وكالة سوا الإخبارية:
2025-10-13@07:47:28 GMT

لماذا تعيد جوجل اختراع محركها للبحث؟

تاريخ النشر: 14th, September 2023 GMT

يعد الذكاء الاصطناعي التوليدي في الأساس والنسخة الأكثر تقدما في جوجل، وهو الذي يساعد في تشغيل كل شيء من الإكمال التلقائي إلى المساعد الصوتي "سيري"، ولكن الاختلاف الكبير يتمثل في أن "الذكاء التوليدي" قادر على إنشاء المحتوى الجديد، مثل الصور والنصوص والصوت والفيديو وحتى التعليمات البرمجية، وكتابة المقالات الإخبارية ونصوص الأفلام والشعر.

الذكاء الاصطناعي وجوجل

منذ عقود كان الذكاء الاصطناعي بمثابة الجندي المجهول ضمن محرك بحث جوجل، إذ سمح للشركة بإعادة تصور كيفية تفاعل الأشخاص مع المعلومات واكتشافها، وتحسين الجودة والأهمية، ودعم شبكة الويب المفتوحة والصحية.

وفي السنوات الأخيرة، استثمرت جوجل مبالغ ضخمة وموارد كبيرة في الذكاء الاصطناعي، إذ كان أحد تطبيقاتها الأولى المعتمدة على التعلم الآلي هو نظام التصحيح الإملائي المبكر الذي ساعد الأشخاص عام 2001 في الحصول على النتائج ذات الصلة بشكل أسرع، مع مراعاة أقل للأخطاء الإملائية أو الأخطاء المطبعية.

وعام 2016، وصف سوندار بيتشاي الرئيس التنفيذي للشركة، غوغل بأنها شركة ذكاء اصطناعي أولا.

ولا يزال فريق الذكاء الاصطناعي في جوجل موضع حسد من قبل المجتمع التكنولوجي، خلال 2017، توصل باحثو الشركة إلى التصميم الأساسي لخوارزمية الشبكة العصبونية الاصطناعية المسماة "المحول"، التي يعتمد عليها الذكاء الاصطناعي التوليدي.

وفي 2021، أنشأت جوجل روبوت الدردشة "لامدا" الذي يتمتع بمهارات مميزة في الحوار، لكن الشركة كانت تخشى أن يؤدي إطلاقه إلى المخاطرة بسمعتها إذا أنتج ردودا غير دقيقة أو منحازة أو غريبة.

و الاختراقات في الذكاء الاصطناعي وفي السنوات الأخيرة أدت إلى تحسين البحث بشكل كبير، خلال عام 2019، أضافت الشركة تقنية "بيرت" إلى تصنيف البحث، مما أدى إلى تغيير كبير في جودة البحث. 

وبدلا من محاولة فهم الكلمات بشكل فردي، ساعدت تقنية "بيرت" محرك البحث في فهم الكلمات ضمن سياقاتها المستخدمة فيه، الأمر الذي سمح للأشخاص بطرح استفسارات أطول وأكثر حوارية والتواصل مع مزيد من النتائج المفيدة وذات صلة.

منذ ذلك الحين، استفادت الشركة من النماذج اللغوية الكبيرة الأكثر قوة ضمن البحث، مثل النموذج الموحد المتعدد المهام "إم يو إم"، وهو نموذج أقوى ألف مرة من "بيرت"، تم تدريبه على 75 لغة مختلفة وعديد من المهام المختلفة في وقت واحد، وهو متعدد الوسائط. 

المنافسة الشرسة

في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، وجدت جوجل نفسها في موقف غريب مع وصول روبوت الدردشة "شات جي بي تي" المدعوم بالذكاء الاصطناعي التوليدي من الشركة الناشئة الصغيرة "أوبن إيه آي".

ويعمل "شات جي بي تي" بواسطة نموذج اللغة الكبير المُدرب على التنبؤ بالكلمات التي من المحتمل أن تتبع سلسلة نصية عن طريق استيعاب كميات هائلة من النص، بما في ذلك عدد كبير من صفحات الويب.

نتيجة لذلك، أحدث "شات جي بي تي" تغييرا كبيرا في صناعة التكنولوجيا، إذ أظهر للملايين من الأشخاص القدرات الهائلة للذكاء الاصطناعي التوليدي، وكيف يمكنه فعل كل شيء، من كتابة الشعر الأصلي إلى كتابة التعليمات البرمجية، كل ذلك في غضون ثوان.

وسرعان ما أصبح واضحا أن تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي لديها القدرة على تغيير طريقة استهلاك المعلومات وإنشائها بشكل جذري، إضافة إلى إمكانية تغيير كل جانب من جوانب حياتنا اليومية.

وبعد وصول هذه الأداة إلى المستخدمين، حاولت معظم شركات وادي السيليكون إيجاد استخدام لهذه التقنية الجديدة، وفي مقدمة هذه الشركات تأتي جوجل، التي سابقت الزمن لإعادة ابتكار كيفية البحث عبر الإنترنت. 

وهددت هذه التقنية الناشئة نشاط غوغل الرئيسي المتمثل بالبحث، الذي يعتبر المنتج الأول والأهم للشركة، إذ حقق أكثر من 160 مليار دولار من العائدات العام الماضي، أي نحو 60% من إجمالي عائدات "ألفابت" الشركة الأم لجوجل.

ومنذ عام 2019 وحتى الآن، حصلت "أوبن إيه آي" على نحو 13 مليار دولار من التمويل من مايكروسوفت، وبفضل هذا الاستثمار المبكر، حصلت مايكروسوفت على ما تأمل أن يكون تحديا حقيقيا لهيمنة غوغل منذ فترة طويلة في البحث. 

وفي يناير/كانون الثاني الماضي، وسط ضجة كبيرة، عرضت شركة مايكروسوفت النسخة المحدثة من محرك بحثها "بينغ" المدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي.

هذه النسخة تستخدم التقنية الناشئة ضمن البحث لتوفير النتائج التي تظهر على أنها إجابات طويلة مكتوبة ومنتقاة من مصادر الإنترنت المختلفة بدلا من قائمة الروابط لمواقع الويب ذات الصلة. 

وهناك أيضا ميزة دردشة مصاحبة جديدة تتيح للمستخدمين إجراء محادثات مع روبوت دردشة يعمل بالذكاء الاصطناعي لتحسين نتائج البحث بشكل أفضل.

وقد لا تكون النتائج دقيقة دائما، ولكن مايكروسوفت تواصل تطوير النتائج بكامل قوتها. وخلال الأشهر التالية، أضافت الذكاء الاصطناعي إلى مجموعة من منتجاتها، من نظام التشغيل "ويندوز 11" إلى "أوفيس".

إعادة اختراع العجلة

في هذه الأثناء، شعرت جوجل، التي كانت تهيمن على سوق البحث لعقود من الزمان وتحقق معظم إيراداتها من الإعلانات الموضوعة جنبًا إلى جنب مع نتائجها للبحث، بالقلق من هيمنة مايكروسوفت على الذكاء الاصطناعي، إذ شكل هذا الإطلاق تهديدا وجوديا لها.

وأصبحت غوغل تواجه احتمال فقدان هيمنتها في سوق البحث وسمعتها كشركة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وهي تقنية يشعر الكثيرون بأنها ثورية مثل الهاتف المحمول أو الإنترنت نفسه.

ورغم أن جوجل كانت تطور نماذجها للذكاء الاصطناعي التوليدي لسنوات، فإن هذه النماذج كانت بعيدة عن الجماهير، لأن الشركة كانت متخوفة من أن تكون التكنولوجيا الناشئة غير آمنة للاستخدام.

وبمجرد ظهور مايكروسوفت كتهديد تنافسي كبير، قررت جوجل أن التكنولوجيا أصبحت آمنة بما فيه الكفاية للوصول إلى المستخدمين، إذ أعلنت الشركة في مارس/آذار الماضي عن روبوت الدردشة "بارد" المدعوم بالذكاء الاصطناعي. 

وفي سبيل مقارعة المنافسين، أعلنت جوجل في أبريل/نيسان الماضي جمعها بين مجموعتها البحثية للذكاء الاصطناعي وشركة الذكاء الاصطناعي "ديب مايند".

وبعد الإصدار المحدود المخيب للآمال من روبوت الدردشة "بارد"، بدأت غوغل بطرح عروضها الحقيقية للذكاء الاصطناعي التوليدي في مؤتمرها السنوي للمطورين، الذي انعقد في مايو/أيار الماضي.

ومن أجل استعادة مكانتها كشركة رائدة في هذه التكنولوجيا المتطورة بسرعة، صرحت الشركة بأن الذكاء الاصطناعي يجب أن يصبح قريبا ميزة أساسية في كل منتج رئيسي من منتجاتها، من محرر المستندات وصولا إلى البريد الإلكتروني.

بحسب الشركة، فإن هذه التقنية قادرة على كتابة رسائل البريد الإلكتروني وإنشاء العروض التقديمية الكاملة المزودة بالصور، وذلك من خلال بضعة توجيهات نصية.

من بين أشياء أخرى، أصبحت الشركة تتيح للمستخدمين استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء رسائل بريد إلكتروني في "جيميل"، وإنشاء عروض تقديمية جديدة باستخدام صور تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي استنادا إلى عدد قليل من الكلمات الرئيسية.

لكن التغييرات الأكبر تأتي إلى منتج الشركة الرئيسي المتمثل في محرك البحث، وفي البداية، أتاحت الشركة للمستخدمين إمكانية الاشتراك في ما أسمته "تجربة البحث التوليدي".

وبفضل أحدث نماذجها اللغوية الكبيرة المسمى "بالم 2″، كان من الممكن طرح الأسئلة على محرك البحث الجديد للحصول على إجابات على شكل محادثة، الأمر يمثل التغيير الأكثر جذرية في محرك بحث غوغل الذي كان العمود الفقري للويب لأكثر من 20 عامًا.

وعند كتابة استعلام ضمن الإصدار التجريبي من محركها للبحث، فإن المستخدم لا يحصل على قائمة طويلة من الروابط الزرقاء، بل يحصل -بدلاً من ذلك- على بعض النتائج في مربعات رمادية قبل تقديم كتلة نصية كبيرة تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي داخل مربع أخضر فاتح يشغل غالبية الشاشة.

هذه النتيجة تمنح المستخدم المعلومات التي يبحث عنها، والتي جمعت من مصادر مختلفة عبر الويب.

وإلى يسار النتيجة التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإن المستخدم يرى بعض الروابط الأكثر صلة ببحثه. 

وهناك أيضا بعض المربعات الخضراء أسفل نتيجة الذكاء الاصطناعي، إذ تطالب جوجل المستخدم بالتعمق أكثر من خلال طرح أسئلة متابعة مقترحة، أو طرح أسئلة خاصة به.

وعند النقر على النص الفعلي لنتيجة الذكاء الاصطناعي، فإن المستخدم يجد روابط لمواقع الويب التي سحبت جوجل المعلومات منها. وإذا لم تعجبه تجربة البحث الجديدة، فيمكنه الرجوع إلى التجربة القديمة.

وتهدف الإجابات التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي إلى تنظيم المعلومات بشكل أكثر وضوحا من صفحة نتائج البحث التقليدية، وذلك عن طريق تجميع المعلومات من مواقع ويب متعددة. 

المخاوف المستمرة

بعد وقت قصير من إطلاقه، كان روبوت الدردشة "بارد" يولد إجابات غير صحيحة أو مختلقة، التي تُعرف في مجال الذكاء الاصطناعي باسم "الهلوسة".

ورغم كون هذه الأخطاء مشكلة شائعة في روبوتات الدردشة المعتمدة على النماذج اللغوية الكبيرة، لكنها تمثل تهديدا قد يضر بسمعة جوجل بشأن مهمتها الأساسية المتمثلة في تنظيم معلومات العالم بشكل موثوق.

وبعد أن أجاب "بارد" بشكل غير صحيح عن سؤال واقعي حول تاريخ التلسكوبات في أحد أول عروضه التجريبية العامة، خسرت غوغل 100 مليار دولار من القيمة السوقية. 

ورغم من أن "بارد" مصمم لتجنب إنتاج محتوى مستقطب، فقد وجد باحثون خارجيون أنه مع القليل من التحريض، يمكنه بسهولة الحديث عن نظريات مؤامرة معادية للسامية وخطاب مناهض للقاحات.

ومن الواضح أن جوجل تدرك هذه المشكلة، إذ دربت النسخة الجديدة من محرك البحث بطريقة يكون فيها هامش الخطأ أقل من "بارد"، مع تركيز الشركة بشكل أكبر على الوقائع، حتى لو كان ذلك يعني أحيانا أنها لا تجيب عن السؤال.

نتيجة لذلك، يتجنب محرك البحث الجديد الرد على الموضوعات التي قد تعتبر مثيرة للجدل مثل السياسة، أو عندما يتعلق الأمر بموضوعات معينة، بما في ذلك الاستشارات الطبية أو المالية أو الأحداث الإخبارية الحاصلة في الوقت الحالي، كما أنه لا يجيب على الاستفسارات عندما لا يكون واثقا من مصداقية مصادره.

ختاما، لا شك في أن جوجل، التي تتمثل مهمتها في جعل المعلومات في العالم أكثر عالمية وسهولة في الوصول إليها، تجد نفسها الآن في موقف غير مألوف من التسرع في مواكبة منافسيها، وفي حال لم تضف هذه الميزات الجديدة، فإن المنافسين قادرون على إلحاق الضرر بنشاطها التجاري الأساسي، لكن في الوقت نفسه يجب عليها الموازنة بين المكاسب والمخاسر في حرب الذكاء الاصطناعي.

المصدر : وكالة سوا-الجزيرة

المصدر: وكالة سوا الإخبارية

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی التولیدی بالذکاء الاصطناعی للذکاء الاصطناعی روبوت الدردشة محرک البحث من محرک

إقرأ أيضاً:

لماذا غابت الفيديوهات التي توثق ما يجري في الأقصى؟

مع دخول المسجد الأقصى المبارك في موسم الاقتحامات الأطول والأعتى خلال العام، والذي بدأ برأس السنة العبرية، مرورا بيوم الغفران وانتهاء بالموسم الأخطر، وهو عيد العُرش (المظال)، كان لا بد من بسط قضية التغطية الإعلامية لما يجري في المسجد على طاولة البحث والدراسة.

فالمتابع لأحوال المسجد الأقصى لا يخفى عليه التراجع الشديد مؤخرا لعدد الصور والفيديوهات التي توثق الاقتحامات، وما يقوم به أفراد جماعات المعبد المتطرفة داخل المسجد يوميا.

حتى وصل الأمر إلى أن جميع الصور والفيديوهات التي وثقت اقتحامات رأس السنة العبرية في 23 من سبتمبر/أيلول الماضي واقتحامات يوم الغفران مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي، كانت من خارج المسجد، بل من خارج البلدة القديمة كلها.

وكان عدد لا بأس به من الصور التي بثتها صفحات إخبارية ووسائل إعلام عربية لتغطية الحدث قد التقطت من فوق جبل الزيتون الذي يبعد مسافة حوالي 500 متر هوائي عن أسوار المسجد الأقصى الشرقية.

وهذه الزاوية بدورها لا تغطي إلا مساحة صغيرة من المسجد الأقصى أمام الجامع القبلي، ولا يمكن منها مراقبة ما كان يجري خلال تجمع المستوطنين في المنطقة الشرقية للمسجد، أو خلال أدائهم طقوسهم الدينية في الجهة الشمالية أو الغربية من المسجد الأقصى.

أما الصور والفيديوهات التي أظهرت أفعال هذه الجماعات فكان مصدرها للأسف هو صفحات هذه الجماعات نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعد نشرها صورا وفيديوهات تبين ما فعله أفرادها في المسجد من باب التفاخر بإنجازاتها خلال الاقتحامات.

ولعل أحد أهم النماذج التي بينت خطورة ما يجري هو مسألة نفخ بوق رأس السنة العبري داخل المسجد، حيث غاب هذا الحدث عن التغطيات بشكل كامل، حتى ادعت جماعة "بيدينو" المتطرفة أن المستوطنين نفخوا البوق داخل المسجد خمس مرات في ذلك اليوم، بينما أظهرت شهادات المقدسيين الذين تمكنوا من الوصول إلى الأقصى في تلك الفترة سماعَ صوت البوق مرة أو مرتين خلال اليوم دون تصوير.

إعلان

ولم يكن بالإمكان تأكيد ذلك أو نفيه، إلى أن نشرت نفس الجماعة المتطرفة فيديو لأحد المستوطنين ينفخ البوق داخل المسجد قبل أن يتم إخراجه من المسجد على يد شرطة الاحتلال.

فيما يحتفي الحاخام المتطرف يهودا غليك عراب اقتحامات المسجد الأقصى المبارك بهذه العملية، ويسوقها كـ"انتصار رمزي" في معركة السيطرة الدينية على المكان.

خلال العام الأخير، شددت قوات الاحتلال قبضتها على المسجد الأقصى المبارك بشكل غير مسبوق، حيث وصل الأمر إلى تدخلها في كل صغيرة وكبيرة داخل المسجد، وحتى التدخل في عمل دائرة الأوقاف الإسلامية كمنع ذكر غزة في خطب الجمعة، أو حتى الإشارة إليها وإن من بعيد، تحت طائلة الإبعاد عن المسجد دون النظر إلى طبيعة شخصية الخطيب ومركزه الديني والاجتماعي والرسمي، كما فعلت مع الشيخ محمد سرندح خطيب المسجد الأقصى، والشيخ عكرمة صبري خطيب الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا، والشيخ محمد حسين مفتي القدس والديار الفلسطينية، وغيرهم.

وقد ترافق ذلك مع تضييق ممنهج على الصحفيين المقدسيين والمصورين الذين يشكلون عين الناس على ما يجري داخل المسجد، إذ أصبح كثير منهم عرضة للاستدعاء، أو الإبعاد، أو مصادرة الهواتف والكاميرات عند محاولتهم توثيق أي حدث، بل وبلغ الأمر بشرطة الاحتلال، تفتيش هواتف المصلين المسلمين أثناء وجودهم داخل المسجد الأقصى؛ للتأكد من أنهم لم يلتقطوا صورا أو فيديوهات للمستوطنين خلال الاقتحامات، الأمر الذي جعل من عملية نقل الصورة من داخل المسجد شبه مستحيلة في كثير من الأوقات.

وتشير شهادات عدد من الصحفيين والناشطين المحليين، إلى أن قوات الاحتلال لم تكتفِ بإغلاق الأبواب في وجوههم، بل قامت في أحيان كثيرة بإخراجهم من باحات المسجد قبل بدء الاقتحامات بدقائق، أو منعهم من دخول المسجد أصلا تحت ادعاءات مختلفة؛ ليبقى الميدان خاليا إلا من المستوطنين والشرطة.

وهذا الإخلاء المسبق للمكان من الإعلاميين والمرابطين يأتي ضمن خطة واضحة لتغييب الصورة الحقيقية لما يحدث، بحيث لا تصل الصورة إلا بعد انتهاء الحدث عبر الرواية الإسرائيلية الجاهزة التي تُقدَم بصفاقة على أنها "صلاة محدودة" أو "زيارة جماعية منظمة" لباحات عامة مفتوحة حسب التعريف الإسرائيلي للمسجد الأقصى.

ومع غياب العدسة الميدانية، تضعف قدرة الرأي العام العربي والإسلامي على متابعة ما يجري في المسجد، لتتحول القدس إلى مجرد عنوان عابر في نشرات الأخبار، بينما تتواصل في داخلها عمليات فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بهدوء وصمت تام.

فالمشهد الذي كان قبل سنوات يملأ الشاشات بأصوات التكبير والاحتجاج، أصبح اليوم صامتا إلا من بيانات مقتضبة تصدر عن دائرة الأوقاف الإسلامية، أو وزارة الخارجية الأردنية، أو عن بعض المؤسسات المختصة والمهتمة.

إن ما يجري ليس مجرد صدفة ظرفية، بل هو نتاج سياسة طويلة المدى تهدف إلى سلخ المسجد الأقصى عن حضوره الإعلامي، وهو جزء من هندسة الوعي العام بإلغاء المسجد منه.

فالمعركة على المسجد ليست معركة حجارة ومبانٍ فقط، بل معركة رواية وصورة وذاكرة، إذ إن المشهد المرئي هو واحد من أبرز أدوات تحفيز الوعي القادرة على خلق التعاطف لدى الناس، ومن يمتلكُ القدرة على نقل الصورة، يملك القدرة على تشكيل الرواية، ومن يحتكرُ الرواية، يستطيع أن يبرر الفعل ويطمس الحقيقة.

إعلان

ولأن الاحتلال أدرك مبكرا أن صورة الجندي وهو يقتحم المسجد أو صورة المستوطن وهو يرفع علمه في باحات الأقصى كفيلة بإشعال غضب عالمي واسع، فقد قرر أن يمنع الكاميرات من الدخول، وأن يفتح المجال بالمقابل لعدسات إسرائيلية مختارة تلتقط المشهد بالطريقة التي يريدها هو، ثم تُوزع لاحقا في وسائل التواصل الاجتماعي لجماعات المعبد المتطرفة مصحوبة برؤيتها وتبريراتها للحدث.

ما يزيد خطورة المشهد أن منصات التواصل الاجتماعي التي شكلت على الدوام أداة مهمة لنشر ما يجري في الأقصى، ومقاومة التعتيم الإسرائيلي، أصبحت هي الأخرى ساحة للرقابة الصامتة.

فبمجرد أن تنتشر مقاطع توثق أي اقتحامات، أو اعتداءات على المسجد الأقصى أو المصلين فيه، تُحجب أو تُخفض درجة ظهورها؛ بحجة "مخالفة معايير المجتمع"، وهو ما يجعل التعتيم اليوم أكثر إحكاما وتطورا، إذ لم يعد بحاجة إلى جنود يمنعون الكاميرات عند الأبواب بالضرورة، بل يكفي أن تعمل خوارزميات الشركات الكبرى لحجب الصورة في لحظة.

بالمقابل، فإن المرابطين والناشطين المقدسيين الذين يوثقون لحظات الاقتحام والاعتداء، ولو من بعيد وينشرونها بسرعة قبل أن يقبض عليهم الاحتلال، أصبحوا اليوم خط الدفاع الأول عن الذاكرة البصرية للمسجد، ولولاهم لانقطعت الصلة بين العالم وبين ما يجري فعلا في باحاته. لكن هذه الجهود الفردية، مهما بلغت شجاعتها، تفتقد اليوم إلى منظومة دعم إعلامي ومؤسسي تحميها للأسف.

إذن، فالتعتيم الإعلامي لم يعد مجرد عَرَض جانبي للصراع على المسجد الأقصى، بل أصبح أداة رئيسة في إدارة المشهد. فحين لا تُرى الانتهاكات، لا يُحاسَب أحد، وحين تغيب الصورة، يغيب معها الإحساس بخطورة ما يجري. ولهذا يبدو الاحتلال أكثر حرصا على إغلاق العدسات من حرصه على إغلاق الأبواب.

هذا يفتح الباب للسؤال عن كيفية التعامل مع ما يجري، وهنا لا بد من الإشارة مباشرة إلى الجهات الرسمية في المسجد الأقصى، وتحديدا دائرة الأوقاف الإسلامية التي تتبع وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الأردنية، التي بات الاحتلال يتعامل معها باعتبارها تدير الوجود الإسلامي داخل المسجد الأقصى فقط، ولا تدير المسجد نفسه، وهذا الأمر ينبغي عدم السكوت عنه وعدم التهاون معه.

إن المطلوب من الأردن الرسمي أن يمارس حقه القانوني والسياسي الكامل في إدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك حتى لو أدى ذلك إلى تأزيم الموقف مع إسرائيل، فالتأزيم وإن كان يبدو سلبيا للوهلة الأولى إلا أن نتائجه على المستويين؛ المتوسط والبعيد إيجابية، فالاحتلال الذي يحاول أن يظهر اليوم قويا بإطلاق جنونه في غزة والضفة الغربية في الحقيقة لا يمكنه في هذا الوقت المغامرة بفتح جبهات أكثر من اللازم.

ومغامرة التصعيد والتأزيم مع بلد مثل الأردن، ستعمق الشرخ في المجتمع السياسي الإسرائيلي المنقسم على نفسه أصلا، خاصة بالنظر إلى أن الأردن يقع على أطول خط حدود برية مع إسرائيل.

ملف المسجد الأقصى بالنسبة للأردن يعتبر مسألة وجودية لا يمكن ولا يجوز التهاون فيها مهما كانت النتائج. ولذلك، فإن أقل ما يمكن للأردن أن يفعله هو ممارسة حقه المكفول بموجب القانون الدولي باعتباره يمثل السلطة الدينية صاحبة الحق الحصري في إدارة الأقصى وصيانته وإعماره بما في ذلك مراقبة كافة أرجاء المسجد الأقصى ونشر حراسه فيها لتوثيق ونشر ما يحدث فيه من عدوان لا يمكن السكوت عنه؛ وإلا فإن هذا التعتيم المقصود يمكن أن يكون مدخلا لطمس هوية الأقصى والتأسيس للمعبد معنويا وماديا تحت ستار الحصار والتعتيم، وعند ذلك لن ينفع الندم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي يحاول إقناع المستخدمين بمواصلة المحادثة
  • جوجل تعيد ابتكار تطبيق "هوم" بذكاء جيميني
  • مركز تريندز يعقد حلقة نقاشية حول الذكاء الاصطناعي والتعليم
  • حلقة نقاشية في “تريندز” حول الذكاء الاصطناعي والتعليم
  • لماذا غابت الفيديوهات التي توثق ما يجري في الأقصى؟
  • جوجل تعيد ابتكار البحث بالصور عبر الذكاء الاصطناعي
  • أنثروبيك تُشعل سباق الذكاء الاصطناعي.. Sonnet 4.5 يتفوّق على جوجل ومايكروسوفت وOpenAI
  • جوجل تطلق Gemini Enterprise.. ثورة في استخدام الذكاء الاصطناعي داخل الشركات
  • د. هبة عيد تكتب: المزحة التي خرجت عن السيطرة.. عندما يتحول الذكاء الاصطناعي إلى فوضى رقمية
  • توظيف الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي خطوة نحو حوكمة الابتكار