يتزامن العيد الوطني الثالث والخمسون المجيد لنهضة عمان الحديثة مع متغيرات إقليمية ودولية شكلت الكثير مع علاقات الدول ببعضها البعض، ولم تكن عُمان بمعزل عن هذه المتغيرات، فقد اعتادت التعامل مع الأزمات، وتجاوز المحن، وتذليل الصعاب، وتقريب الأضداد، والسعي الدائم نحو إحلال السلام الذي يمنح شعوب العالم أملًا لحياة سعيدة، مفعمة بالرخاء، ومملوءة بالأمل.

وبعد سنوات من العزلة النسبية عن محيطها الخارجي ولعقود من الزمان، بدأت سلطنة عمان وفي عهد السلطان قابوس -طيب الله ثراه- بأداء دور فاعل في محيطها الجغرافي من خلال الانضمام إلى المنظمات الإقليمية والدولية، مدركة أهميتها، وقدرتها على أداء دور فاعل، والتصرف من منطلق مسؤولية مجتمعة، لأجل تضافر الجهود لاستدامة الأمن إقليميًا وعالميًا، فكانت لها نظرتها المختلفة لمجريات الأمور، واستطاعت من خلال سياسة خارجية وداخلية حكيمة، خلق قدر وافٍ من التوازن بين مصالحها الوطنية، وتحقيق الأمن داخليًا وخارجيًا، وسارت بخطى متزنة للتعامل مع ما عصف بالمنطقة من أزمات، وما ألم بها من كوارث، تدفعها قيادتها الحكيمة الموغلة في الإنسانية، المثخنة بقوميتها العربية الإسلامية التي لم تتغير بتغير الأسماء، فجاء جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- ليسير على النهج الذي اعتادته عُمان في إدارة شؤونها داخليًا وخارجيًا، تحث الخطى لتخلق توازنات بين تقدمها داخليًا، وتعزيز مكانتها في الخارج، وممارسة دورها في الوقوف على بعد مسافة واحدة من الجميع، وتجنب الاصطفاف والانحياز لأي طرف؛ فكسبت احترام العالم، وآمن الجميع بسياستها المتزنة المستقرة، المأمونة من جميع الأطراف، فنالت ثقة جميع الأطراف، وأصبحت طرفًا لا يمكن الاستغناء عنه عند نشوب الخلافات، وتشعب النزاعات.

يأتي العيد الوطني الثالث والخمسون المجيد، وقد بلغ العدوان الإسرائيلي على غزة ذروته، ليكون الأشد دموية وقسوة إذا ما نظرنا إلى الشهداء والجرحى من المدنيين العزل، ناهيك عن استهداف المنظومات الصحية من خلال الاستخدام المفرط لقوة النيران، وتدمير أغلب البنى التحتية للقطاع، التي تركت آثارًا واضحة لا تخطئها عين، مخلفة وراءها ركامًا، وأجسادًا محروقة، في نموذج فريد من الوحشية الطاغية، وإدارة الظهر للعهود والمواثيق، وأذن صماء لمطالب حكومات وشعوب العالم الحر، وتجاهل تمام لمطالب المجتمع الدولي للوقف الفوري لهذا العدوان ضد الشعب الفلسطيني، والالتزام باحترام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، والمسارعة إلى فتح المعابر لوصول المساعدات الإنسانية، والمواد الغذائية الأساسية.

وجاء موقف سلطنة عمان من هذا العدوان واضحًا وثابتًا، متناسبًا مع المبادئ التي دعت إليها السياسة العمانية، وامتدادًا لسعيها الدائم لدعم جهود السلام العالمي، وما من شأنه إحلال الأمن في منطقة الشرق الأوسط، وانطلاقًا من ضرورة احترام القانون الدولي، وتأكيدًا على عدالة القضية الفلسطينية، ومطالب الشعب الفلسطيني المشروعة غير القابلة للتجزئة، وحقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وفقًا لقرارات مجلس الأمن، وما تلاها من مبادرات عربية، وتأييد لحل إقامة الدولتين، حيث عبرت سلطنة عمان عن موقفها إبان عقد الجمعية العمومية للأمم المتحدة في كلمة ألقاها مندوبها الدائم لدى المنظمة الدولية، حيث أكد على موقف السلطنة الواضح تجاه حقوق الشعب الفلسطيني، والمندد باستمرار سياسة الاستيطان، ومظاهر التضييق والاستفزاز الذي تمارسه إسرائيل، وانتهاكها لحرمة الأماكن المقدسة، والتنكيل بالمدنيين من النساء والأطفال، الأمر الذي لم يكن يومًا ليخدم مسار السلام الذي تسعى إليه شعوب المنطقة.

ولا يخفى على أحد الدور الذي قامت به سلطنة عمان في الأزمة اليمنية، وهي كانت بمثابة تحدٍ كبير لمسقط بحكم أنها عضو في مجلس التعاون الخليجي، وكون بعض أطراف الصراع أعضاء في المجلس، حيث خلق هذا بدوره صعوبات جمة وضغوطا متتالية على موقف مسقط من الأزمة اليمنية، غير أن عمان تمتلك رصيدًا تاريخيًا وافرًا من التجربة والخبرة في التعامل مع الأزمات والمتغيرات والأحداث، فتعاملت من قبل مع خيار مصر في اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، والثورة الإسلامية الإيرانية ورأت فيها شأنًا داخليًا، وتعاملت بحنكة عند اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وعند غزو العراق للكويت، وتعاملت بموضوعية مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاه من غزو لأفغانستان والعراق، وأحداث الربيع العربي، والأزمة الخليجية في 2017، وهي كلها أحداث نجحت فيها سلطنة عمان باقتدار في أداء دور إيجابي، وتجنبت الاصطفاف مع أي طرف لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع جميع الأطراف الأمر الذي عزز مكانتها وأكسبها احترام وثقة جميع اللاعبين في المنطقة.

وتنظر سلطنة عمان إلى الملف اليمني من خلال ما يمكن أن يكون له من انعكاسات مباشرة على أمنها ومصالحها الوطنية، فتأثير الصراع يأتي من خلال طول الحدود مع اليمن، والتي ستجعل مسألة احتواء أي تدفقات بشرية، أو عمليات تهريب أمرًا صعبًا للغاية، وعليه فإن السياسة الخارجية العمانية ذات البعد الثاقب والنظرة الفاحصة لمجريات الأحداث، واستشراف للتبعات والنتائج بشكل مبكر جعل مسقط تؤدي دور الوسيط للعمل على وقف الصراع، وتقريب وجهات النظر بين أطراف النزاع، والخروج بحلول ناجعة وبأقل الأضرار، لأجل إنهاء الأزمة، ودعمًا لوحدة الصف اليمني، واتقاءً لما يمكن أن يتسبب به الصراع المطول من زعزعة لاستقرار المنطقة، ناهيك عن الاستنزاف المفرط للموارد، لم لا وعمان قبلة المتصارعين إن صح التعبير لما تملكه من دبلوماسية هادئة، وتوظيف لمفاتيح القوى الناعمة التي تمتلكها، حيث حظيت باستمرار على إشادات دولية لقاء سياستها المحايدة للوصول إلى تهدئة لكل صراع، والقيام بدور قيادي في تخفيف التصعيد، ودعم جهود المفاوضات، مثلما فعلت في المحادثات التي صاحبت الاتفاق النووي الإيراني من خلال تقديم تسهيلات، وأداء دور إيجابي لإقناع جميع الأطراف بالجلوس على طاولة المفاوضات لتسوية الخلافات بالطرق السلمية، وتجنبًا للنزاعات والصراعات.

يأتي العيد الوطني هذا العام وسلطنة عُمان قد استطاعت بفضل قائدها السلطان هيثم المعظم والمخلصين من أبنائها تجاوز الكثير من التحديات، وإذ تعد هذه الحقبة إحدى مراحل رؤية عمان المستقبلية 2040 فإن الكثير من أبناء عمان يعولون عليها للوصول إلى مستوى معيشي أفضل، وتقدم علمي وفكري وثقافي ومعرفي، وإذ يطمح أبناء عمان لرؤية انعكاسات لهذه الرؤية على الوطن وقاطنيه، فهم مطالبون كذلك بتضافر الجهود، ووحدة الصف، والعمل بجد واجتهاد لخدمة وطنهم، أسوةً بمن سبقوهم في هذا الشأن، وهم بلا شك يجددون العهد والولاء للوطن وقائده، لتبقى راية عمان خفاقة، ويبقى وجهها مشرقا يزداد توهجا يوما بعد يوم، لغد أفضل، وكل عام والوطن وأبناؤه في رفعة وعزة وشموخ.

كاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: جمیع الأطراف سلطنة عمان من خلال داخلی ا

إقرأ أيضاً:

شباب عُمان تتوج بجائزة مهرجان لوهافر للإبحار بفرنسا

العُمانية- توّجت سفينة البحرية السلطانية العُمانية "شباب عُمان الثانية" بجائزة أفضل سفينة في مسير الأطقم لعام 2025، وذلك خلال مشاركتها في مهرجان مدينة لوهافر للإبحار بجمهورية فرنسا.

وجاء تتويج السفينة خلال الحفل الذي أقامته اللجنة المنظمة للمهرجان في اليوم الثاني من فعالياته، التي تستمر حتى السابع من يوليو الجاري، ضمن محطتها العاشرة في إطار رحلتها الدولية السابعة إلى القارة الأوروبية (أمجاد البحار 2025).

ويُعد هذا التتويج تقديرًا لما قدّمه طاقم السفينة من أداء متميز، وانضباط عالٍ، وتفاعل لافت أسهم في إيصال رسالتها الرامية إلى مد جسور الصداقة والتفاهم بين سلطنة عُمان وشعوب العالم، إلى جانب التعريف بالإرث الحضاري والتاريخ البحري العُماني، وما تزخر به سلطنة عُمان من موروثات ثقافية أصيلة، من خلال مشاركتها الفاعلة في الفعاليات المصاحبة للمهرجان، لا سيما الأنشطة البحرية والرياضية الشاطئية.

وتُواصل سفينة شباب عُمان الثانية رحلتها الدولية التي تسعى من خلالها إلى تعزيز الحضور العُماني في المحافل الدولية، وإبراز الدور البحري العريق لسلطنة عُمان في مختلف الساحات العالمية.

مقالات مشابهة

  • سلطنةُ عمان تشارك في عرض تاتو بازل للموسيقى العسكرية ٢٠٢٥م بسويسرا
  • الدبلوماسية العمانية مرفأ السلام
  • باحثة عُمانية تشارك في دراسة دولية تعزز الفهم بالتأثيرات البيئية
  • مفتي سلطنة عمان يهاجم الدول الراغبة في التطبيع مع إسرائيل
  • شباب عُمان تتوج بجائزة مهرجان لوهافر للإبحار بفرنسا
  • 0.81 بالمائة متوسط التضخم في سلطنة عُمان
  • وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني يلتقي في دمشق اليوم سفير سلطنة عمان في الجمهورية العربية السورية تركي بن محمود البوسعيدي، حيث تناول اللقاء العلاقات بين البلدين وسبل تعزيزها، بما يخدم مصالح الشعبين الشقيقين
  • «مفتي سلطنة عمان» يهاجم الدول الراغبة بالتطبيع مع إسرائيل: يا لها من رزية هذا الكيان زائل!
  • سياسة حماية العمالة من الإجهاد الحراري.. نهج إنساني مستدام
  • خاص| الزمالك يفاوض عبد المجيد للتجديد.. والاحتراف مرهون بـ4 ملايين دولار