الحوار الوطني: أداة حل أم فخّ لاحتواء الغضب؟
تاريخ النشر: 11th, April 2025 GMT
عادت فكرة "الحوار الوطني" مجددًا إلى المشهد العربي، بعد أن أعلنَ العديد من أنظمة الحكم العربية عن مبادرات للحوار، عززتها دعوات متكررة من قوى سياسية ومنظمات وجمعيات للحاجة لحوارات وطنية كاستحقاق بات ملحًا، بعد أن سادت المنطقة ولسنوات، مناخاتٌ من التوتر والقطيعة السياسية والمواجهات في عديد من دول المنطقة، انزلقت من التجاذبات والانقسامات السياسية الحادة إلى مستوى المواجهات الدموية ومحاولات الاستئصال العنيفة.
وقد أشاعت هذه التجاذبات حالة من التوتر، خيّمت على العديد من البلدان العربية ولا تزال، في ظل سجن العديد من القيادات السياسية والشخصيات الوطنية، أو التضييق عليهم، وإغلاق المجال العام في وجه أي نشاطات معارضة.
وفي وقت يتزايد فيه الحديث عن حوارات وطنية، أو الجدل بشأنها في العديد من بلدان المنطقة من مصر إلى سوريا ولبنان إلى العراق واليمن وليبيا وتونس والجزائر، وما صاحبها من مخاوف أن تكون مبادرات لا تتسم بالجدية الكافية، أو هي تندرج ضمن إستراتيجية الاستيعاب والاحتواء من قِبل الأنظمة القائمة، يعتقد مراقبون ومتابعون لأوضاع المنطقة وما يعتمل فيها بأن الحوار الوطني بات حاجة ملحّة وحيوية لمعالجة الأزمات ومواجهة التحديات المتفاقمة التي لا تخطئها العين، والتي يَأخذ بها أبعادًا إقليمية ودولية خطيرة، ومؤذنة بعدم الاستقرار وحتى الفوضى.
إعلانمتغيرات كثيرة على المستويين؛ الدولي والإقليمي تعزز مبادرات الحوار وتوجبه. فما نشهده من سياسات أميركية جانحة وجامحة مع مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإدارة البيت الأبيض، يحتاج وقفة جادة في ظل ثقل وحجم التأثير الأميركي في المنطقة، سلبًا وإيجابًا، لا سيما أن جلّ بلدان المنطقة، ترتبط بعلاقات تقليدية إستراتيجية، أو هي قريبة من ذلك بشكل أو بآخر.
فموقف ترامب وإدارته المثير للجدل من كل القضايا التي تهم المنطقة، يحتاج لوقفة جادة من قبل دول المنطقة، لأن هذه المواقف الأميركية ستنعكس بشكل مباشر على كل المنطقة.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار موقف ترامب من الملفّ الفلسطيني، لا سيما رفض فكرة حلّ الدولتين الذي يقوّض جوهر الموقف العربي الذي عبّرت عنه المبادرة العربية للسلام، ثم تصريحات ترامب المحرّضة على التهجير القسري للفلسطينيين باتجاه مصر، والأردن، وهي تصريحات توازت مع أخرى إسرائيلية تشمل حتى السعودية بهذا التوطين المقترح لأهل غزة، فإن هذه المواقف الأميركية لها من التداعيات الخطيرة ليس فقط على الحقوق الفلسطينية، ومحاولة تصفية القضية، وإنما أيضًا على الأمن والاستقرار في المنطقة كلها.
وهذه التداعيات ليست فقط رسمية وإنما شعبية، في ظل حجم التضامن الشعبي الكبير مع الفلسطينيين والساخط على العدوان الإسرائيلي على غزة وعلى داعميه وحتى على المتخاذلين فيه.
كما تنذر السياسات الأميركية بتفاقم النزاع والتوتر في المنطقة، سواء بسبب التشجيع على الغطرسة الإسرائيلية، أو ما يحصل في المنطقة من تحولات لم تَشِ بعد بتداعيات. وما يحصل في سوريا، ولبنان، وإيران قد تنزلق بسببه المنطقة إلى مخاطر كبيرة إذا مضى ترامب في المعلن من سياساته وخياراته تجاه المنطقة.
وتزداد خطورة خيارات ترامب تجاه المنطقة، بأنه يدفع إليها وهو مُعبَّأ ليس فقط بالمصالح الأميركية الضيقة وإنما أيضًا، بالانحياز الكامل لإسرائيل.
إعلانإذ تراهن تل أبيب أن يمهّد لها ترامب ويساعد على تمكينها في المنطقة على حساب بقية بلدان المنطقة، وجعلها هي من تعيد تشكيل ملامح المنطقة بما يجعلها اللاعب الأساسي والرئيسي فيها، دون اعتبار لا للحقوق الفلسطينية ولا للمصالح العربية، ولا أمنهم القومي.
ومع استمرار الحرب في أوكرانيا تواجه دول المنطقة تحديات الأمن الغذائي وتراجعًا واضحًا في القدرة على التزوّد بالمواد الأساسية على غرار القمح ومشتقاته، فضلًا عن الطاقة.
وهو وضع ينذر بالتسبب في استمرار ارتفاع الأسعار بشكل يتجاوز القدرة الشرائية لفئات شعبية واسعة في المنطقة، ويرهق كاهلها اجتماعيًا واقتصاديًا، ما قد يكون سببًا آخر لعدم الاستقرار واتساع دائرة الاحتجاجات الاجتماعية.
وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات الجيوسياسية ظاهرة لافتة في المنطقة، تتمثل في ظهور متزايد لقوات مسلّحة غير نظامية في عديد بلدان المنطقة كاليمن مع الحوثيين، ولبنان، والعراق، وسوريا، وليبيا، والسودان، فإننا أمام ظواهر قد لا تكون قابلة للضبط والتحكم بشكل كامل، ما قد يهدد وحدة العديد من الدول وسيادتها على أراضيها، كما يمكن أن يكون عامل عدم استقرار لجميع دول المنطقة، في ظلّ حالة التوتر المتصاعدة في المنطقة.
في خضم هذه المناخات الخارجية ازداد الجدل بشأن مبادرات الحوار الوطني في العديد من البلدان العربية، على غرار مصر، وتونس، وليبيا، والجزائر، ثم سوريا أخيرًا بعد سقوط نظام بشار الأسد.
قد يكون من المسلّم به أن تعبّر مبادرات الحوار الوطني عن اعتراف ضمني بوجود أزمة أو أزمات ما، ومخاطر وتحديات ما تحتاج لتجميع مختلف المكونات الوطنية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية من أجل البحث عن مقاربات وإجابات وطنية، تعبر عن أكبر تمثيلية مجتمعية ممكنة.
بيدَ أن المخاوف لا تزال قائمة اليوم بأن هذه المبادرات الوطنية للحوار رغم إلحاحيتها وحيويتها الإستراتيجية في ظل التحديات الدولية والإقليمية والوطنية، قد تكون خطوات تكتيكية لاحتواء الاحتقان الداخلي والتجاذبات السياسية، دون معالجة القضايا الحقيقية أو التوصل لتجاوز الأزمات السياسية التي تعصف بهذه البلدان.
إعلانوالحقيقة أن إستراتيجية الاحتواء عبر مبادرات الحوار الوطني في بعض دول المنطقة، أثبتت في أكثر من مرّة أنها قد تنجح في احتواء بعض الأطراف والشخصيات، ولكنها تظهر فشلًا ذريعًا في كل مرّة في تعزيز الوحدة الوطنية، أو تجاوز الأزمات المستحكمة، أو خفض الاحتقان السياسي، بل بالعكس من ذلك.
فكلما تحولت مبادرات الحوار إلى إستراتيجية للاحتواء والمخاتلة، وليس لمعالجة الأزمات، عمّقت الأزمة السياسية، ورسّخت حالة من عدم الثقة في مؤسسات الحكم، وعزلة السلطة، وانحسار شعبية النظام السياسي.
لم تفلح الحوارات الوطنية في الكثير من البلدان العربية بإحداث أي اختراق في الأزمة المستحكمة، بل لعلها عمّقت الانقسام أكثر بين الشرق والغرب.
ورغم المخاطر والتحوّلات الصاخبة التي تعصف بالمنطقة وما تنذر به من مخاطر، لا تبدو فكرة الحوار في تونس التي تحدثت عنها وسائل إعلام دولية جدية بما يكفي لكي تنقل المزاج العام السائد من الإحباط والخيبة وانسداد الأفق إلى مزاج أكثر إيجابية وتفاؤل.
إذ سرعان ما تلاحقت الأحداث والمعطيات التي أشّرت على أن فكرة الحوار الوطني لا تعدو أن تكون بين نظام الحكم وداعميه، مع إقصاء القوى المعارضة. بل تشير المحاكمات التي تجري- والتي صدرت فيها أحكام صادمة ضد معارضين سياسيين وصل بعضها لأكثر من خمسين عامًا سجنًا، في انتظار محاكمات أخرى أكثر خطورة- إلى أن المناخات العامة واتجاه السلطة، ليس باتجاه الحوار وإنما باتجاه مزيد المواجهة مع المعارضين وتصعيد عملية استهدافهم قضائيًا وإعلاميًا. وهذا التمشي التصعيدي يقوّض فكرة الحوار ويجعلها مجرّد دعاية سياسية لا أثرَ إيجابيًا ولا مضمونَ تصالحيًا أو توافقيًا أو تهدئة فيها.
ينتظر العديد من المراقبين مسار الحوار الوطني في الجزائر، بينما ينظر إليه آخرون بتشاؤم، مستدعين في ذلك تجارب سابقة للحوار، لم تكن مخرجاته في مستوى التطلعات والانتظارات.
إعلانكما يثور جدل بشأن إلزامية مخرجات هذه الحوارات في ظل أنها تبقى في كل البلدان العربية، مبادرات من السلطة، وهي التي تحدد إطارها والمشاركين فيها وأفقها.
وفي الحالة السورية يبدو فيها الحوار ضرورة وطنية وحاجة سياسية ملحة، وفرصة لإعادة بناء الاجتماع السياسي، والتوافق على عقد اجتماعي وسياسي جديد، قوامه الشراكة الوطنية المحتفية بالتعددية والتنوع في إطار الوحدة الوطنية بين المكونات المختلفة للشعب السوري المتطلع لترسيخ ثورته وتحقيق أهدافها في الحرية والكرامة ونظام الحكم الرشيد.
بيد أن هذا الحوار الوطني في الحالة السورية المتحركة، يجب ألا يسقط بوعي أو بدون وعي في مطب مخاتلة الثورة والتجديف ضدها لتقويضها، كما يجب ألا يتحوّل الحوار إلى ذريعة لإدخال البلاد في نفق لا ينتهي من الجدل وإهدار الفرص، على حساب التحديات التنموية الاقتصادية والاجتماعية الملحّة، وتحسين ظروف وحياة الناس والاستجابة لحاجياتهم المعيشية، التي تمثل ركيزة وشرطًا لأي استقرار سياسي يمكّن ويوفّر الظروف الملائمة لإقامة نظام حكم رشيد يعلي القانون، ويحفظ السيادة، ويحقق الأهداف السياسية للثورة.
في خضم المطالب بالحوارات الوطنية في بلدان المنطقة، ورغم الحاجة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية لهذه الحوارات، وما يمكن أن تطلقه من ديناميكية منعشة للمشهد العام في هذه البلدان، في ظل المخاطر الداخلية والإقليمية والدولية، فإن ثمة خشيةً دائمة من التعاملِ مع هذه الحوارات بشكل مخاتل، أو استدعائِها كإستراتيجية للاحتواء والإخضاع، وليس فرصة لتفكيك الأزمات، أو لترميم الاجتماع السياسي وحمايته، في ظل حالة من الهشاشة الواضحة لمؤسسات الدولة وأركانها.
وينذر هذا الإهدار وتبديد مبادرات الحوار الوطنية كفرصة تاريخية، بجعل بلداننا مكشوفة وعارية الظهر تجاه مخاطر عاصفة، تهبّ على المنطقة بشكل لم تعرفه منذ عقود.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الحوار الوطنی فی البلدان العربیة بلدان المنطقة دول المنطقة فی المنطقة العدید من
إقرأ أيضاً:
كيف ردت تونبرغ على ترامب بعد نصيحته لها بالحصول على دورة لإدارة الغضب؟ (شاهد)
ردت الناشطة البيئية السويدية غريتا تونبرغ على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي سخر فيها من غضبها، بالقول إن "العالم بحاجة إلى كثير من النساء الشابات الغاضبات"، وذلك في أعقاب ترحيلها من الاحتلال الإسرائيلي بعد مشاركتها في سفينة "مادلين" التي حاولت كسر الحصار عن قطاع غزة.
وكان ترامب قد علق بسخرية على اعتقال تونبرغ، واصفًا إياها بأنها "شخص غريب" و"فتاة غاضبة"، مضيفًا: "لست متأكدًا إن كان غضبها حقيقيًا. من الصعب التصديق، لكنها بالتأكيد مختلفة. أنصحها بأن تأخذ دورة في إدارة الغضب. هذه نصيحتي الأساسية لها".
Trump: "I think Israel has enough problems without kidnapping Greta Thunberg" pic.twitter.com/Nq3RezZ0rl — Ken Klippenstein (@kenklippenstein) June 9, 2025
تصريحات ترامب جاءت عقب اعتراض قوات الاحتلال الإسرائيلي للقارب "مادلين" الذي كانت تونبرغ على متنه، إلى جانب مجموعة من النشطاء الدوليين، أثناء محاولتهم نقل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة الذي يعاني من دمار شامل في بنيته التحتية، وسقوط آلاف الضحايا بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل.
وفي ردها على تصريحات ترامب، قالت تونبرغ، خلال وجودها في مطار شارل ديغول في باريس: "بصراحة، أعتقد أن العالم بحاجة إلى مزيد من النساء الشابات الغاضبات، خاصة مع ما يحدث الآن".
قرصنة في عرض البحر
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد اعترضت فجر الإثنين الماضي السفينة الإنسانية "مادلين" في عرض البحر، أثناء إبحارها في المياه الدولية نحو غزة، وقامت باقتيادها قسرًا إلى ميناء أسدود، حيث اعتقلت 12 ناشطًا وناشطة كانوا على متنها.
وأشار مركز "عدالة" الحقوقي إلى أن الاحتلال بصدد تقديم ثمانية من الناشطين المعتقلين للمحاكمة، بعد أن رفضوا التوقيع على أوامر الترحيل، فيما تم ترحيل أربعة آخرين، من بينهم الصحفي عمر فياض من قناة "الجزيرة مباشر".
وأوضح المركز أن الفريق القانوني التابع له يتابع إجراءات الدفاع عن المحتجزين أمام المحكمة والسلطات الإسرائيلية، والتي ستبحث اليوم مدى قانونية قرارات الترحيل بحقهم.
طاقم السفينة "مادلين"
وضم طاقم السفينة اثني عشر ناشطًا وناشطة من خلفيات دولية متنوعة، بينهم ستة فرنسيين، أبرزهم عضوة البرلمان الأوروبي ريما حسن، والناشط السياسي باسكال موريراس، والناشط البيئي ريفا فيارد، والصحفي عمر فياض، والطبيب بابتيست أندريه، والصحفي يانيس محمدي.
كما كانت من بين المشاركين الناشطة السويدية في مجال المناخ غريتا تونبرغ، والناشطة السياسية الألمانية من أصل تركي ياسمين أجار، والناشط البرازيلي تياغو أفيلا، والتركي شعيب أوردو، والإسباني سيرجيو توريبيو، إضافة إلى طالب الهندسة البحرية الهولندي ماركو فان رين.
في المقابل، بررت وزارة خارجية الاحتلال الإسرائيلي اعتراض السفينة ووصفته بأنه "إجراء قانوني لمنع خرق الحصار البحري المفروض على غزة"، في حين وصف الحقوقيون الحادثة بأنها "قرصنة" في المياه الدولية، مؤكدين أن المساعدات كانت إنسانية بالكامل ولا تحمل أي طابع عسكري أو سياسي.
وجاءت العملية الإسرائيلية بعد سلسلة تحذيرات أطلقتها تل أبيب، تعلن فيها أن أي محاولة لكسر الحصار البحري تعتبر "غير قانونية". لكن النشطاء أصروا على مواصلة تحركهم، معتبرين أن الحصار المفروض على غزة غير شرعي ومخالف للقانون الدولي الإنساني.
ووثق ناشطون عبر بث مباشر لحظة اقتحام الاحتلال الإسرائيلي، حيث ظهر الجنود وهم يحاصرون السفينة ويطلبون من المتضامنين رفع أيديهم في مشهد أثار ردود فعل غاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي.