الجزيرة:
2025-07-31@07:15:18 GMT

أميركا والصين تقتربان من لحظة الانفجار

تاريخ النشر: 10th, June 2025 GMT

أميركا والصين تقتربان من لحظة الانفجار

لطالما حذّر خبراء السياسة من المخاطر التي يمثلها التنين الصيني على انفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم. ولم يُخفِ زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، انزعاجه من التطور المخيف والزحف السريع للصين، بل نبّه مرارًا إلى جدية التهديد الذي يشكله التقارب الصيني الروسي على استمرارية النظام العالمي الذي وضعت قواعده الولايات المتحدة، وهيمنت على مفاصله منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي.

من المهم أن نستحضر في هذا السياق الكاتب الفرنسي ألان بيريفيتّ الذي أصدر كتابًا في سبعينيات القرن الماضي بعنوان مثير Quand la Chine s’éveillera, le monde tremblera "عندما تستيقظ الصين، سيرتجف العالم". فصعود الصين بهذه الخطوات الرصينة لا يمكن إلا أن يحدث زلزالًا عنيفًا داخل المنظومة الغربية برمتها، بل وفي كل العالم.

لكن المثير في الحكاية هو هذا الصبر اللافت والنَفَس الطويل الذي يتحلى به النموذج الصيني في سعيه لحجز مكانه إلى جانب الولايات المتحدة في قيادة العالم.

والغريب أيضًا أن الولايات المتحدة، المقتنعة إلى حد اليقين أن صعود الصين ومزاحمتها على قيادة العالم أصبحا حقيقة صادمة لا يمكن منعها ولا حتى صدها، وجدت نفسها في وضع لا تُحسد عليه، بعد أن خاضت حروبًا عديدة وفتحت على نفسها جبهات في العقود الثلاثة الماضية؛ من غزو أفغانستان إلى احتلال العراق، وأخيرًا الحرب الروسية الأوكرانية التي هي حرب أميركا بالأساس.

إعلان

هذه الحروب وغيرها- كما هو الحال في غزة أو الحرب بالوكالة المفتوحة مع إيران- أنتجت حالة من عدم الاستقرار، وفشلًا أميركيًا في الحفاظ على الأمن والسلام العالميَين.

كل ذلك استغلته الصين لرفع منسوب التحديات أمام الولايات المتحدة التي تبدو منشغلة ومهمومة بالخطر الصيني، خصوصًا بعد صمود روسيا في الحرب الأوكرانية التي خاضتها أميركا، وأوروبا عبر الدعم العسكري الواسع لكييف بهدف هزيمة موسكو، وتقزيم دورها، وقتل طموحها في العودة إلى سباق القوة والنفوذ.

فما هي إذن الملفات الساخنة في العلاقات الأميركية الصينية؟ التوترات الجيوسياسية حول تايوان

شهدت السنوات الأخيرة تصعيدًا غير مسبوق في حدة التوترات عبر مضيق تايوان. فمنذ انتخاب الحزب التقدمي الديمقراطي في تايوان عام 2016 برئاسة تساي إنغ ون، صعّدت بكين ضغوطها السياسية والعسكرية على الجزيرة، وخاصة بعد أن رفضت تساي تأييد مبدأ "صين واحدة" كما تراه بكين، ما دفعها إلى تكثيف مناوراتها العسكرية حول تايوان.

ففي عام 2022، أجرت الصين أربع مناورات عسكرية كبرى حول الجزيرة؛ ردًا على ما اعتبرته استفزازات تايوانية وأميركية، من بينها زيارة رئيسة مجلس النوّاب الأميركي نانسي بيلوسي لتايبيه في أغسطس/ آب 2022.

كما أطلق جيش التحرير الشعبي الصيني تدريبات بحرية وجوية واسعة النطاق حول تايوان في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، كتحذير صارم إثر تصريحات تايوانية، والتي اعتُبرت من جانب بكين تصريحات معادية.

واستمرّ استعراض القوة في مناورات "السيف الموحد" التي حاصرت الجزيرة من الشمال والجنوب والشرق في ربيع 2025، حيث شاركت فيها عشرات الطائرات والسفن الحربية الصينية. وتكشف هذه التحركات العسكرية عن نيّة الصين، التي لا تستبعد سيناريو اجتياح تايوان واستعادتها، حتى وإن تطلّب ذلك استعمال القوة.

على الجانب الآخر، عزّزت الولايات المتحدة دعمها لتايوان عبر بيع أسلحة متطورة، وكثّفت زياراتها، وأعلت من نبرة خطاب وتصريحات مسؤوليها. فقد أكدت واشنطن التزامها بدعم تايوان، بل وصرّح الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بأن الولايات المتحدة ستتدخل عسكريًا إذا تعرضت تايوان لهجوم صيني، وهي تصريحات اعتُبرت تجاوزًا وخروجًا عن سياسة الغموض التقليدية.

إعلان

ومع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، سار على النهج نفسه في تعزيز الردع العسكري في منطقة المحيطَين: الهندي والهادئ، وزيادة الوجود البحري والجوي الأميركي، قرب تايوان، كرسالة تحذيرية لبكين من مغبة الإقدام على أي مغامرة.

كما أن الرئيس الأميركي دشّن فصلًا من الحروب الجديدة مع الصين بإخراجه بطاقة الرسوم الجمركية، التي كان لها انعكاس سلبي على التجارة والاقتصاد الأميركي نفسه. ونظرًا لتداعياتها الخطيرة على البلدين، توصلت واشنطن وبكين إلى اتفاق هدنة مدته 90 يومًا، تم بموجبه تخفيض الرسوم المفروضة على الصين من 145% إلى 30%، وعلى الولايات المتحدة من 125% إلى 10%.

النزاع في بحر الصين الجنوبي

يمتد بحر الصين الجنوبي على مساحة شاسعة غنية بالموارد، وتمر عبر مياهه خطوط شحن حيوية تمثل جزءًا هامًا من التجارة العالمية. ونظرًا لموقعه الإستراتيجي، ظل مسرحًا للمناوشات الإقليمية. فالصين تطالب بالسيادة على حوالي 90% من مساحة بحر الصين الجنوبي.

كما تسعى العديد من الدول المطلة على البحر، وأبرزها الفلبين، وفيتنام، وماليزيا، وبروناي، وتايوان، إلى المطالبة بالحصة نفسها التي تطالب بها الصين، نظرًا للإرث المشترك بينها قبل عام 1949، تاريخ استقلال الصين.

وتتأزم الأوضاع في بحر الصين الجنوبي، وترتفع حدة الاحتكاك بين الصين من جهة، وبين الفلبين، وفيتنام من جهة ثانية. وتسعى الولايات المتحدة، التي تربطها بحلفائها معاهدة الدفاع المشترك، إلى تقوية تواجدها العسكري في بحر الصين الجنوبي؛ لكبح هيمنة الصين البحرية.

وتستمر المناوشات بين الغريمين؛ الأميركي والصيني في هذا البحر؛ ففي الوقت الذي تعتبر فيه الصين أن البحر يدخل ضمن مياهها الإقليمية، تتمسك الولايات المتحدة بكونه مياهًا دولية مفتوحة.

سباق محموم على السيادة التقنية

أدركت كل من الولايات المتحدة والصين خلال العقد الأخير أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية ناشئة، بل هو مفتاح الريادة المستقبلية في الاقتصاد، والقوة العسكرية.

إعلان

وتحاكي القدرات في الذكاء الاصطناعي اليوم سباق الفضاء إبان الحرب الباردة، لما تحمله من إمكانات على مستوى تغيير موازين القوة. فالصين وضعت خطة طموحة عام 2017 تهدف من ورائها إلى إحراز تقدم يؤهلها لتصبح دولة رائدة في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.

وبدورها، سعت الولايات المتحدة، من خلال كبريات الشركات مثل؛ غوغل، ومايكروسوفت، إلى وضع إستراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي عام 2019. وفي هذا السياق، يبرز سؤال ملح: من يتقدم، الولايات المتحدة أم الصين؟

والإجابة تبدو صعبة ولا تخلو من تعقيد؛ فالولايات المتحدة تحتفظ بالصدارة على مستوى التمويل والاستثمار، بينما تتفوق الصين في حجم الأبحاث وبعض مجالات التطبيق. فالسباق يحتدم بين واشنطن وبكين على أشباه الموصلات، وهي بمثابة المحركات التي تشغّل خوارزميات الذكاء الاصطناعي.

وتحرص الولايات المتحدة على تقليص وصول بكين إلى أحدث الشرائح ومعدات تصنيعها، وذلك لإبطاء تقدمها التقني. لكن الصين لا تقف مكتوفة الأيدي، حيث لجأت إلى الاعتماد على الذات، وضخّت عشرات المليارات في صناديق دعم عدد من الشركات والمعاهد الجديدة لتخريج مهندسين متخصصين في صناعة الرقائق.

وفي الوقت الذي تتجه فيه الولايات المتحدة نحو سد المنافذ والتضييق على الصين، تبحث هذه الأخيرة عن بدائل وحلول لتجاوز محاولات تطويقها.

ويتجه هذا التنافس المحموم إلى ظهور "ستار رقمي"، يشبه إلى حد ما الستار الحديدي في الحرب الباردة، ويقسم العالم إلى منظومتين: واحدة تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها بأجهزتها وبرمجياتها ومنتجاتها التقنية، وأخرى تقودها الصين وتقوم على بدائلها المحلية.

فالصين تقدم نفسها كمدافع عن نظام عالمي متعدد الأقطاب ضد هيمنة غربية تسعى لاحتكار التكنولوجيا، بينما تحذر الولايات المتحدة من أن هيمنة الصين ستقوّض الحرية والديمقراطية والقيم الغربية، إن تُركت بلا منافسة.

إعلان على سبيل الختم

في ظل التوترات التي باتت تحكم علاقات واشنطن وبكين، لم يعد ميزان القوى العالمي في حالة ثبات. فبعد عقود من الهيمنة الغربية شبه المطلقة، تنهض الصين وتتقدم بخطى واثقة على مستويات متعددة؛ تجارية وتكنولوجية وعسكرية، ولم تعد تهديدًا محتملًا فقط، وإنما باتت منافسًا جديًا على قيادة النظام العالمي الجديد.

فهل ستنجح الولايات المتحدة والصين في إدارة هذه المنافسة دون الانزلاق إلى حافة الهاوية؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الحج حريات الحج بحر الصین الجنوبی الولایات المتحدة الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

من سيتزعم العالم بعد أميركا؟ وكيف؟

تواجه الولايات المتحدة تحديًا وجوديًا متناميًا يتمثل في أزمة طاقة محتملة خلال العقد القادم، ناتجة عن تفاعل معقد بين السياسات الداخلية التي يقودها الرئيس الأميركي ترامب، والتطورات التكنولوجية المتسارعة، خاصة في الذكاء الاصطناعي، وديناميكيات التنافس العالمي.

يأتي في صلب هذه الأزمة "مشروع القانون الكبير الجميل" One Big Beautiful Bill Act، الذي وقّعه الرئيس دونالد ترامب 19 يوليو/ تموز 2025. هذا القانون، بتخفيضاته الضريبية الهائلة، يهدد بتقليص الدعم الحيوي للطاقة النظيفة، في وقت تزداد فيه شراهة نماذج الذكاء الاصطناعي لاستهلاك الكهرباء بشكل غير مسبوق.

فبينما تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها في مجال الذكاء الاصطناعي، قد تجد نفسها في مفارقة غريبة: تقدم تكنولوجي هائل يقابله تراجع في البنية التحتية للطاقة التي تغذيه.

في المقابل، تُراهن الصين على إستراتيجية مغايرة تمامًا، ترتكز على هيمنة الطاقة المتجددة والاستثمار المكثف في البنية التحتية للطاقة، مما يثير تساؤلًا جوهريًا: هل تفتح أميركا الطريق بيدها أمام تفوّق صيني شامل في هذا السباق الحاسم؟ وهل يسرّع ترامب بخطواته بهذا القانون  احتضار الهيمنة الأميركية؟

يهدف هذا المقال إلى تحليل تأثير "مشروع القانون الكبير الجميل" على الاستثمار في الطاقة والبنية التحتية، وكيف يساهم في إضعاف قدرة البلاد على مواجهة تحديات الطاقة المستقبلية. ثم ننتقل إلى استكشاف الطلب غير المسبوق على الطاقة الذي يفرضه النمو الهائل في قطاع الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن يؤدي هذا الطلب إلى إجهاد شبكات الكهرباء الحالية.

بعد ذلك، سنقارن الإستراتيجيات الأميركية والصينية في مجال الطاقة، مسلطين الضوء على الفروقات الجوهرية في النهج والتداعيات المحتملة لكل منهما. كما سنبحث في سؤال العدالة: من سيدفع فاتورة هذه الأزمة؟ وأخيرًا، سنختتم بتأمل حول التداعيات البيئية والوجودية لهذه الأزمة المحتملة.

أولاً: الذكاء الاصطناعي كساحة تنافس إستراتيجي

تحول سباق الذكاء الاصطناعي إلى ساحة تنافس إستراتيجي عالمي، حيث وصف نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس 21 مايو/ أيار 2025، تطوير الذكاء الاصطناعي بأنه أصبح بمثابة "سباق تسلح" مع الصين، مشددًا على أن التفوق في هذا المجال سيحدد ميزان القوى في المستقبل، ليس فقط اقتصاديًا بل وعسكريًا وإستراتيجيًا.

إعلان

كما أكّد فانس في مقابلات إعلامية أن الفارق بين الولايات المتحدة والصين في بعض تقنيات الذكاء الاصطناعي الحيوية لا يتجاوز بضعة أشهر إلى عامين، وأن أي تراجع في وتيرة الابتكار قد يؤدي إلى فقدان الريادة بشكل دائم".

هذا التوصيف يعكس قلقًا عميقًا من التقدم الصيني السريع في هذا المجال، حيث تقلصت الفجوة بين الذكاء الاصطناعي الأميركي والصيني إلى بضعة أشهر فقط.

هذا التهديد، المفترض أن يدفع واشنطن إلى ضخ استثمارات هائلة في البنية التحتية اللازمة لتطوير وتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة، خاصة مراكز البيانات العملاقة التي تعتمد بشكل أساسي على الطاقة النظيفة.

هذه المراكز، التي تضم آلاف الخوادم، هي العصب الحيوي الذي يغذي نماذج الذكاء الاصطناعي المعقدة، وتتطلب استثمارات رأسمالية ضخمة في الطاقة الكهربائية. هذا الاستثمار الضخم يضع ضغطًا هائلًا وغير مسبوق على موارد الطاقة والبنية التحتية للكهرباء في الولايات المتحدة، مما يمهد لأزمة طاقة محتملة في العقد القادم.

ثانياً: الذكاء الاصطناعي يستهلك الكهرباء بشراهة

إن التوسع المتسارع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي يترجم مباشرة إلى طلب غير مسبوق على الطاقة الكهربائية. هذه المراكز تستهلك كميات هائلة من الطاقة؛ إذ يعادل استهلاك مركز واحد استهلاك 100 ألف أسرة سنويًا.

مع وجود أكثر من 250 مشروعًا لمراكز البيانات قيد الإنشاء في الولايات المتحدة، يصبح سباق الذكاء الاصطناعي في جوهره سباقًا على تأمين الكهرباء.

هذه المشاريع الضخمة تضاف إلى شبكة كهرباء تعاني بالفعل من تحديات متعددة، حيث لم تُصمم لتلبية هذا النوع من الطلب المتزايد والمتقلب، والذي يتوقع أن يزيد سنويًا بنسبة 15٪، مما يسبب ضغطًا هائلًا على الشبكة الكهربائية.

هذه الزيادة في الطلب، إلى جانب ضعف البنية التحتية وازدحام شبكات الجهد العالي، قد تُفضي إلى صراع حاد على الطاقة بين مختلف القطاعات، يهدد استقرار الشبكة الكهربائية الوطنية، وقد يؤدي إلى انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي، وارتفاع في أسعار الطاقة، وهو ما يجعل الدولة الأولى عالميًا قد تقترب مستقبلًا من دول العالم الثالث في أزمة الطاقة إذا ما ظلّت السياسات الحالية كما هي.

ثالثاً: دور الطاقة النظيفة في سد الفجوة

في مواجهة الطلب المتزايد على الطاقة من قطاع الذكاء الاصطناعي، كان دور الطاقة النظيفة يُنظر إليه على أنه حاسم في سدّ الفجوة، حيث أدركت إدارة بايدن، قبل التغييرات الأخيرة في السياسات الضريبية التي أقرّها الكونغرس بضغط من ترامب، الأهمية الإستراتيجية للطاقة المتجددة كركيزة أساسية للأمن الطاقوي والتفوق التكنولوجي.

ولهذا الغرض، اعتمدت الإدارة على دعم ضخم للطاقة المتجددة عبر قانون خفض التضخم (Inflation Reduction Act – IRA)، الذي يُعد أكبر استثمار في تاريخ الولايات المتحدة لمكافحة تغير المناخ وتعزيز الطاقة النظيفة. لقد مكّن قانون خفض التضخم من توسيع قدرات التوليد بسرعة عبر مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر.

لقد أظهرت البيانات الأولية أن قانون خفض التضخم بدأ بالفعل في إحداث تأثير إيجابي، حيث شهدت الولايات المتحدة زيادة ملحوظة في مشاريع الطاقة المتجددة. ومع ذلك، فإن هذا التقدم يواجه الآن تهديدًا كبيرًا؛ بسبب التغييرات في السياسات الضريبية التي أقرّها "مشروع القانون الكبير الجميل".

إعلان

هذه التغييرات تقوّض الحوافز التي كانت تدعم نمو الطاقة النظيفة، مما يعيد الولايات المتحدة إلى نقطة البداية في سباق الطاقة، ويجعلها أكثر عرضة لأزمة طاقة في المستقبل القريب.

رابعاً: قانون ترامب: تخفيضات ضريبية وعجز كارثي

في 19 يوليو/ تموز 2025، وقّع الرئيس دونالد ترامب على قانون "One Big Beautiful Bill Act"، الذي يُعد نقطة تحول حاسمة في مسار أزمة الطاقة المحتملة في الولايات المتحدة. هذا القانون، الذي جاء تحت شعار تحفيز الاقتصاد، تضمن تخفيضات ضريبية هائلة بلغت قيمتها 4.5 تريليونات دولار.

المشكلة الجوهرية تكمن في عدم توفير تمويل كافٍ لهذه التخفيضات، مما يعني أنها ستُضاف إلى الدين العام وتفاقم العجز في الميزانية الفدرالية، حيث يُتوقع أن يصل إلى 3.3 تريليونات دولار بحلول عام 2034.

هذا النقص في التمويل سيؤدي إلى زيادة هائلة في العجز في الميزانية الفدرالية، ويقيد قدرة الحكومة على الاستثمار في القطاعات الحيوية. ولتمويل هذه التخفيضات الضريبية، قام ترامب برفع سقف الديون بمقدار 5 تريليونات دولار، مما يزيد من حجم الدين الوطني إلى مستويات غير مسبوقة. الأخطر من ذلك، أن هذا القانون لم يكتفِ بالتخفيضات الضريبية غير الممولة، بل قلّص في الوقت نفسه الإنفاق الإستراتيجي في قطاعات حيوية، لا سيما في قطاع الطاقة النظيفة.

هذا التوجه يعكس رؤية اقتصادية وسياسية تعطي الأولوية للتخفيضات الضريبية قصيرة الأجل على حساب الاستثمار طويل الأجل في البنية التحتية الحيوية والطاقة المستدامة.

إن هذا النهج المالي يهدد بتقويض قدرة الولايات المتحدة على تلبية احتياجاتها المستقبلية من الطاقة، ويزيد بشكل كبير من احتمالية حدوث أزمة طاقة عميقة.

خامساً: تداعيات القانون على قدرة توليد الكهرباء

إن التداعيات السلبية لـ"مشروع القانون الكبير الجميل" تتجاوز مجرد الأرقام المالية، لتصل إلى صميم قدرة الولايات المتحدة على توليد الكهرباء.

وفقًا لتحليل دقيق وشامل أجراه مركز "إنرجي إنوفيشن"، سيؤدي هذا القانون إلى تقليص هائل في القدرة الكهربائية المتوقعة خلال العقد المقبل.

وتشير تقديرات المركز إلى أن الولايات المتحدة ستفقد ما يُقدّر بـ 344 غيغا واط من القدرة الكهربائية التي كان من المتوقع إضافتها إلى الشبكة الوطنية. هذه الكمية الهائلة من الطاقة تعادل القدرة اللازمة لتلبية احتياجات نصف المنازل الأميركية.

هذا التراجع في القدرة الكهربائية المتوقعة ينبع بشكل مباشر من إلغاء أو تقليص الحوافز الضريبية التي كانت تدعم مشاريع الطاقة المتجددة. إن هذا النقص في القدرة الكهربائية لا يهدد قطاع الذكاء الاصطناعي فحسب، بل يمتد ليشمل الصناعات الأخرى والاستهلاك المنزلي.

فمع تزايد الطلب العام على الكهرباء، ومع عدم وجود قدرة توليد كافية، ستواجه الولايات المتحدة تحديات خطيرة تتمثل في ارتفاع أسعار الكهرباء، وزيادة احتمالية انقطاع التيار الكهربائي، وتراجع موثوقية الشبكة. علاوة على ذلك، فإن هذا التراجع في الاستثمار في الطاقة النظيفة يعيق جهود الولايات المتحدة لمكافحة تغير المناخ.

حتى الطرق التقليدية لتوفير الطاقة، بما فيها بناء المفاعلات النووية، تحتاج سنوات طويلة قبل أن يتم بناؤها ودمجها في شبكة الكهرباء الوطنية.

سادساً: الصين تستغل الفراغ

في الوقت الذي تتخذ فيه الولايات المتحدة خطوات سياسية قد تقوّض قدرتها على إنتاج الطاقة النظيفة، تستغل الصين هذا الفراغ الإستراتيجي ببراعة لتعزيز هيمنتها في هذا المجال.

لقد ضاعفت الصين استثماراتها في الطاقة النظيفة بشكل كبير. تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن الصين أضافت خلال خمسة أشهر فقط من 2025 أربعة أضعاف ما أضافته أميركا في عام كامل من قدرات الطاقة المتجددة، وهو ما يعادل 50٪ من القدرة العالمية.

هذا التوسع السريع في قدرات الطاقة المتجددة يعكس رؤية إستراتيجية صينية بعيدة المدى. تعتبر الصين الطاقة المتجددة ركيزة أساسية لأمنها الطاقوي، حيث تقلل من اعتمادها على واردات الوقود الأحفوري، وتوفر مصادر طاقة مستقرة لدعم نموها الاقتصادي والصناعي المتسارع، بما في ذلك قطاع الذكاء الاصطناعي.

إعلان

كما أن الاستثمار في الطاقة النظيفة يمنح الصين ميزة تنافسية في الأسواق العالمية، حيث أصبحت أكبر مصنّع ومصدّر لمعدات الطاقة المتجددة، مما يعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي. هذا التباين في الرؤى والإستراتيجيات يضع الولايات المتحدة في موقف تنافسي صعب.

سابعاً: صمت الصين "الإستراتيجي"

على الرغم من الأثر العالمي الكبير لـ"مشروع القانون الكبير الجميل، لم تُعلّق بكين رسميًا على هذا التطور. هذا الصمت الصيني يحمل في طياته دلالات إستراتيجية عميقة، وهو ما فسرته صحف غربية بأنه تطبيق لمبدأ إستراتيجي قديم وحكيم: "لا تقاطع عدوك أثناء ارتكابه خطأً".

هذا المبدأ يشير إلى أن الصين ترى في هذا القانون الأميركي ليس مجرد خطأ سياسي عابر، بل هو خطوة تُضعف واشنطن ذاتيًا وبشكل منهجي. إن الصمت الصيني يعكس ثقة بكين في مسارها الخاص وإستراتيجيتها طويلة الأمد.

علاوة على ذلك، فإن هذا الصمت قد يكون جزءًا من إستراتيجية صينية أوسع تهدف إلى تجنب إثارة المزيد من التوترات مع الولايات المتحدة في الوقت الحالي، مع التركيز على تعزيز قدراتها الداخلية بهدوء وفاعلية.

ثامناً: انتقادات داخلية واسعة

لم يمر "مشروع القانون الكبير الجميل" دون انتقادات حادة وواسعة النطاق داخل الولايات المتحدة. من أبرز المنتقدين كان رائد الأعمال الشهير إيلون ماسك، الذي وصف القانون بأنه "الجنون المدمّر".

هذا الوصف يعكس قلقًا عميقًا من أن القانون، بتخفيضاته الضريبية التي لا تدعم الطاقة النظيفة، يرسّخ الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية التي تحتاج وقتًا طويلًا لتنفيذها، كما يعوق الابتكار في القطاعات الحيوية للمستقبل.

هذه الانتقادات، التي تأتي في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحديات غير مسبوقة، تزيد من الضغط على الإدارة الأميركية لإعادة تقييم سياساتها الطاقوية والضريبية، والبحث عن حلول أكثر استدامة وشمولية.

الخاتمة

إن أزمة الطاقة المحتملة التي تلوح في الأفق بالولايات المتحدة، والتي تتشابك فيها تداعيات "مشروع القانون الكبير الجميل"، والطلب غير المسبوق من الذكاء الاصطناعي، والمنافسة الجيوسياسية مع الصين، والحرب الأوكرانية الروسية، واستهلاك كثير من مواردها في دعم الكيان الصهيوني، ليست مجرد تحدٍ اقتصادي أو بيئي عابر. إنها أزمة متعددة الأوجه، تحمل في طياتها إمكانية التحول إلى أزمة وجودية تهدد أسس المجتمع الأميركي.

فالقانون الجديد يزيد كذلك من القيود الأميركية على هجرة العقول، مما يضعف تدفق المواهب في هذا القطاع، بينما أصبحت الصين أكثر جذبًا للكفاءات العالمية، حيث زادت نسبة استقطاب الكفاءات 20٪ عن مستويات ما قبل جائحة كورونا، وهو ما يدعم تقدّمها.

لقد توقّع المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الصادر في 2001 "بعد الإمبراطورية: انهيار النظام الأميركي"، أنّ تسرّع أمثال هذه السياسات الانحدار الأميركي، وهو ما يعجل من احتضارها وتحوّلها إلى قوة إقليمية فقط قبل 2050.

أما العرب والمسلمون، فموقعهم في هذا المشهد العالمي المتحوّل مرهون بقدرتهم على توطين التكنولوجيا، والتخلي عن النفط كمصدر رئيسي للطاقة، فضلًا عن استقلال مصادر الطاقة لديهم عن الهيمنة الغربية.

إن امتلاك الطاقة النظيفة خلال العقد القادم هو ما سيحدد زعامة العالم للسنوات القادمة، وهو ما سيجعل الصين تتجاوز الولايات المتحدة إذا حافظت على تقدمها المطرد في هذا الملف الحيوي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الولايات المتحدة تدرس إصدار تحذير سفر إلى الصين بسبب تفشي حمى شيكونغونيا
  • كيف تستعد الصين لمعركة الذكاء الاصطناعي مع الولايات المتحدة؟
  • تصعيد بلهجة عسكرية بين الصين وبريطانيا والسبب تايوان
  • الصين: مستعدون لتعزيز الاتصالات مع الولايات المتحدة وتجنب سوء التقدير
  • تايوان تنفي منع رئيسها من زيارة الولايات المتحدة الأميركية
  • من سيتزعم العالم بعد أميركا؟ وكيف؟
  • لتخفيف التوترات بشأن الرسوم التجارية.. استئناف اليوم الثاني من المحادثات بين الولايات المتحدة والصين
  • أميركا والصين تتفقان على تمديد الهدنة التجارية
  • تمهيدًا للقاء محتمل بين ترامب وشي..أميركا والصين تستأنفان محادثاتهما التجارية في ستوكهولم
  • أميركا والصين تطلقان محادثات جديدة لتمديد هدنة الرسوم الجمركية