» سردابا بمنزل والده يقوده إلى الماضي؛ وتحديدا عام ١٩٤٣، وهناك يتعرّف إلى «زينات» الفنانة الاستعراضية وأمها «دلال» الراقصة المعتزلة زوجة أبيه، و»دياسطي» البوسطجى الذى يحلم أن يكون فدائيا، و»شلهوب» اليهودى البخيل الذى يخشى الألمان ويحاول التخفّى منهم، إضافة إلى شخصيات أخرى، ويكتشف «علي» من خلال معايشته لهذا الزمن بشخصياته أن والده «تهامي» قد سبقه إليه، وحظى بمكانة كبيرة وحُب كل من تعامل معه، ويعرف كيف كان والده يحبه ويفتقده ويراقبه من بعيد للاطمئنان عليه، فيقرر «علي» أن يكمل مسيرة والده خلال تلك الفترة.
وتدور أحداث المسلسل ونعيش معها أجمل لحظات الحنين إلى الماضي، فمثلما أحب «علي» أو عمر أفندى بطل المسلسل فترة الأربعينات بشخصياته الهادئة وتفاصيل الأماكن والديكورات وأشكال السيارات وبساطتها؛ أحبها أيضاً المشاهدون متخيلين أنفسهم ومتمنين جميعا أن يعودوا إلى تلك الفترة ويعيشوا فيها كما فعل «علي» من خلال أحداث المسلسل.
إلا أن الحنين إلى الماضى له أساس سيكولوجي، يطلق عليه مصطلح النوستولجيا أو النوستالجيا (الحنين إلى ماض مثالي) والذى ابتكره طالب الطب «يوهانس هوفر» بعد أن لاحظ أن مجموعة من العمال السويسريين المغتربين عن أوطانهم كانت تظهر عليهم أعراض مشتركة مثل: الأرق، وعدم انتظام ضربات القلب، وتبين فيما بعد أن من أهم أسبابها الشوق والحنين إلى أوطانهم. ويشير علماء النفس أن النولستوجيا هى آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات فى التكيف، وعند الشعور بالوحدة، كما أن الحنين إلى الماضى مهم للصحة العقلية والنفسية، وله فوائد جسدية وعاطفية؛ فهو أسلوب ناجح فى محاربة الاكتئاب وقتيا ويعزز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعى.
وفى النهاية، تبقى الدراما نافذة المشاهدين لعوالم وأزمنة متنوعة نعيش معها تجارب عِدة ونستلهم مشاعر متنوعة.
أستاذ الإعلام المساعد بكلية الآداب–جامعة المنصورة
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: عمر أفندي أحداث المسلسل الحنین إلى
إقرأ أيضاً:
هزاع.. دراما اجتماعية وهوية مزدوجة بين شمال الرياض وجنوبها
انتهى عرض حلقات المسلسل السعودي الجديد "هزاع"، بعدما تنقل بين المراتب العشر الأولى، ليستقر في المرتبة الرابعة ضمن المسلسلات الأعلى مشاهدة عبر منصة "شاهد" في المملكة العربية السعودية. القائمة التي تتغير أسبوعيا تحتفظ بحضور سعودي بارز، رغم حضور مسلسلات مصرية وسورية تعرض عبر المنصة، مما يعكس توجهات الجمهور في المملكة نحو الأعمال التي تستعرض ثقافتهم وتجسد حياتهم اليومية.
في 10 حلقات، يحكي مسلسل "هزاع" من إخراج محمد الهليل قصة بسيطة حول حارس أمن يتحول بسبب تشابه أسماء وخطأ مسؤول موارد بشرية إلى طبيب نفسي في إحدى العيادات التخصصية بالرياض، هزاع (خالد صقر) حارس الأمن لم يستكمل تعليمه، مع سجل سوابق، ويخضع لإرشاد نفسي إلزامي بعد قضاء فترة سجن، ومصادفة يتحول في لحظات إلى طبيب نفسي تعلّم بالخارج مع سيرة مهنية غنية.
سيناريو المصادفاتقد تكون مجرد مصادفة أن زملاء هزاع في عمله الجديد كطبيب نفسي لم يلتفتوا إلى جهله بأبسط الكلمات الإنجليزية، ومصادفة أخرى أن تجربته المهنية لم تصطدم بعد بحالة معقدة تستوجب علاجا دوائيا أو وصفة طبية. فخلال الفترة القصيرة التي مارس فيها المهنة، لم يواجه هزاع سوى حالات بسيطة، يغلب عليها الطابع الاجتماعي لا المرضي.
إعلانلم يكن المرضى يعانون اضطرابات نفسية عميقة، بل كانوا في الغالب أشخاصا أثقلهم الحزن، أو طاردتهم الوحدة، أو أنهكتهم تفاصيل الحياة. مراهق يتعرض للتنمر في المدرسة، مراهقة صامتة تلوذ بالصمت هربا من صخب الخلافات الزوجية بين والديها، فنان قديم لفظته ذاكرة الجمهور، أو رجل مسن تغلبه نوبات من الغضب.
كانت كلها حالات سلوكية، لا تنبع من خلل في كيمياء الدماغ، بل من هشاشة في الواقع اليومي. ولم تكن تحتاج إلى أدوية، بل إلى فهم عميق لجذور الألم. فهزاع لم يكتب وصفة واحدة، بل كتب مداخل إنسانية لكل حالة: علم المتنمرين درسا، وحرر الفتاة من صمتها بتحطيم الأطباق الجديدة في المطبخ، وأعاد للفنان شيئا من مجده بأغنية قديمة بنسخة "ريمكس"، واحتوى نوبات الغضب بالحوار والمشاركة.
هوية مزدوجة ومفارقات اجتماعيةلم تكن المصادفات وحدها من تحكمت في مجرى الأحداث، فمع تقدم الحلقات، يجد هزاع نفسه غارقا في تحديات تتجاوز حدود المصادفة، تفرضها عليه الشخصية الجديدة التي انتحلها، والتي بات عليه إتقانها بإقناع وواقعية. وتتفاقم الأزمة حين يعود إلى المشهد شريك قديم من ماضيه، يلاحقه ويهدده بفضح سره، بل يسعى لجره مجددا إلى عالم السرقات، مما يضع هزاع في مواجهة مأزق أخلاقي يعصف بتوازنه: بين ماض حقيقي مثقل بالفشل والجرائم، وحاضر هش قائم على كذبة محكومة بالانكشاف.
في قلب هذا الصراع، يبني المسلسل حبكته على ثيمة "الهوية المزدوجة"، وهي إحدى أبرز الثيمات الدرامية الكلاسيكية، التي رأيناها في شخصيات شهيرة مثل بروس واين/باتمان أو في فيلم " السيد ريبلي الموهوب" (The Talented Mr. Ripley). لكن التناول هنا يكتسب طابعا محليا، إذ توظف هذه الثيمة لكشف التناقضات الطبقية والاجتماعية داخل المجتمع السعودي، من خلال المقارنة بين هزاع رجل الأمن البسيط وهزاع الطبيب النفسي الذي يتقمص شخصية النخبة. وكذلك بين أحياء الجنوب القديمة، التي تحتضن الطبقة الكادحة المنقطعة عن التعليم، وأحياء الشمال الحديثة، التي تمثل طبقة ميسورة أنهت تعليمها وضمنت لنفسها حياة أكثر استقرارا وراحة.
إعلان الحارس من الجنوب والطبيبة من الشماللم تقتصر المفارقة الطبقية على التباين بين شخصية هزاع الحقيقية وتلك التي انتحلها، بل تجسدت أيضا في شخصية الطبيبة الزميلة هدى سلطان (سمية رضا)، التي تقود سيارة حديثة، وتعيش في منزل أنيق بأحد أحياء شمال الرياض الراقية، حيث تحظى بحياة مستقرة ومثالية تجمع بين عمل مرموق ودخل مرتفع، بفضل تمكنها من إتمام تعليمها والوصول إلى مهنة تضمن لها المكانة والأمان.
في المقابل، يعيش هزاع في حي جنوبي متواضع، ويقود سيارة قديمة يركنها على هامش موقف المستشفى، تماما كما يعيش هو نفسه على هامش الحياة، محاطا بإحساس مستمر بالتفاوت الطبقي والانتماء المختلف.
وفي أحد مشاهد المسلسل، توضح شقيقة هزاع للطبيبة هدى أن سبب استمرارهم في السكن بالحي الجنوبي لا يعود لاضطرار اقتصادي، بل لأن والدتهم مرتبطة عاطفيا بالمكان، رغم امتلاك العائلة لمنزل أفضل في الشمال، في إشارة رمزية إلى أن الانتماء أحيانا خيار، لا مجرد انعكاس لظروف المعيشة.
على المستوى البصري، نجح الهليل في إبراز المفارقة الطبقية بذكاء، بدءا من الملصق الدعائي الذي يظهر هزاع الحارس مرتديا جلبابا بسيطا، مع شماغ ملفوف بشكل عشوائي، في مقابل هزاع الطبيب الذي يرتدي ثوبا أبيض رسميا، وغطاء رأس منسقا يثبّته عقال أنيق. وتمتد هذه المفارقة البصرية إلى تفاصيل البيئات التي تدور فيها الأحداث، حيث نرى الفرق الواضح بين منزل الطبيبة هدى ومنزل هزاع، من الداخل والخارج، وكذلك بين الأحياء: الشوارع الواسعة والنظيفة للأحياء الشمالية المنظمة، مقابل الأحياء الجنوبية الأقدم ذات الطابع الشعبي، والمقاهي التقليدية في الجنوب مقابل "الكافيهات" العصرية في الشمال.
الفوارق الاجتماعية واضحة في كل مشهد، لكن الرسالة الأبرز التي يُمررها العمل تكمن في أن التعليم يظل الوسيلة الأهم للارتقاء الطبقي، ولبناء مستقبل أفضل لمن يملك الطموح والقدرة على السعي.
إعلان