كشف الستار عن حالة ظَفَارِ للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (33)
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
تحقيق: ناصر أبوعون
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(ذِكْرُ قُضَاةِ ظَفَار. وَإِنَّا نَقُوْلُ لَا يُوْجَدُ بِظَفَار فَقِيْهٌ ذُو مَعْرِفَةٍ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ وَكَانَ الْقَاضِي بِهَا السَّيِّدُ أَحْمَدُ الْقَشَاشِيُّ، وَمِنْ غَرَائِبِه أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ زَوْجَتَه ثَلاثًا بِحَضْرَةِ شُهُوْدٍ.
فَلَمَّا خَرَجَتْ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ تَزَوَّجَتْ بِآخَرَ، وَظَلَّتْ عِنْدَهُ مُدَّةً، ثُمَّ فَارَقَهَا، وَاعْتَدَّتْ مِنْهُ أَيْضَا فَخَطَبَهَا رَجُلٌ آخَرَ بَعْدَ اِنْقِضَاءِ عِدَّتَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُطّلِّقٌ الْأَوَّلُ جَاء إِلَى الْقَاضِي بِمَسْأَلَةٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَقَالَ: (إِنِّي نَوَيْتُ بِطَلَاقِي ذَلِكَ اِسْمَ اِمْرَأَةٍ بِالْجَبَلِ اِسْمُهَا كَاسْمِ الْمَرْأَةِ وَاسْمِ أَبِيْهَا كَاسْمِ أَبْيْهَا). فَقَال لَهُ الْقَاضِي: هَذَا الطَّلَاُق غَيْرُ وَاقِعٍ. فَجَاءَ وَالِدُ الْمَرْأَةِ مُتَعَجِّبًا مِنْ هَذِهِ الْفَتْوَى إِلَى الْحِصْنِ فَتَعَجَّبْنَا مِنْ ذَلِكَ وَقُلْنَا لَهُ: إِنَّ هَذَا الطَّلَاقَ وَاقِعٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَاطِبًا مِنَ الخُطَّابِ. إِذْ غَيْرُ مَقْبُولٍ نَقْلًا وَعَقْلًا أَنْ يُطَلِّقَ رَجُلٌ غَيْرَ اِمْرَأَتِهِ، وَلَا يَعْتِقَ غَيْرَ عَبْدِهِ بِلَا أَمْرٍ أَوْ تَوْكِيْلٍ، وَلَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ تَزَوَّجَتِ الزَّوْجَ الثَّانِيَ وَطَلَّقَهَا. فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ اِسْتَدْعَى قَاضِيًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ لِيُوَلّيَهُ قَضَاءَ ظَفَار. فَوَفَدَ إِلَيهِ الشَّيْخُ سَعِيْدٍ بنِ مُحَمَّدٍ اليَافِعِيّ - وَنِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ- فَإِنَّهُ مِنَ الْفِقْهِ وِالْحِفْظِ لِلْحَدِيْثِ بِمَكَانٍ)].
حالة القضاء في ظفار
قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [(ذِكْرُ قُضَاةِ ظَفَار. وَإِنَّا نَقُوْلُ لَا يُوْجَدُ بِظَفَار فَقِيْهٌ ذُو مَعْرِفَةٍ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ)].
وقول الطائي:(ذِكْرُ قُضَاةِ ظَفَار)، أي فصلٌ في (حالة القضاء في ظَفار) قضاة، جمعٌ ومفرده (قاضٍ)، وهو الذي يحكم بين الناس، ويفصل في الخصومات، ودلّ عليه حديث عبدالله بن عمرو، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «إذا قَضَى القاضي فاجتَهَدَ فأصابَ فلَهُ عشرةُ أجورٍ، وإذا اجتَهَدَ فأخطأَ كانَ لَهُ أجرٌ أو أجرانِ»(01). وقول الطائي: [(لَا يُوْجَدُ بِظَفَار فَقِيْهٌ)]، أي في هذا الزمان، وليس النفي بالكلية في سائر الأزمنة. وقوله: (فَقِيْهٌ) صفة مشبّهة، والجمع (فُقَهاء)، وهو مصطلح متداول في (علم أصول الفقه. ومعناه: العالمون بأصول الشرع، ومقاصده، القادرون على استنباط أحكامه وحِكَمه. ودلَّ عليه حديثه (صلى الله عليه وسلم): «نضَّرَ اللَّهُ عبدًا سمِعَ مَقالَتي، فحفِظَها ووَعاها وأدَّاها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ مِنهُ»(02). وقوله: [(ذُو مَعْرِفَةٍ)]، (ذُو) تأتي على معنيين، أمّا الأول، كما في هذا الموضع من الفقرة، فهي اسم من الأسماء الستة (أب، وأخ، وحم، وفُو، وهَنُ، وذُو بمعنى صاحب)، وتُعرب بالواو رفعًا، وبالألف نصبًا، وبالياء جرًّا على المشهور، وتعرب بالحركات على القلّة، وجمعها (ذَوو)، ومن شواهد مجيئها بمعنى صاحب بيت منسوب إلى مالك بن فهم الأزديّ:
نَضْمَنُ لِلْجَارِ مَا أَقَامَ بِنَا // رَيْبَ الْمَنَايَا، وَالدَّهْرُ(ذُو) رِيَبِ (03)
وأمّا المعنى الثاني لـ(ذُو) فتأتي اسمًا موصولا، يستوي فيها المذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والجمع، وتُسمّى بـ(ذُو الطائيّة)، وشاهدها نقرأه في بيت شعر (عارق الطائيّ):
لَئِنْ لَمْ يُغَيِّرْ بَعْضُ مَا قَدْ صَنَعْتُمُ // لَأَنْتَحِيَنْ لِلعَظْمِ (ذُو) أَنَا عَارِقُهْ (04)
وقول الطائيّ: [(فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ)] ذكر فيه اللغويون أنّ (فَضْلًا عَنْ) تُستعمل بين كلامين متغايري المعنى، حيث يُسْتَبْعَدُ فيه الأدنى الذي يأتي قبلها. وأكثر استعمالها بعد نفي. وقد نُقِل عن أبي حيان التوحيديّ قوله: إن استعمال (بَلْه) موضع (فضلَا عن) أبلغ، ومثال ذلك: (فلان لا يملك أن يشتري كتابًا بلْه ورقة)(05)
من غرائب الفتاوى في ظفار
قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [(وَكَانَ الْقَاضِي بِهَا السَّيِّدُ أَحْمَدُ الْقَشَاشِيُّ، وَمِنْ غَرَائِبِه أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ زَوْجَتَه ثَلاثًا بِحَضْرَةِ شُهُوْدٍ. فَلَمَّا خَرَجَتْ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ تَزَوَّجَتْ بِآخَرَ، وَظَلَّتْ عِنْدَهُ مُدَّةً، ثُمَّ فَارَقَهَا، وَاعْتَدَّتْ مِنْهُ أَيْضَا فَخَطَبَهَا رَجُلٌ آخَرَ بَعْدَ اِنْقِضَاءِ عِدَّتَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُطّلِّقٌ الْأَوَّلُ جَاء إِلَى الْقَاضِي بِمَسْأَلَةٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَقَالَ:(إِنِّي نَوَيْتُ بِطَلَاقِي ذَلِكَ اِسْمَ اِمْرَأَةٍ بِالْجَبَلِ اِسْمُهَا كَاسْمِ الْمَرْأَةِ وَاسْمِ أَبِيْهَا كَاسْمِ أَبْيْهَا). فَقَال لَهُ الْقَاضِي: هَذَا الطَّلَاُق غَيْرُ وَاقِعٍ)]. وقول الطائيّ: [(وَكَانَ الْقَاضِي بِهَا الْقَاضِي السَّيِّدُ أَحْمَدُ الْقَشَاشِيُّ)] إشارة إلى أن القشاشيّ كان قاضيا في ظفار وقتَ وصول السلطان تيمور بن فيصل إليها وهو: الشيخ أحمد بن علي بن عمر القشاشي باعمر قاضي ظفار، الذي كان قائمًا على رعاية أوقاف ظفار لمدة يسيرة، ثم أسند السلطان تيمور أعمال الوقف والقضاء من بعده، للشيخ الحضرميّ (سَعِيْدٍ بنِ مُحَمَّدٍ اليَافِعِيّ)، وَ[(مِنْ غَرَائِبِه)]، أي من غرائب فتاوى (القشاشيّ)، والغرائب كلُّ حُكْم أو فُتْيا لا سندَ لها. وجاء في المعجم الوسيط:(أغرب في كلامه): أتى بالغريب البعيد عن الفهم(06) [(أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ زَوْجَتَه ثَلاثًا بِحَضْرَةِ شُهُوْدٍ)].(طَلَّقَ)، أي: حَلّ عقد النِّكاح بلفظ (الطلاق) أو نحوه(07) (ثَلاثًا)، دلّ عليه ما رواه مجاهد بن جبير:(كنتُ عندَ ابنِ عبَّاسٍ فجاءَهُ رجلٌ فقالَ إنَّهُ طلَّقَ امرأتَهُ ثلاثًا قالَ فسَكتَ حتَّى ظننتُ أنَّهُ رادُّها إليْهِ، ثمَّ قالَ ينطلقُ أحدُكم فيرْكبُ الحُموقةَ ثمَّ يقولُ يا ابنَ عبَّاسٍ يا ابنَ عبَّاسٍ وإنَّ اللَّهَ قالَ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وإنَّكَ لم تتَّقِ اللَّهَ فلم أجد لَكَ مخرجًا عصيتَ ربَّكَ وبانت منْكَ امرأتُكَ وإنَّ اللَّهَ قالَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قُبُلِ عدَّتِهنَّ})(08)[(فَلَمَّا خَرَجَتْ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ)]. و(عِدَّةِ الطَّلَاقِ)، العدد والمقدار، وهي مدة معلومة حدّدها الشرع، تنتظرها المرأة بعد طلاقها أو وفاة زوجها، حتى يزول النكاح. لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}(09)وَ[(تَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَظَلَّتْ عِنْدَهُ مُدَّةً)]ثُمَّ (فَارَقَهَا)، أي فارقها بالطلاق ونحوه، ولا يجوز إلى في (طُهْر)، ودلّ عليه قول عمر بن الخطاب مخاطبًا مَن قال(إنّه طلَّقَ امرأته البتّة وهي حائض): عصيتَ ربَّك، وفارقتَ امرأتك)(10) وَ[(اعْتَدَّتْ مِنْهُ)]، أي قضت المدة المعلومة التي حدَّدها الشرع، وقد فصل فيها سماحة الشيخ الخليليّ في (كتاب الفتاوى، ج2، 394) فقال:(إذا كانت المرأة ممن يحيض فعدّتها ثلاث حيضات ولا مانع أن يراجعها زوجها مالم تنته الحيضة الثالثة؛ لقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ}(سورة البقرة، الآية:228). وإن كانت حاملا فعدّتها إلى أن تضع حملها لقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ}(سورة الطلاق، الآية:4). وإن كانت آيسا (لا تحيض) فعدّتها ثلاثة أشهر، لقوله تعالى:{ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ}(سورة الطلاق، الآية:4). وإن توفي عنها زوجها فعدّتها أربعة أشهر وعشرا لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ}(سورة البقرة، الآية:234).وإن كانت حاملا فعدّتها تنتهي بوضع الحمل لحديث (توُفِّيَ زوجُ سُبَيْعةَ فولَدت بعدَ وفاةِ زوجِها بخَمسةَ عشرَ نِصفِ شَهْرٍ، قالت: فَخطبَها رجلانِ فحطَّت بنفسِها إلى أحدِهِما، فلمَّا خَشوا أن تفتاتَ بنفسِها، قالوا: إنَّكِ لا تَحلِّينَ، قالت: فانطلقتُ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: قد حلَلتِ فانكِحي مَن شئتِ)(11) [(فَخَطَبَهَا رَجُلٌ آخَرَ بَعْدَ اِنْقِضَاءِ عِدَّتَهَا)](خَطَبَهَا رَجُلٌ آخَرَ)، فعلٌ مصدره (الخِطْبَة)، وخِطبَة المرأة طلبُ الزواج منها. ودلّ عليه قول ماوية بنت عَفْزر: (مَا الَّذِي جَرَأَكَ عَلَى "خِطْبَتِي")(12) [(فَلَمَّا سَمِعَ الْمُطّلِّقٌ الْأَوَّلُ جَاء إِلَى الْقَاضِي بِمَسْأَلَةٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ)](الْمُطّلِّقٌ الْأَوَّلُ) أي الذي تزوّجها أول مرة (جَاء إِلَى الْقَاضِي) الشيخ (أحمد القشاشيّ) [(بِمَسْأَلَةٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ)](بِمَسْأَلَةٍ / الْمَسْأَلَةِ) مُحسِّنٌ لفظي، نوعه: جناس تامٌ؛ اتفق فيه اللفظان المتجانسان في أربعة أشياء:(نوع الحروف)، و(عددها)، و(هيئآتها) الحاصلة من الحركات والسكنات، و(ترتيبها) واختلافا في المعنى. فقوله:(جَاء بِمَسْأَلَةٍ/الأولى) معناها: السؤال والاستفسار، و(عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ/الثانية) بمعنى: القضية أو الفتوى أو الحُكم الشرعيّ الذي حكم بها القاضي أحمد القشاشيّ. فَقَالَ: (الْمُطّلِّقٌ الْأَوَّلُ) له: [(إِنِّي نَوَيْتُ بِطَلَاقِي ذَلِكَ اِسْمَ اِمْرَأَةٍ بِالْجَبَلِ اِسْمُهَا كَاسْمِ الْمَرْأَةِ وَاسْمِ أَبِيْهَا كَاسْمِ أَبْيْهَا)] (نَوَيْتُ بِطَلَاقِي) من (النِّيّة)، ومعناها: ما يعقد عليه الشخص قلبه من خيرٍ أو شرٍّ. و(النِّيّة في الكلام): تقدير ما أُضْمِرَ منه ولم يُذكَر. و(النِّيّة في الفِقْهِ) انبعاث القلب بقصد تمييز العبادات بعضها عن بعض، أو تمييز العبادات من العادات، أو تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره؛ لحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) برواية عمر بن الخطاب:(إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ ومن كانت هجرتُهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينْكحُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْهِ)(13). و(نِيّة القصد بالطلاق) هي المعوّل عليها في وقوعه بأي لفظٍ خرج من فيه الرجل. ودليل ذلك ما رواه الإمام مَالِك، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ (كُتِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الْعِرَاقِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى عَامِلِهِ: أَنْ مُرْهُ يُوَافِينِي بِمَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ. فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، إِذْ لَقِيَهُ الرَّجُلُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ الرَجُل: أَنَا الَّذِي أَمَرْتَ أَنْ أُجْلَبَ عَلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ، مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَوِ اسْتَحْلَفْتَنِي فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ، مَا صَدَقْتُكَ؟ أَرَدْتُ بِذَلِكَ الْفِرَاقَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ مَا أَرَدْتَ)(14)،وفي المحيط(لو قال فلانة طالق ولم يسم باسمها إن نوى امرأته يقع وإلا فلا لأن فلانة اسم مشترك يتناول امرأته)، (ولو قال امرأتي عمرة أم ولدي هذه الجالسة طالق ولا نية له، والجالسة غيرها وليست بامرأته لم تطلق لأنه سماها وأشار، والعبرة للإشارة لا للتسمية)، وفي موضع آخر منها (رجل قال امرأته عمرة بنت صبيح طالق وامرأته عمرة بنت حفص ولا نية له لا تطلق امرأته)، ولو(قال طلقت امرأة ثلاثا وقال لم أعن به امرأتي يصدق)(15). (وعن أبي يوسف رحمه الله ممن قال: (عمرة بنت صبيح طالق وامرأته عمرة بنت حفص ولا نية له لم تطلق امرأته)(16) [(فَقَال لَهُ – أي (للمُطلِّق الأول)-الْقَاضِي- أي الشيخ أحمد القشاشيّ- قد أفتى بأنّ: [(هَذَا الطَّلَاُق غَيْرُ وَاقِعٍ)]، أي: ليس صحيحًا. [(فَجَاءَ وَالِدُ الْمَرْأَةِ مُتَعَجِّبًا مِنْ هَذِهِ الْفَتْوَى إِلَى الْحِصْنِ فَتَعَجَّبْنَا مِنْ ذَلِكَ)] (فَجَاءَ وَالِدُ الْمَرْأَةِ مُتَعَجِّبًا) أي سائلا عن صِحَة هذه (الْفَتْوَى) و(الفُتيا) و(الفُتْوى) و(الفَتْوى): ما أفتى به الفقيه، ويقال: أفتاه في المسألة إذا أجابه(17). وفي تفسير قوله تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}(سورة النساء: آية:١٢٧) قال عبد الحق بن عطية: "أي يبين لكم حكم ما سألتم(18)
طلاق الخاطب لا يقع على المخطوبة
[(وَقُلْنَا لَهُ: إِنَّ هَذَا الطَّلَاقَ وَاقِعٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَاطِبًا مِنَ الخُطَّابِ)]؛ فالطلاق لا يصحّ ولا يقع من الخاطب، لأنه لا عقد شرعيّ كامل الأركان باتفاق جميع المذاهب يجمعه بخطيبته ومصداقا لقوله: (صلى الله عليه وسلم):(لا طلاقَ قبلَ نكاحٍ ولا عتاقَ إلَّا بعدَ ملكٍ ولا وصالَ في صيامٍ ولا يُتمَ بعدَ احتلامٍ ولا رضاعَ بعدَ فطامٍ ولا صَمتَ يومٍ إلى اللَّيلِ)(19)لا يقَعُ الطَّلاقُ مِن أحَدٍ على امْرأةٍ أجْنَبيَّةٍ وليستْ زَوجتَه، (ولا عِتاقَ إلَّا بعدَ مِلْكٍ)، أي: لا يَعتِقُ رجُلٌ عَبدًا لغيرِه وهو ليس في مِلْكِه أو قبْلَ أنْ يَدخُلَ في مِلْكِه.
لا يُؤخذ بفَتْوى تخالف النقل والعقل
[(إِذْ غَيْرُ مَقْبُولٍ نَقْلًا وَعَقْلًا أَنْ يُطَلِّقَ رَجُلٌ غَيْرَ اِمْرَأَتِهِ، وَلَا يَعْتِقَ غَيْرَ عَبْدِهِ بِلَا أَمْرٍ أَوْ تَوْكِيْلٍ)].، فقول الطائيّ: [(غَيْرُ مَقْبُولٍ نَقْلًا وَعَقْلًا)] (نَقْلًا) أي من الكتاب والسنة: ويُقال لها: (الأدلة النقلية)، ويُقال لها: (الأدلة السمعية)، ويقال لها: (الأدلة الخبرية) و(الأدلة المأثورة)، وكلها بمعنى واحد، وهي الأدلة المسموعة المنقولة عن كتاب الله العزيز والسنة المطهرة أو الأدلة التي نقلها إلينا نقلة الحديث والرواة(20)وَ(عَقْلًا)،والعقل اصطلاحًا:(جوهر لطيف يُفْصَل به بين حقائق المعلومات، والعقل قوام كل فعل تتعلّق به مصلحة، فاختلاله مُؤدٍ إلى مفسدةٍ عُظمى، وبالعقل درك الأشياء وهو مناط التكليف)(21)، والعقل يشمل العقل الفطريّ الغريزيّ، والعقل الاستدلاليّ النظري الذي يكتسبه الإنسان ويستخدمه العلماء، وبمعنى أهم هو يشمل(البدهيّة والحِسّ، والفهم، والتفكير)(22)، والعلاقة بين (النقل والعقل) (علاقة تكامل مع مراعاة أنّ ثبوت الشرع بنفسه، والعقل ليس أصلا لثبوته، ولا ممعطيا له صفةً لم تكن له، ولا مفيدًا له صفة كمال)(23).
الطلاق يقع بالأمر والوكالة
وقول الطائي: [(غَيْرُ مَقْبُولٍ أَنْ يُطَلِّقَ رَجُلٌ غَيْرَ اِمْرَأَتِهِ بِلَا أَمْرٍ أَوْ تَوْكِيْلٍ)] (أَمْر) أي (أمر الرجل بطلاق زوجته)؛ فقد ورد (عن عبد الله بن عمر قال: كانت تحتِي امرأةٌ كنتُ أحبُها، وكان أبي يكرهُها، فأمرنِي بطلاقِها، فأبيتُ، فذكرَ ذلكَ عمرُ لرسولِ اللهِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا عبدَ اللهِ طلّقْهَا)(24)، أمّا(التوكيل بالطلاق) فمعناه توكيل الرجل غيره بطلاق زوجته نيابةً عنه. أن يقول الزوج للوكيل:(طلِّق زوجتي، أو وكَّلتُكَ في طلاق زوجتي، أو قد أَنَبْتُكَ في طلاق زوجتي. فيقول الوكيل: طلَّقتُ زوجة موكّلي ويسميها إنْ كان قد عيَّنها له، أو يواجهها به فيقول: قد طلّقتكِ نيابةً عن موكّلي، أو يقول: قد وكّلني فلان بطلاقكِ فأنتِ طالق)(25)
اليافعي قاضيا في ظَفار
قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [(فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ اِسْتَدْعَى قَاضِيًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ لِيُوَلّيَهُ قَضَاءَ ظَفَار. فَوَفَدَ إِلَيهِ الشَّيْخُ سَعِيْدٍ بنِ مُحَمَّدٍ اليَافِعِيّ - وَنِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ- فَإِنَّهُ مِنَ الْفِقْهِ وِالْحِفْظِ لِلْحَدِيْثِ بِمَكَانٍ)].
[(فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ(تيمور) بِذَلِكَ(أي علم بفتوى القشاشيّ التي لا تصحّ نقلا أو عقلا التي قضى فيها بعودة امرأة لزوجها الأول بعد أن تزوجت بعده رجلين وفارقاها بالطلاق [(اِسْتَدْعَى قَاضِيًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ)].(اِسْتَدْعَى قَاضِيًا) فعلٌ مُتعدٍ معناه: طلبه واستحضره، ودلّ عليه قول زياد ابن أبيه "إّما يَكْفرُ النِّعَمَ، ويَسْتَدْعي النِّقَم، مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَه، وسَعَى في الأرضِ فَسَادً"(26).[(مِنْ حَضْرَمَوْت)] "اسم عِبْري معناه "قرية الموت" أو "دار الموت"، وهو اسم جماعة من القحطانيين (الابن الثالث من أبناء قحطان بن عابر من نسل سام بن نوح (27)"وتقع في جنوب شبه الجزيرة ولاتزال تُسَمَّى بهذا الاسم، وهذه المنطقة موطن حضارة كبيرة بلغت ذروتها في نحو القرن الخامس قبل الميلاد وامتدت إلى القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وكانت لها تجارة واسعة مع الهند وبلاد شرقي أفريقيا، وكانت عاصمتها شبام"(28).[(لِيُوَلّيَهُ قَضَاءَ ظَفَار)] (يُوَلّيَهُ) يُقَلِّده، ويعيّنه قاضيا على إقليم ظَفار ومُدَبِّر أوقافها. ودلّ عليه قول حصن بن حُذيفة الفزاريّ:
(وَلُّوا) عُيَيْنةَ مِنْ بَعْدِي، أُمُوْرَكُمُ |
| وَاِسْتَيْقِنُوا أَنَّه بَعْدِي لَكُمْ حَامِ(29) |
[(فَوَفَدَ)] (قَدِمَ) إلى السلطان تيمور من حضرموت إلى ظفار. ودلَّ على معناه قول خمعة بنت الخُسّ الإياديّة، وقد سُئِلت عن أحبِّ الرجالِ إليها:(الْقَرِيْبُ الْأَمَد، الْوَاسِعُ الْبَلَد، الَّذِي يُوْفَدُ إِلَيْهِ وَلَا يَفِد)(30) [(الشَّيْخُ سَعِيْدٍ بنِ مُحَمَّدٍ اليَافِعِيّ)، وهو سعيد بن محمد جابر الأحمدي القعيطي اليافعي الشافعي(ت،1360هـ)، وُلِد ونشأ في بلاد يافع باليمن وتعلّم العلوم الشرعية على بعض فقهائها، ثم رحل إلى (حضرموت) وقرأ على فقهاء الشافعية من الأشراف، وكان ينسخ من مصنفاتهم ما يحتاجه في طلبه للعلم. ومن ثَمّ نزل الشيخ سعيد مدينة (المكلا) ولازم فيها الشيخ عبد الله بن أحمد الرواف النجدّي الحنبليّ أيام كونه قاضيا بها حيث تأثر به كثيرا لاسيما في تقرير التوحيد والدفاع عن العقيدة مع الاعتبار بفقه الدليل وتخرّج به. وفي أواخر عام 1337هـ رحل الشيخ سعيد إلى (ظَفار عُمان) بطلب من السلطان تيمور بن فيصل لتولّي القضاء خلفًا للشريف أحمد بن علوي بن حسن عيديد الشافعيّ. وكان الشيخ سعيد يستغل أوقات فراغه في التدريس حيث عقد الدروس العلمية في أحد المساجد بصلالة فقرأ عليه العديد من الطلبة في الفقه والحديث منهم الشريف سالم بن عبد الله الذهب الشافعيّ وغيره. وقد أُعجب الشيخ سعيد بظفار حيث استقرّ بها وتزوج فيها، واستمر في نشاطه الدعويّ حتى وفاته والتي كانت في أجواء عام 1360هـ)(31) [(وَنِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ)][(فَإِنَّهُ مِنَ الْفِقْهِ وِالْحِفْظِ لِلْحَدِيْثِ بِمَكَانٍ)].
.............
المراجع والمصادر
([01]) مسند أحمد تحقيق شاكر، رقم الحديث أو الصفحة: 11/34 - أخرجه أحمد (6755) واللفظ له، والطبراني في (المعجم الأوسط) (8988)
([02]) الراوي: عبدالله بن مسعود، المحدث: شعيب الأرناؤوط، المصدر: تخريج سير أعلام النبلاء، الصفحة أو الرقم: 14/ 211، خلاصة حكم المحدث: صحيح، التخريج: أخرجه الترمذي (2658) مطولاً باختلاف يسير، وابن ماجه (232) بنحوه مختصراً، والبيهقي في (معرفة السنن والآثار) (44) مطولاً واللفظ له.
([03]) شعراء عمان في الجاهلية وصدر الإسلام، جمع وتحقيق: أحمد محمد عبيد، المجمع الثقافي، أبوظبي، 2000م، ص: 80
([04]) شعر طيء وأخبارها في الجاهلية والإسلام، جمع وتحقيق ودراسة: وفاء فهمي السنديوني، دار العلوم، الرياض، ط1، 1983م، ص: 418
([05]) معجم الأخطاء الشائعة، محمد العدناني، مكتبة لبنان ناشرون، ط2، 1997م، ص:195/نظرات في أخطاء المنشئين 2، محمد جعفر الكرباسيّ، مطبعة الآداب، النجف، 1983م، ص: 147/معجم الصواب اللغوي، أحمد مختار عمر(فضلا عن 3842)، ج1، عالم الكتب، ط1، 2008م ص:578
([06]) المعجم الوسيط مادة (غرب) 3/647، مجمع اللغة العربية، القاهرة، إبراهيم مصطفى وآخرون.
([07]) النجم الوهاج 7/479- فتح الوهاب 21/87
([08]) الراوي: مجاهد بن جبر المكي، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح أبي داود، الصفحة أو الرقم: 2197، خلاصة حكم المحدث: صحيح، أخرجه أبو داود (2197) واللفظ له، والنسائي (3393) مختصراً
([09]) سورة الأحزاب، الآية: 49
([10]) السنن الكبرى، أبو بكر البيهقيّ (ت، 458هـ)، تحقيق: مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، القاهرة، ط1، 2011م، 15/243
([11]) الراوي: أم سلمة أم المؤمنين، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح النسائي، الصفحة أو الرقم : 3509، خلاصة حكم المحدث: صحيح
([12]) الأخبار في الموفقيات، الزبير بن بكار القرشي(ت، 256هـ)، تحقيق: سامي مكي العاني، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1996م، ص: 349
([13]) الراوي، عمر بن الخطاب، المحدث: ابن تيمية، المصدر: مجموع الفتاوى، الصفحة أو الرقم: 20/223 ، خلاصة حكم المحدث: صحيح
([14]) كتاب الموطأ، رقم: 1726.
([15]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم زين الدين بن إبراهيم بن محمد، دار الكتاب الإسلامي، ط2 : د.ت، كتاب الطلاق، باب ألفظ الطلاق، ج3، ص: 272
([16]) المحيط البرهاني في الفقه النعماني، فقه الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، برهان الدين أبو المعالي محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مَازَةَ البخاري الحنفي (ت ٦١٦ هـ)، تحقيق: عبد الكريم سامي الجندي، ط1، كتاب الطلاق، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 2004م ص: 12- 81،
([17]) قال في المحكم: "وهو الجاري على القياس" مواهب الجليل للخطاب: ١/ ٣٢
([18])المحرر الوجيز: ٤/ ٢٦٧
([19]) الراوي: علي بن أبي طالب، المحدث: ابن حجر العسقلاني، المصدر: هداية الرواة، الصفحة أوالرقم: 3/309، خلاصة حكم المحدث: [حسن].
([20]) العقل والنقل عند ابن رشد، أبو أحمد محمد أمان بن علي جامي علي (ت ١٤١٥هـ)، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة: السنة الحادية عشرة - العدد الأول - غرة رمضان ١٣٩٨هـ/١٩٧٨م، ص: 78
([21]) الفارابي، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 5/1769، الناشر: دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1987م
([22]) البحر المحيط في أصول الفقه 1/121
([23]) درء تعارض العقل والنقل 1/88
([24]) الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث، البغوي، المصدر: شرح السنة، الصفحة أو الرقم : 5/140، خلاصة حكم المحدث: حسن، أخرجه الترمذي (1189) باختلاف يسير، وأخرجه أبو داود (5138)، وابن ماجه (2088) بنحوه.
([25]) المطلع على دقائق زاد المُسْتَقْنع 3/50-51
([26]) شرح نهج البلاغة، ابن الحديد(ت، 656هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكُتب العربيّة، القاهرة، ط2، 1967م، 16/183
([27]) سِفر التكوين 10: 26؛ 1 أخبار 1: 20
([28])Hazarmaveth son of Joktan - from The Nuremberg Chronicle, book by Hartmann Schedel, 1493
([29]) شعر قبيلة ذبيان في الجاهلية، جمع وتحقيق ودراسة: عبد الله السويدي، مطبوعات جامعة قطر، الدوحة، 1987م، ص: 318
([30]) البيان والتبيين، الجاحظ، (ت، 255هـ)، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، مطبعة المدنيّ، القاهرة، ط7، 1998م، 1/312
([31]) انظر: التاج المرصع في سير أعلام عمان من مذاهب الأربع ، أحمد بن محمد بن مبارك الخطيب، ج1، ط1مكتبة الورّاق، 2019م- معجم القضاة العمانيون، د. عبد الله السيابي، ج1، ط1، مكتبة خزائن الآثار، بركاء، سلطنة عمان 2017م، ص: 365
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رؤية قرآنية تصنع أمة مجاهدة لا تخاف الموت .. الشهادة والشهداء في فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)
في زمن تتقاذف فيه الأمة موجات الهزيمة النفسية والضعف الروحي، برز الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) كمفكر ومجاهدٍ فريد، أعاد للأمة الإسلامية قيم العزة، والوعي، والاستعداد للتضحية. وفي قلب مشروعه القرآني المتجدد، تأتي الشهادة وقضية الشهداء كأحد أهم مرتكزات بناء الإنسان القرآني.يمانيون / تقرير/ طارق الحمامي
لم ينظر الشهيد القائد إلى الشهادة كمجرد “حدث” أو “نهاية”، بل قدّم رؤية متكاملة تجعل منها أسمى طموح الإنسان المؤمن، ووسيلة لبناء الأمة وتحقيق الانتصار الحقيقي.
الشهادة .. إلغاء لمفهوم الموت وبناء لروح الحياة
يبدأ الشهيد القائد حديثه عن الشهادة من أساس قرآني متين، حيث ينسف المفهوم التقليدي للموت في سبيل الله، منطلقاً من قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وفي شرح الشهيد القائد، يُلغى الموت من قاموس المجاهد، لا يُنظر إلى الشهيد كميت، بل كحيّ عند ربه، في كرامة دائمة وفضل إلهي عظيم، ليس ذلك فقط، بل إن إلغاء الموت هو وسيلة لدفع المؤمن نحو ميادين التضحية بدون تردد، حيث قال رضوان الله عليه : أن تخوفه بالقتل، فبماذا تخوفه؟ هو مجاهد يبحث عن الشهادة.
أعزة على الكافرين .. العزة التي تُترجم إلى مواقف
يبرز الشهيد القائد النموذج القرآني للمجاهد ، القويٌّ في وجه الأعداء، الرقيق والعطوف مع إخوانه، المتحرّك بنَفَس إيماني دون تردد أو تسويف، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، العزة هنا ليست صفة تجمّل الخطاب فقط، بل سلوك عملي وموقف سياسي وعسكري، يجعل من المجاهد إنسانًا رافضًا للخضوع، ينطلق بذاته وماله قبل أن يُطلب منه، وليس ممن “يثاقل إلى الأرض” أو “ينتظر من يدفعه”.
الشهداء صفوة مختارة والشهادة فضل من الله
الشهداء في رؤية الشهيد القائد ، هم صفوة اختارهم الله واصطفاهم الله، ومنحهم كرامة التفضيل، فهم من اختارهم الله ليمثلوا مشروعه في الأرض، ليكونوا البديل عن القاعدين والمثبطين، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}
أليس هذا اصطفاء من جانب الله لهم؟ تفضيل من الله أن اختارهم هم؟ ، هم الذين آمنوا بحقيقة أن الجهاد مهمة ربانية لا تُؤدى من باب التسلية أو المصلحة، بل استجابة خالصة لله، واستعداد للتضحية بالنفس والمال دون مقابل دنيوي.
المجاهدون لا يُشترون .. تفكيك ظاهرة الارتزاق
الشهيد القائد يفصل بوضوح بين المجاهد الصادق، وذلك المرتزق الذي يتحرك لأجل السلاح أو المال أو المصالح، وفي معرض نقده لظواهر الاستغلال التي رافقت بعض المعارك السابقة، يُبرز أن المجاهد الحقيقي لا ينتظر بندقًا أو صرفة: ما كانوا يوم ملكي ويوم جمهوري؟ مرة هنا ومرة هناك .. هؤلاء متعيشين، مرتزقة،
بينما المجاهد الحق كما يؤكد رضوان الله عليه ، ينطلق بنفسه وماله، بدافع الإيمان، وبهدف واحد، وهو نُصرة دين الله، ونيل إحدى الحسنيين ، النصر أو الشهادة.
ثقافة الشهادة .. صناعة أمة لا تُهزم
في فكر الشهيد القائد، الشهادة مشروع نهضوي، الأمة التي تحب الشهادة وتستعد لها، أمة لا تُهزم، والشهادة تصنع وعيًا، وتزيل الخوف، وتُربّي الإنسان على العزة والكرامة، وهو يرفض تصوير الشهيد كضحية، بل يؤكد أنه صاحب فضل، فائز، حاز على أرفع درجات الاصطفاء، هم ممن حازوا هذا الفضل العظيم .. هم مفلحون، فائزون، وليسوا متورطين.
الشهادة حياة وبعث لا نهاية
واحدة من أعمق أفكار الشهيد القائد التصويرية ، أن الشهيد لا يموت كما يموت الآخرون، بل ينتقل، االمجاهد لن يموت كما يموت الآخرون .. روحه تنتقل من بذلة لتعود إلى جسم آخر، كما تخلع الثوب وتلبس غيره.
هذا التشبيه يُبرز أن الحياة الحقيقية للإنسان تبدأ بعد الشهادة، وأن الموت لم يعد تهديدًا للمجاهد، بل أملًا ومقصودًا يُطمح إليه.
الشهادة قمة في الاستسلام الواعي والطوعي للهفي فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)، لم تكن الشهادة مجرد خاتمة بطولية، بل تتويجًا لمسارٍ إيمانيٍّ شامل، يبدأ من لحظة وعي الإنسان بمسؤوليته أمام الله، وتُعد الآية الكريمة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، مفتاحًا لفهم هذا المسار، فهو ينبه إلى أن الصلاة والنسك هما مقدمة لمسارٍ أشمل، يتمثل في أن الحياة والموت نفسيهما يجب أن يكونا لله، أي أن المؤمن لا يكتفي بأداء شعائر ظاهرية، بل يحوّل حياته كلها إلى ميدان عبادة، وموته إلى ختام لتلك العبادة، عبر السعي الواعي نحو الشهادة في سبيل الله.
ولذلك علّق الشهيد القائد قائلاً: لا يصح أن يُقال أمرت أن تكون حياتي بيد الله، لأن هذه قضية حتمية، لكن أمرت أن تكون حياتي لله، ومماتي لله، وهذا لا يكون إلا بجهاد، وسعي للشهادة.
الشهادة .. أعظم استثمار للموت
يرى الشهيد القائد أن الله برحمته الواسعة فتح أمام الإنسان فرصة استثمار الموت، الذي هو حتميٌّ لكل البشر، بحيث لا يكون الموت مجرد نهاية، بل وسيلة للفوز بالرضوان الإلهي والخلود في الجنة، (عندما يكون لدى الإنسان هذا الشعور: نذر حياته لله ونذر موته لله، فهو فعلاً من استثمر حياته، واستثمر موته) ، وهذا الشعور كما يؤكد رضوان الله عليه ليس حالة استثنائية، بل هو سمة أصيلة للمؤمنين الحقيقيين الذين باعوا أنفسهم لله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾
الإمام علي عليه السلام نموذجًا .. فزت ورب الكعبة
استلهم الشهيد القائد من سيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مثالًا على أرقى مشاعر نذر النفس لله، حين بُشّر بالشهادة، فلم يهتم إلا بسلامة دينه: ((يا رسول الله، أفي سلامة من ديني؟ قال: نعم. قال: إذن لا أبالي)).
رسالة عظيمة يُطلقها الإمام علي عليه السلام، إن الشهادة مقبولة ومحبوبة إذا كانت في سبيل الله وبحفظ الدين، هذه المشاعر لا تنبع من ضعف، بل من قوة إيمانية تدفع الإنسان لتجاوز غريزة التعلق بالدنيا، وجعل سلامة الدين فوق كل اعتبار.
حضور النموذج الجهادي وأثره في غرس ثقافة الشهادة
ينبّه الشهيد القائد إلى خطر تغييب الرموز الجهادية، وتغليب المشاهد العاطفية المنزوعة من روح البطولة، فيقول منتقدًا الاكتفاء بترديد أسماء مثل محمد الدرة فقط، دون إبراز القادة المجاهدين كعباس الموسوي ويحيى عياش: لأول مرة أسمع أنشودة لم تعجبني إطلاقًا .. نحتاج إلى أن ننشد للأبطال الذين سقطوا في ساحة المواجهة.
ويشدد على أن الرموز الجهادية تصنع وعيًا، تلهم نفوس الناس روح الفداء، وتُبقي ثقافة الشهادة حيّة، أما التركيز على مآسي عاطفية دون ربطها بسياق المواجهة والجهاد، فيفرغ القضية من جوهرها.
الشهادة ..عنوان الأمة التي تنصر الله
يعمق الشهيد القائد في هذا المحور الإدراك بأن الأمة التي لا تُنذر أبناءها لله، لا يمكن أن تكون أمة ناهضة، أمة تنشد الأمن دون تضحية، وتطلب العزة دون دماء، لن تنتصر، (ولا يمكن للمؤمنين أن يعلوا كلمة الله، ولا أن يكونوا أنصارًا لله، ما لم يكن لديهم هذا الشعور، أنهم نذروا حياتهم وموتهم لله)،
إن قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ﴾ في فكر الشهيد القائد هو بيان تكليف إلهي شامل، يجعل الشهادة ليست مجرد نتيجة بل غاية مقصودة، وسعي واعٍ ومحبوب لله، من يحمل هذا الوعي، يعيش لله ويموت لله، ويصنع من موته بوابة للحياة الأبدية.
الشهادة ضمانة للربح الحقيقي والخلاص الأبدي
يرى الشهيد القائد، أن الشهادة ، هي الضمانة الوحيدة للربح الأبدي، فالإنسان الذي يخشى الموت ويهرب منه هو في الواقع أقرب إلى الموت، لأنه يُضيّع الهدف، ويعيش بقلق، ثم يموت ميتة لا معنى لها، أما الشهيد، فقد كتب الله له الحياة الأبدية، (إذا كنت تكره الموت، فجاهد في سبيل الله، واطلب الشهادة، فبذلك فقط تُقهر الموت لا تهرب منه)، ويرى الشهيد القائد أن الآيات القرآنية لم تلغِ فقط خوف الموت، بل ألغت صفة الموت نفسها عن الشهداء: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، وهنا تصبح الشهادة بوابة للحياة لا للموت، وهي أرقى درجات الاستفادة من حقيقة حتمية لا مفر منها.
الشهادة في التربية النبوية والعترة الطاهرة
يشير الشهيد القائد إلى أن النموذج النبوي في التضحية كان قائماً على تقديم النبي صلوات الله عليه وآله ، لأهل بيته وأقاربه في مقدمة صفوف الجهاد، ابتداءً من غزوة بدر، حيث قاتل أقرباء النبي وذووه في مقدمة المواجهة، كما يشير إلى أن الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾، هي خطاب خاص لقرابة النبي صلى الله عليه وآله، تُلزمهم بالتفاني التام في سبيل الله، ومن هنا، فإن قضية الشهادة ليست فقط تكليفاً عاماً، بل هي رسالة آل البيت ومسؤوليتهم التاريخية، وفي المقابل، يجب على الأمة أن تفهم الدين فهماً مسؤولاً، بأن كل تكليف إلهي هو نعمة وليس عبئاً، ومن يسير على درب أهل البيت لن يرى في الجهاد إلا تشريفاً، لا مشقة.
خاتمة
إن فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه حول الشهادة ليس خطابًا عاطفيًا، بل بناء فكري عقائدي متكامل، يستمد قوته من القرآن، ويهدف إلى إنتاج أمة تتحرك بوعي وإرادة واستعداد للتضحية، وثقافة الشهادة كما طرحها ليست أداة موت، بل وسيلة حياة ونهضة، ووسام فضل إلهي يُختص به من يحملون همّ الأمة ويجاهدون في سبيل الله، وفي زمن الغربة والانحراف، ما أحوج الأمة اليوم إلى استعادة هذا الفهم الراقي للشهادة، لتكون كما أراد الله لها، {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}.
المصادر / محاضرات ودروس الشهيد القائد رضوان الله عليه