نحو تجديد واصلاح العمل الحزبي في العراق
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
2 أكتوبر، 2023
بغداد/المسلة الحدث:
ابراهيم العبادي
يتطلع العراقيون الى بناء دولة بقوام ديمقراطي تعددي ،وبشرعية دستورية ونظام حكم تداولي ، وسلطات قادرة على بناء السياسات العامة وتنفيذها بما يحقق مطامح وامال الجمهور التائق الى العدالة والتنمية.
بعد التغيير السياسي الذي حصل عام 2003 ،تحققت الخطوات الاولى لبناء الشرعية الدستورية للنظام السياسي واعادة مأسسة الدولة على اسسس الفيدرالية والتعددية الحزبية والمشاركة الواسعة في السلطة رغم العيوب الكبيرة ،لكن عشرين عاما من التجربة السياسية كشفت ضعف البنية السياسية في البلاد، بسبب هشاشة البنى الحزبية ، وتخلف الثقافة السياسية وارتكاس المجتمع الى بنى ماقبل الدولة الحديثة ، وشيوع نزعة التغالب والتغانم والعطش الشديد للسلطة، والاستقواء باموال الدولة ومؤسساتها ،مازاد الطين بلة هو الصراع السياسي بين الاقطاب التي تتزعم المشهد السياسي بدوافع قومية وطائفية وجهوية وعشائرية، والتغلغل العميق لثقافة الصراع الفكري والايديولوجي لدى قطاع واسع من العراقيين.
مر العرب ودول المشرق عموما بمرحلة تاسيسية على انقاض حكم السلطنات ، لاسيما الحكم الطويل للسلطنة العثمانية ، ثم اقتبست الدول القومية والقطرية الجديدة التي اقيمت على انقاض السلطنة وبرعاية استعمارية، انظمة سياسية تحاكي تجارب دول الغرب ، دونما تجديد في البنى الاجتماعية والنظم الاقتصادية وانماط الفكر والسلوك الا ببطأ شديد، واحيانا بالعنف والقسوة والاجراءات السلطوية ،واشتد الصراع الفكري في البلاد المستعمرة بتعبير المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي ،وانقسمت القوى السياسية بين تيارات قومية وماركسية واشتراكية واخرى ليبرالية تقليدية وجديدة، وقوى محافظة اسلامية او اسلامية اصلاحية او محافظة تقليدية ،وماتزال الافكار وعالم المثل يسيطر على الكثير من القوى السياسية ،فالاولوية عندها للافكار لا المؤسسة الدولتية القادرة على تنمية البلاد، وحماية امنها واستقرارها وازدهارها معرفيا وثقافيا وتقنيا ، مع سياسات ثقافية ورمزية تصنع هوية حديثة جامعة لقيم الامة وتراثها وعصرانيتها بهدوء وتعقل.
نمت الدول وازدهرت الديمقراطيات وتحققت الحريات بالعقلانية السياسية التي تتيح نمو الطبقة الوسطى ، وتوازن انماط التنمية السياسية والاقتصادية، وادارة ناجحة للسياسات والعلاقات الخارجية التي تضمن المصالح الحقيقية للبلاد وشعبها ، وليس بالمثل الافلاطونية التي نادت بها الايديولوجيات المتصارعة في عمق المجتمع.
حينما انهارت دولة الحزب الواحد ونظام الاستبداد وحكم العشيرة او العشائر المتحالفة ،ظهرت كل مساويء ثقافة الحكم الاستبدادي كما تجلى في سلوك الطبقة السياسية والجمهور العام على حد سواء ،فالعقلانية والمصلحة والهدوء والتعلم من التجارب امور غائبة ،والحاضر هو الانفعال والهيجان والعقل المؤامراتي الشكاك المتربص مع انعدام للثقة واحتكار للشرف والوطنية واحتراب ايديولوجي عميق ،بين قوى تنادي بالتحرير والثورية والثأر من الغرب وزعيمته الولايات المتحدة ،وقوى تريد اقامة نظام اسلامي ، وقوى تعارض الاصولية الدينية ، واخرى ليبرالية او وطنية تخشى من هيمنة تيارات متشددة على السلطة ،وهكذا ازدحم العراق بعناوين حركية ومنظمات وفصائل واحزاب جديدة ، اصطفت الى جانب الاحزاب التاريخية القائمة، ودخل الجميع في سباق محموم على السلطة، واعيدت الى الواجهة صراعات اليمين واليسار ،الاسلام والعلمانية ،المدنية واللامدنية ،المقاومة المسلحة والمقاومة الناعمة .خط امريكي في مقابل خط ايراني ،وطنيون في مقابل امميين ، وليس غريبا على بيئة معروفة تاريخيا واجتماعيا رمزها التاريخي مجتمع الكوفة المنتج والمنفعل بالافكار والشعارات ، الا تدخل في صراع حزبي على خلفية فكرية او سياسية، فينقسم الناس بعواطفهم ومشاعرهم قبل افكارهم ومداركهم وعقولهم.
الدولة في العراق مأزومة ،والمجتمع مايزال يعيش اضطرابا واسعا وهو تائه بين الثنائيات المتعارضة ،والاحزاب تساهم في تعميق التيه السياسي بسبب الاختلاف الفاحش في الاولويات والثقافة السياسية والاهداف التي تسعى اليها.
يجمع خبراء السياسة ان الدولة العراقية لن تحقق اهدافها مالم يتم اصلاح النظام السياسي ذي العيوب التي تمنع الاستقرار والهدوء ،ومفتاح الاصلاح السياسي هو اصلاح البنية الحزبية في البلاد ،واعادة بناء الاحزاب وفق مقتضيات الدولة والهوية الوطنية ، ولتحقيق اهداق التنمية الوطنية في مجالاتها الاوسع . والمهمة الاصعب هي الانتقال من احزاب الافكار والشعارات الكبرى الى احزاب البرامج التنموية والسياسات البنائية والقطيعة مع تاريخ مفعم بالحماسة والهراء الثوري بلا منجز حقيقي.
لابديل عن الانتقال من حكم الاوليغارشيا الراهنة او بتعبير الباحث الانثروبولوجي علاء حميد حكم الرعاة الكبار ،الى حكم التنظيمات التمثيلية والاحزاب التنموية البرامجية ،وليس احزاب الايديولوجيات المتصارعة، صراعا وجوديا حد الموت ،امام الاسلاميين تجربة اسلاميي تركيا ونموذج حزب العدالة والتنمية الذي جعل التنمية الاقتصادية والبناء المادي مدخلا للتغيير الاجتماعي والاصلاح الثقافي والبناء القيمي ،ولم ينشغل بمصارعة العلمانية المهيمنة والدخول في صراع متعدد الجبهات ،مع علمانيي الداخل ، ومع الغرب وضغوطه ومع العسكر ومؤسساته باعتباره الضامن للعلمانية المتشددة ،وجاءت الحصيلة مستجيبة الى حدكبير مع استحقاقات مرحلة مابعد الاسلامويةحيث الانجاز التنموي هو المدخل للاصلاحات المنهجية الاخرى ،وامام المقاومين تجارب مرحلة التحرر الوطني في بلدان عديدة ، والتي كشفت ان معركة السلم وبناء الدولة اصعب بكثير من مرحلة حمل السلاح والتحول الى العمل السياسي ببرامج تنموية وفكر دولة ، وليس فكر منظمات سرية واستراتجية اضرب واهرب )،ثم الانغمار وسط الجمهور وتحميله كلفة باهضة من الحصارات والعقوبات والفقر والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والتدهور الاخلاقي والمعرفي.
امام القوميين والشيوعيين فسحة صغيرة للتحول الى احزاب وطنية باولويات جديدة، قبل ان يسدل الستار على احزاب استنفدت طاقتها على اجتذاب محازبين وسط جيل العولمة المبتعد عن فكر اليسار الثوري والاحلام الكبرى !!.
احزاب العراق القديمة والجديدة مطالبة بتجديد بناها التنظيمية ومطابقة نفسها مع الاشتراطات المؤسسية للاحزاب العصرية وبفكر جديد وديناميكية اجتماعية وجيل مسؤول خاضع للمسائلة ومؤمن بحتمية التغيير والتداولية والديمقراطية ، لتجد لها مكانا في النظام الاجتماعي والسياسي السائر نحو التحول والتغيير بحكم الضرورة السياسية التي يتطلبها الاستقرار و تفرضها التنمية المستدامة والتحديات الناشئة منها.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
باكستان الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي!
اليوم سأحدثكم عن قصة حصول باكستان على السلاح النووي وإحداثها لمعجزة سياسية-علمية في العالم الإسلامي، فدولة التي لم تكن تملك شيئا بل حتى لا تستطيع صناعة مسامير وبراغي كيف لها أن تصنع سلاحا نوويا معقدا جدا في فترة قصيرة جدا، حتى الغرب لم يستطع مجاراتها؟ لا بد أن يكون وراء ذلك سر عظيم جدا ألا وهي الإرادة والعزيمة التي صنعت المستحيل.
بدأ كل شيء عام 1971 عندما تعرضت باكستان لهزيمة قاسية ومذلة أمام الهند، العدو الأول والأزلي، انتهت بانفصال بنغلادش عن باكستان، وبعد ثلاث سنوات فجّرت الهند أول قنبلة نووية له بمساعدة الكيان وخرجت للعالم تتبجح وصرّح الهنود: "نحن الآن صرنا قوة نووية".
في تلك اللحظة المفصلية في التاريخ كانت باكستان تراقب الوضع وشعرت بأن عدوها قد اكتسب ما سيمكنه من التفوق عليها، وهذا ما استفز كبرياء الشعب والحكومة هناك، حينها وقف رئيس وزراء باكستان ذو الفقار علي بوتو وقال عبارته الشهيرة: "لو اضطررنا لأكل العشب أو التراب، سنصنع قنبلة نووية". لم يأخذه الغرب ولا حتى الهند على محمل الجد، وظن الكل أنه مجرد هرطقة سياسية فقط وشعبوية معتادة للإلهاب حماس الجماهير هناك.. لكن تأكد لا حقا أن الرجل كان يعني ما يقوله بالحرف الواحد!
وبدأ التخطيط الفعلي لامتلاك برنامج نووي سري دون أن يثيروا ريبة أعين الغرب والعدو الأزلي الحاقدة.. وانطلق جمع المعلومات من طرف أجهزة المخابرات الباكستانية باحثة عن كل من يستطيع أن يقدم لهم يد العون من دول وحكومات ومنظمات سرية وجماعات تهريب وقبل ذلك البحث عن علماء نووي موثوقين ومستعدين للتضحية من أجل ذلك، وكان الاختيار على أحد الرجال الذين صنعوا المعجزة بأتم معنى الكلمة، ألا وهو الدكتور عبد القدير خان، وهو عالم الباكستاني شاب كان يعمل حينها في منشأة تخصيب أوروبية (URENCO – هولندا). اتصلت به المخابرات الباكستانية وقالت له بالحرف الواحد: "سيد عبد القدير أنت مستدعى في مهمة وطنية نبيلة هل ستلبي الدعاء أم نذهب لخيارات أخرى؟".
وكان الجواب: "لا مجال للتردد أمام نداء الوطن!" لم يتردد هذا الرجل الوطني المخلص للحظة في تلبية نداء الواجب، وترك كل الامتيازات الممنوحة له والرفاهية وجودة الحياة وحقول الورود والياسمين في هولندا؛ البلد الساحر من حيث الطبيعة الخلابة وجودة الحياة، وعاد متخفيا ليعمل في ظروف قاسية في مناطق وعرة غير موصولة حتى بطرق معبدة وبعيدة كل البعد عن المدن في باكستان. كل هذه التضحية من أجل هدف واحد ونبيل ألا وهو أن تمتلك بلده سلاحا نوويا يمكنها من استعاده التوازن أمام عدو أزلي يتربص على الحدود في كشمير..
استغل هذا الرجل الذكي منصبه هناك لجمع كل ما يمكنه من معلومات حول تقنية الطرد المركزي، ونجح في نسخ تصاميمها وخزنها في ذاكرته في عام 1975. وكما سبق وذكرت، عاد إلى باكستان سرّا حاملا مخططات علمية وتقنية ثمينة، ومعه حتى قائمة موردين دوليين وأسرار لا تُقدّر بثمن.
أسّس "مختبرات خان" في منطقة كاهوتا، وبدأ العمل بصمت رفقة علماء آخرين قام هو بنفسه بإقناعهم في العمل معه وكفاءات وطنية كوّنها هو بنفسه. وفي الخفاء تم إنشاء منشآت التخصيب الذي هو أصعب شيء في أي برنامج نووي، واستُخدمت شبكة تهريب دولية لاقتناء القطع والتكنولوجيا من أوروبا وماليزيا والصين، وكل ذلك تم بسرّية مذهلة وبمساعدة جزئية من الصين التي زوّدت باكستان ببعض التصاميم والمكونات النووية والتي فيما بعد تحولت إلى الحليف الأول للباكستان. والآن 80 في المئة من واردات السلاح إلى باكستان هي من التنين الصيني، مستغلة وبذكاء خلاف الصين الحدودي مع الهند مما قرب تلقائيا بينهما وفق المعادلة الشهيرة "عدو عدوي صديقي"، أضف إلى ذلك أن الظروف الإقليمية آنذاك خدمت المشروع النووي بطريقة غير مباشرة، ففي الوقت الذي كانت فيه أمريكا مشغولة بدعم باكستان في حربها ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، غضّت الطرف عن تقدمها النووي، أو لنقل أن واشنطن لم تكن تتصور أن باكستان بلغت أشواطا متقدمة جدا في الحصول على سلاح نووي كامل.
في عام 1998 فجّرت الهند سلسلة تجارب نووية وبعد أقل من ثلاثة أسابيع، وفي يوم 28 أيار/ أمايو ردّت باكستان بتفجير خمس قنابل نووية دفعة واحدة في جبال بلوشستان. وهنا كان العالم مذهولا، والغرب في حالة صدمة واضحة، ولعل الصدمة الأكبر كانت في نيودلهي حين علم الهنود أن تفوقهم النوعي على عدوهم الأزلي قد زال وحدث التوازن بين القوى!
دخلت باكستان رسميا نادي القوى النووية إلى جانب القوى العظمى في العالم، وأصبحت أول دولة إسلامية تمتلك السلاح النووي. حاول شرطي العالم تدارك الأمر، ففرضت أمريكا عقوبات اقتصادية علها تثنيها عن ذلك، لكن يبدو أن الرجال فعلوها أخيرا والردع النووي قد تحقّق، فالبرنامج اكتمل ورسالة رئيس الوزراء قد وصلت فعلا، كل كلمة قالها كان يعنيها، لا شيء سيثني باكستان عن امتلاك سلاح نووي.
أما بالعودة للحديث عن البطل القومي عبد القدير خان الذي قام عليه المشروع، فقد وُضع لاحقا تحت الإقامة الجبرية بعد اتهامه بتهريب تكنولوجيا نووية إلى دول أخرى ككوريا الشمالية وإيران وليبيا، ومع ذلك بقي في أعين شعبه "أبو القنبلة الإسلامية".
قصة المشروع النووي في دولة باكستان تظهر مدى حجم التأثير حين تجتمع الإرادة والعزيمة السياسية مع إرادة الشعب، ومدى أهمية العقول العلمية وحب الوطن الخالص الذي يمكن أن يغير موازين القوى بشكل كامل وإحداث المعجزات!