الجن فـي المرويات الدينية والثقافـية والشعبية والأسطورية، مكون رئيس من المعتقد العام لأغلب الشعوب، التي تحضر فـيها فكرة كائنات نورانية ونيرانية أو ترابية أو هوائية مفارقة لوجود البشر المخلوق من تراب، وفـي الآن ذاته هي مؤسسة لعالم مواز ينعم بخوارق تجاوز فعل البشر وتتعداه. فكرة الجن، هي فكرة عائمة، قائمة على أمرين رئيسين، الأمر الأول أسطوري به يمكن تفسير ظواهر تبدو فـي ظاهرها عجيبة وغريبة، ويعسر على الفكر البشري تلقيها وتقبلها، مثل النحت فـي الجبال أو مد الأفلاج أو بناء القصور المفرطة فـي الدقة فـي أزمنة شبه بدائية، والأمر الثاني هو رغبة الكائن البشري فـي إيجاد صوت قادر يحمل أمراضه وعقده ويلقى عليه عبء عجز الإنسان.
ودون الدخول فـي الحقيقة الدينية للجن، وهو ما تؤكده أغلب المنازع الدينية السماوية والأرضية، فإن الجن ثيمة حكائية وسيعة المجال، مولدة الحكايا، باعثة لممكنات قصصية لا نهاية لها، وهي -على غير ما تبدو عليه- ليست من العجائب والغرائب المفارقة لكون الإنسان، وإنما هي من باب العجائب والغرائب الداخلة فـي كون البشر، وقد استثمرها العرب بشكل لافت، وبنوا عليها قصصا مديدا، وأفاضوا فـيها السرد، تجاوزا للإشارات القرآنية واللمح النبوية، وإنما غلبت على قصص الجن حمولات الثقافة الشعبية الغالبة على الشعوب العربية فـي التفاعل مع عالم مواز له وجود فاعل فـي حياتهم، وبسبب من هذه الوفرة الحكائية ومن الثبات الاعتقادي، دخلت حكايات الجن مصنفات التاريخ ركنا مكينا أصيلا ثابت الوجود فـي حقائق المؤرخين، وقس على ذلك -على سبيل المثال- ما ذكره الطبري فـي تاريخه، وما ذكره ابن الأثير فـي كامل تاريخه من قصص الجن وتدخلهم فـي عالم البشر.
وقد صنعت أميرة الزين كتابا مهما فـي الغرض تحدثت فـيه عن الجن فـي الثقافة العربية وفـي أدبها، وقلبت الموضوع على أوجه عدة، وسمت كتابها «العرب، الإسلام، وعالم الجن الذكي»، Islam, Arabs, and the intelligent world of the jinn وهو كتاب باللغة الإنجليزية يتوجه أساسا إلى قارئ لا يعرف من عوالم العرب إلا ألف ليلة وليلة فـي الغالب الأعم، وينشد إلى عوالمها الخارقة، وإلى قصص بشرها وجنها، ولا يعرف من الإسلام إلا قمع المرأة ومحاصرة حريتها، وتوليده الإرهاب الذي صار لصيقا بالمسلمين مع الأسف، وكلنا صار يتابع بسخرية أن نداء «الله أكبر» أصبح مفزعا لعموم الغربيين، وكأن العبارة الدالة على إعلاء ذات الإله أصبحت عبارة مقرونة بالتفجير والتقتيل وإسالة الدماء، وهي مسألة لا تدعو إلى السخرية ولا إلى الهزء من أولئك الخائفـين من صوت المؤذن ولا الداعي إلى إعلاء كلمة الله، وإنما تدعو إلى الوقوف تأملا ونظرا فـي أبعاد هذه الفوبيا وطرق مقاومتها. عالم الجن، إذن هو عالم مرغب للغربيين، منفر للعرب، مخيف أحيانا، حتى أنه من باب المزاح عندما أخبرت صديقة مقربة مني ومن عالمي أني شرعت فـي إنجاز بحث عن الجن، قالت، استعن بالمعوذتين كل ليلة ولا تغفل عن ذلك.
لماذا نخاف من عالم الجن ونحن على أبواب الحديث عن الإنسانية المتحولة أو عن صور الإنسانية الخارقة أو عما بعد الإنسانية؟ لقد أثارت أميرة الزين فـي كتابها عمق التفاعل العربي مع عالم الجن، ومهدت لكتابها بمقدمة شاملة هامة أبانت فـيها انتشار الاعتقاد فـي الجن لدى أغلب الملل والأديان والمعتقدات وركزت من بعد ذلك على بيان «شعرية اللامرئي»، وقدرة الخيال الإسلامي على تمثل هذه المرجعيات اللامرئية التي يمكن أن تتواجد (وأقصد التواجد لا الوجود) فـي عالمين متباينين، عالم الشهادة وعالم الغيب، وتثير الدارسة جملة من الإشكاليات العميقة التي لم نتعود مقاربتها فـي موضوع الجن، مثل «الصلة بين الوحي والعرافة والجن»، أو جملة من التوازنات والمقارنات بين طبيعة البشر وطبيعة الجن وأواصر الصلة الجامعة بينهما فـي إيجاد عوامل واصلة بين العالمين المتفارقين، عالم الجن وعالم البشر، أو التعرض لجملة من الظواهر المؤسسة لفكرة الجن، مثل السحر أو التلبس والأشكال الحيوانية التي رسختها الثقافة الشعبية التي عليها يظهر الجن ويخرج من طينته ليتلبس حيوانا ما، ومن المواضيع المتكررة والمكثفة فـي سيرة الجن فـي الثقافة العربية الإسلامية علاقات الحب التي قد تنتهي إلى زواج بين الجن والإنس (وقد توسع الجاحظ فـي نكران ذلك، وهو العاقل)، وصلة الشعراء بالجن، وهو من المواضيع الجالبة الجاذبة لأخبار عديدة، توسعت فـيها مدونات عديدة، حتى أصبح التابع حقيقة، والجني الذي يقول الشعر على لسان البشر واقعا.
عالم الجن فـي الحكايات العربية يحتاج إلى نظر ورؤية تخرج عن دائرة الإثبات والنفـي إلى الوقوف على إدراك حاجة الإنسان إلى بناء عالم كامل للجن، مجتمع يوازي المجتمع البشري ويساويه، زواج وأبناء ودور وصلات، إيمان وكفر، شعر ونثر، تخيلا لعالم ممكن فـي الذهن العربي لكائن أمثل قادر على البقاء والإبقاء، قادر على الخفاء والجلاء، مالك لإمكان أفعال وصفات يصبو البشر إلى بلوغها، وقد قدمت لنا المرويات العربية عوالم تامة الكمال لعوالم الجن، يمكن أن نمثل عليها فحسب، بما ورد فـي كتاب عبيد بن شرية الجرهمي «أخبار عبيد بن شرية الجرهمي فـي أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها» يقول: «قال: ملك (الرائش) مائتي سنة وخمسا وعشرين سنة.
فقال (معاوية): فمن ملك بعده؟ قال (عبيد بن شرية): ابنه أبرهة بن الرائش -وكان يدعى ذا المنار- وكان من أجمل أهل زمانه، فعشقته امرأة من الجن -يقال لها العيوف- ويروى أنها الهيوف بنت الرابع فتزوجها، فولدت له العبد بن أبرهة»، وهو أمر دارج فـي أخبار العرب، لا يمثل حدثا مفارقا، ولذلك، فإن التداخل بين عالمي الجن والإنس فـي الموروث العربي ليس فعلا خارقا، ولا يدخل باب التجنيح التخيلي، وإنما هو فعل دارج، نابع من عقيدة وإيمان راسخين بتدخل الجن فـي عالم البشر، وبربط علاقات قد تبلغ درجة التزاوج، ولا غرابة أن مدينة مثل مأرب فـي اليمن، هي نسخة من مدينة للجن، وأن الهدهاد بن شرح بن شرحبيل تزوج من الجن، تزوج الحرورى ابنة اليلب، ملك من ملوك الجن، ومنهما كانت ابنتهما بلقيس صاحبة السيرة الشهيرة.
يثار اليوم موضوع الجن، وكما سلف أن ذكرنا، فنحن لا نهتم بالبعد الديني لمسألة الجن، ولكن عنايتنا به ثقافـية أنتروبولوجية، سردية، يثار موضوع الجن، ونحن فـي خضم إشكال فلسفـي وجودي حول نهاية الإنسان والإنسانية، ولعل العودة إلى الفـيلسوف الفرنسي لوك فـيري، وهو الناظر فـي أصول السعادة البشرية، الباحث عن علم الحياة، الناقد لتحول الإنسان إلى جهاز حاسوب، أن تعيننا على فهم هذه النهاية التي يبشر بها العلم، هي نهاية قاطعة مع حال من الإنسانية التي عاشها الإنسان منذ وجوده، وباعثة لما بعد الإنسانية، تحقيقا للإنسان الأكمل أو للإنسان الآلة، فهل سيكون الجن حاضرا فـي مخيلة الإنسان صاحب الذكاء الخارق، الخالي من المشاعر، لأن المشاعر هي علة من علل فشل الإنسان ومنعه من البقاء لفترة أطول، أو منعه من الخلود.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عالم الجن الجن فـی
إقرأ أيضاً:
إدارة الديون في عالم شديد التغير
من أهم ما أثير في المؤتمر الأخير لتمويل التنمية المستدامة الذي عُقد في مدينة إشبيلية الإسبانية الشهر الماضي قضية المديونية الدولية؛ التي كانت تعد أزمة صامتة يعاني من تبعاتها كثير من البلدان النامية. فنصف البلدان منخفضة الدخل إما تعاني بالفعل من ضوائق المديونية الخارجية، وإما تزداد أخطار تعرضها لمحنة سداد مديونيات تتجاوز طاقتها على السداد. ففي السنوات السبع الأخيرة ارتفعت تكلفة خدمة ديون البلدان ذات الأسواق الناشئة بمتوسط سنوي زاد على 12 في المائة سنوياً، بما يتجاوز ضعف متوسط نمو صادراتها والتحويلات القادمة إليها.
ويعيش اليوم أكثر من 3.3 مليار إنسان في بلدان يتجاوز ما تنفقه على فوائد القروض ما تنفقه على التعليم أو الرعاية الصحية، وفي حالات كثيرة ما تنفقه عليهما مجتمعيْن. فأي مستقبل ينتظر هذه البلدان وقد تجنبت أزمة التخلف عن سداد ديونها في وقوعها بتخلفها عن التنمية؟
وفي هذه الأزمة الصامتة، يتستر المدين بالتقشف في الإنفاق العام على أولويات رئيسية، ويعتصره لسداد فوائد الديون وأقساطها؛ ولا يريد أن يبوح بتكلفة أزمته ليستمر في استقدام مزيد من القروض الجديدة، التي يوجه جُلَّها لتمويل أقساط قروض قديمة. والدائن صامت ما دامت تدفقت أقساط السداد في مواقيتها، وإن هي تخلفت فقد استعد لها بمخصصات مناسبة فلن يعضله تأخرها، كما أن الدائن؛ مستفيداً من خبرات أزمات سابقة، تحوَّط برفعٍ مبالَغٍ فيه لتكلفة الإقراض الذي يقدمه لهذه البلدان لتعويض ما يعده من مخاطر التعثر.
وبين صمت المدين خشيةَ الحرمان من مزيد من الديون، واطمئنان الدائن على أوضاع مديونياته، انتهى الأمر إلى أن صافي التدفقات للبلدان النامية صار سالباً، إذ تجاوز ما تسدده هذه البلدان لدائنيها كل ما يتدفق منهم بمقدار 25 مليار دولار في عام 2024.
وتزداد تحديات سداد الديون، ومعها زيادة احتمالات التخلف عن السداد، مع ارتفاع تكلفة التمويل من ناحية، وتقلبات أسعار الصرف، وتراجع متوسط معدلات النمو الاقتصادي للبلدان النامية خلال السنوات الخمس الماضية إلى نحو 3.7 في المائة، وهو الأدنى على مدار ثلاثة عقود.
وكما أوضحت في المقال السابق، فقد نظم المقرضون تجمعاتهم وأحسنوا تنسيق مواقفهم، ومن أفضل ترتيباتهم ما كان في إطار نادي باريس الذي تطور على مدار العقود السبعة الماضية. وافتقر المقترضون لمثل هذا الترتيب بينهم رغم محاولات لم تحظَ بالتوفيق، إما لمناصبتها المعوقات من خارجها، وإما لافتقارها لأصول التنسيق المؤسسي والمثابرة داخلها.
وقد امتدت المطالبات بتأسيس تجمع للمقترضين بأهداف مختلفة، كان منها ما اقتُرح منذ عامين للبلدان الأفريقية للتنسيق بينها، وتبادل المعلومات، وتحسين الشروط التفاوضية والتعاقدية بتدعيم كفة المدين مقابل كفة الدائن التي لطالما رجحت فرصها، خصوصاً في إطار ترتيبات للمؤسسات المالية الدولية جعلتها منذ نشأتها تميل موضوعياً وعملياً تجاه البلدان الدائنة صاحبة الغلبة في رؤوس أموالها، ومقاليد حوكمتها.
كما كان من الأهداف المقترحة أن يتجاوز دور هذا التجمع المقترح للمقترضين مواضيع مثل التعاون الفني والتنسيق وتبادل المعلومات إلى الاقتراض الجماعي. بما يذكِّرك بنموذج بنك «غرامين» في بنغلاديش المتخصص في القروض الصغيرة، من خلال تجميع ذوي الدخول الأقل معاً ليشكِّلوا كتلة متماسكة يدعم بعضها بعضاً فتقلل تكلفة الاقتراض بتخفيضها مخاطر التعثر. كما تستند هذه الفكرة إلى ما شرحه الاقتصادي جوزيف ستيغليتز الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد بمفهوم «رقابة النظراء»، أي قيام مجموعات متماثلة من المقترضين بمتابعة سلوكها وأدائها في التمويل والاقتراض والسداد فيما بينها لتقليل مخاطر عدم السداد بما يخفض التكلفة، ويحسِّن شروط التمويل عملياً.
وإن كانت هذه الفكرة قد وجدت فرصاً في النجاح في تمويل الأفراد على النحو الذي صار في تجربة بنك «غرامين» فإن صعوبات جمَّة تعترضها في حالة الاقتراض الجماعي لبلدان متفرقة كل منها ذات سيادة. قد تتبادر إلى الذهن حالة الاقتراض الجماعي للاتحاد الأوروبي بعد أزمة «كورونا»؛ للتعافي من آثارها الاقتصادية والاجتماعية، من خلال إصدار سندات بين عامي 2021 و2026 بمقدار 800 مليار يورو بضمان والتزام بالسداد من خلال موازنة الاتحاد الأوروبي لصالح أعضائه، بزيادة متفق عليها في إيراداتها لهذا الغرض حتى تمام السداد في عام 2058.
هذه الفكرة شديدة الطموح وتتجاوز الترتيبات المؤسسية وحدود التعاون القائمة للدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي، فأمام البلدان الأفريقية أشواط تجتازها للتوصل إلى مستوى تعاون فعلي واندماج اقتصادي ومالي يسمح لها بالتمويل الجماعي من خلال سندات أو ترتيبات ائتمانية مشتركة. ولكن ما لا يؤخذ كله لا يُترك جُلُّه، كما تذهب القاعدة المتعارف عليها. وما يجب ألا يُترك في هذه الحالة هو تأسيس تجمع، فلنطلق عليه نادي الجنوب، يكون منصة للبلدان المقترضة بتصنيفاتها، كمقابل لنادي باريس للبلدان الدائنة.
آخذين في الاعتبار أن نادي الجنوب ليس نادياً لمواجهة دول الشمال أو الغرب. فساحة الديون قد تبدلت ولم تعد القروض الثنائية لدول نادي باريس كما كانت من حيث النسبة والتأثير، خصوصاً مع ازدياد دور دائني القطاع الخاص والصين ودول أخرى ذات أسواق ناشئة ومرتفعة الدخل من غير الأعضاء في نادي باريس.
وتبرز أسئلة ملحَّة عن أولويات عمل «نادي الجنوب» ومؤسسيه، وحوكمته وإدارته، وعلاقته بالمؤسسات المالية والمنظمات الدولية وتكلفة أعماله، ومن يتحملها، وضمانات نجاحه، وسبل تقييم أدائه. ويتناول المقال القادم محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة.
الشرق الأوسط