حيدر المكاشفي

منذ الأيام الأولى للحرب، كان واضحا لكل ذي بصر وبصيرة فيما عدا مشعلي الحرب من الكيزان وفلولهم والمستفيدين من نظامهم وقيادات الجيش المتحالفة معهم، أن تطاول أمد هذه الحرب سيؤدي لنتائج كارثية مهلكة على البلاد والعباد، وأن كل يوم يمر على الحرب يعني المزيد من الخراب والدمار والضحايا وتوسع رقعة الحرب وجغرافيتها، وهذا ما حدث بالفعل الى أن وصلت الكارثة الان الى ما يهدد وحدة البلاد وينذر بتقسيمها وتفتيت كيانها الحالي.

.فبعد مرور حوالي العامين ونصف على الحرب أضحى خطر تفكيك البلاد وتقسيمها ماثلاً، تجسده مجموعة من سياسات حكومة بورتسودان من جهة ومجموعة (تأسيس) من الجهة الاخرى، وتغذيه جملة من الممارسات يأتي على رأسها خطاب الكراهية الجهوي والعنصري الذي أحدث زلزلة في النسيج الإجتماعي بما يهدد الوجدان الوطني والتماسك المجتمعي والسلام الاجتماعي بالتدابر والتباغض والتباعد والانقسام، وعززت هذا الخطر الماحق وجعلته واقعا معاشاً، ما اتخذته سلطة بورتسودان من سياسات تمثلت في قرار تغيير العملة الذي فرض على الولايات التي تقع تحت سيطرة الجيش التعامل بعملة مختلفة عن تلك التي يتم تداولها في مناطق سيطرة الدعم السريع. وكذلك كان قرار إجراء إمتحانات الشهادة السودانية في الولايات التي يسيطر عليها الجيش وعدم قيامها في الولايات التي يسيطر عليها الدعم السريع، اضافة الى عدم إستطاعة قطاعات واسعة من الشعب السوداني إستخراج الأوراق الثبوتية، بل وحرمان البعض منها لأسباب سياسية وجهوية، وقد أدت هذه السياسات الممنهجة والمتعمدة الى تكريس واقع الانقسام القائم أصلاً بسبب الحرب التي تقاسم فيها طرفيها السيطرة على أجزاء البلاد، فقد قسمت الحرب السودان إلى جزئين، جزء في غرب السودان في دارفور وكردفان وهي تحت سيطرة ونفوذ قوات الدعم السريع التي تسعى الان بخيلها ورجلها للسيطرة على الفاشر، لتبسط نفوذها بالكامل على اقليم دارفور الذي يساوي مساحة دولة فرنسا وتنفرد به ملكية خالصة لها، وجزء آخر في شرق السودان في كسلا والقضارف والبحر الأحمر، وشمال السودان في نهر النيل والشمالية تحت سيطرة ونفوذ الجيش، في تجسيد عملي على الارض لما يسمى دولة النهر والبحر أو قل النسخة المحدثة والمطورة لما يعرف بمثلث حمدي، وأصبحت المناطق تحت سيطرة الدعم السريع تتبع لها بالكامل عسكرياً وإدارياً، وشكلت فيها مجالس للحكم خاصة بها دون أي وجود للحكومة فيها، وقد مثلت هذه الخطوات البداية الفعلية لتقسيم البلاد، وللأسف تسعى بعض القوى السياسية والحركات المسلحة المكونة لجماعة (تأسيس) بزيادة الطين بلة لتكريس واقع التقسيم، بعزمها على انشاء حكومة موازية والتمهيد لذلك باعلان تشكيل الهيئة القيادية للجماعة.

تنعقد هذه الأيام امتحانات الشهادة السودانية للمرة الثانية في ظل الحرب المستعرة التي دخلت عامها الثالث، حربٌ مزّقت البلاد وقسمت خريطته الجغرافية وأعادت رسم خطوط التماس بين القوى المتصارعة. وفي قلب هذا الجحيم، تقدّم آلاف الطلاب للجلوس لامتحانات مصيرية وسط ظروف استثنائية، بينما حُرم آلاف آخرون من هذا الحق لأسباب شتى على رأسها ان بعضهم يعيشون في مناطق سيطرة الدعم السريع، وبعضهم بسبب التهجير أو انعدام الأمن أو تعطل الخدمات الأساسية.ولم تكن الامتحانات هذه المرة هي الأولى التي يتحدى فيها الطلاب وذويهم الظروف السياسية والأمنية القاسية، لكن هذه الدورة تحديداً تكشف حجم التصدع العميق الذي أصاب جسد الدولة السودانية. فبعض المناطق مثل المرة الفائتة تشهد امتحانات بترتيب من سلطات بورتسودان، وأخرى تحت إدارة قوات الدعم السريع (السلطة الفعلية في مناطق سيطرتها)، في مشهد يعكس حجم الانقسام الجغرافي والسياسي الذي بات يتحكم في كل تفاصيل الحياة اليومية.

ورغم الجهود المبذولة لإقامة الامتحانات، إلا أن المشهد العام يوحي بأن العملية التعليمية لم تعد أولوية لدى الأطراف المتصارعة. فسلامة الطالب باتت مسؤولية فردية، والبيئة المدرسية تحولت إلى منطقة خطر دائم، والبنية التحتية لمعظم المدارس انهارت أو تحولت إلى ثكنات عسكرية.الوجه الآخر للأزمة يكمن في آلاف الطلاب الذين وجدوا أنفسهم خارج دائرة التعليم قسراً. هناك ولايات كاملة لم تُعقد فيها الامتحانات بسبب العمليات العسكرية المستمرة، وهناك طلاب فقدوا منازلهم وأوراقهم الثبوتية وحتى مدارسهم، فضلاً عن الذين فرّوا إلى دول الجوار أو إلى ولايات بعيدة ولم يتمكنوا من الالتحاق بمراكز الامتحانات.هذا الواقع يخلق جيلاً من المنقطعين قسراً الذين سيتحولون مع مرور الوقت إلى قنبلة موقوتة في جسد المجتمع السوداني، شباب بلا شهادات، بلا مهارات، وبلا مستقبل واضح. هذه الفئة ستكون الأكثر عرضة للانخراط في مسارات العنف والتجنيد في صفوف المليشيات أو الدخول في دوائر الجريمة المنظمة أو الهجرة غير النظامية.ولطالما كان التعليم صمام الأمان في المجتمعات الخارجة من الأزمات، وهو المفتاح لأي مشروع وطني للنهوض وإعادة الإعمار. لكن في الحالة السودانية مع الحرب، صارالنظام التعليمي نفسه واحداً من ضحايا الحرب، ما يعني أن البلاد تخاطر بفقدان جيل كامل، ليس فقط على المستوى الأكاديمي، بل على مستوى القيم والانتماء الوطني أيضاً.فاستمرار الحرب وتعطل العملية التعليمية بهذه الصورة سيؤدي إلى ضعف في الكوادر الوطنية، ويُعمّق أزمة نقص الكفاءات، كما سيؤثر سلباً على التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المديين المتوسط والبعيد. فكيف يمكن لدولة أن تتعافى إذا كان جيل المستقبل بلا تعليم وبلا فرص ، ان الأزمة الراهنة تفرض على القوى السياسية والمدنية أن تنظر إلى التعليم كأولوية قصوى في أي عملية تفاوض قادمة. يجب أن تكون هناك ضمانات حقيقية لحماية حق الطلاب في التعليم بغض النظر عن مناطق سكنهم أو القوى المسيطرة عليها. كما أن المجتمع الدولي مطالب بأن ينخرط بفعالية لدعم العملية التعليمية في السودان كجزء من استجابته الإنسانية، لا أن يكتفي بتقديم الغذاء والدواء فقط.المسألة اليوم تتجاوز امتحان شهادة إلى امتحان مصير أمة بأكملها. فإما أن نستدرك الأمر ونحفظ ما تبقى من هذا الجيل، أو نترك البلاد تسير بثبات نحو مستقبل أكثر قتامة.

 

 

 

الوسومحيدر المكاشفي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الدعم السریع تحت سیطرة

إقرأ أيضاً:

حرب لتصفية الثورة ونهب ثروات البلاد

تاج السر عثمان بابو ١ اشرنا سابقا إلى أنه لا يمكن تناول الحرب اللعينة الجارية في السودان بمعزل عن مخطط تصفية الثورة، وتفاقم الصراع بين المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب على الموارد في السودان، وصراع المحاور الذي يتمثل في : أمريكا وحلفائها ، روسيا، الصين، والإمارات، مصر وتركيا وايران التي بدأت تسليح الجيش، الخ، اضافة لدخول دول الجوار التي تنهب أيضا موارد السودان. الخ. على سبيل المثال جاء في صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية بتاريخ 20 يونيو 2025، : أن الذهب السوداني، الذي بلغ إنتاجه قرابة 80 طناً خلال عام 2024 بقيمة تجاوزت ستة مليارات دولار، لم يُستخدم لإنقاذ الاقتصاد المنهار أو لتأمين ::الخبز والدواء للضحايا، بل تحوّل إلى شريان رئيسي لتمويل طرفي الحرب: قوات الدعم السريع والقوات المسلحة. وقد نُقل أكثر من نصف هذا الذهب المهرب إلى دول مثل الإمارات وروسيا، مخترقًا العقوبات، ومدعومًا بشبكات دولية متشابكة تضم شركات أمنية، تجّار مواد كيميائية، ومليشيات محلية تتقاسم المناجم كما تتقاسم الخرائط. وقد تناولنا بالتفصيل في دراسة سابقة عن” نهب الذهب الدموي في السودان” ، كيف يتم تهريب و نهب الذهب. ٢ كما أوضحنا سابقا أن الحرب اللعينة جاءت في ظروف اشتد فيها الصراع الدولي على الموارد، الأزمة العامة للرأسمالية التي تفاقمت بعد فشل الإصلاحات لمواجهة أزمة الرأسمالية في العام 2008 /2009م، التي لم تكن جذرية، و بعد الحرب الروسية – الاوكرانية التي أدت لزعزعة النظام المالي الرأسمالي العالمي، وحرب غزة التي تستهدف إبادة وتشريد الشعب الفلسطيني، اضافة للحرب الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة وخطر تجددها على المنطقة، فهي حرب لنهب موارد المنطقة وتفكيكها لدويلات لا حول لها ولاقوة على أساس عرقي وديني ، وتزايد قوة الصين اقتصاديا التي يحاول ترامب تحجيمها بالرسوم الجمركية العالية، حيث ارتفعت مساهمتها في الاقتصاد العالمي بنسبة 12% ، بينما انخفضت مساهمة أمريكا في الاقتصاد العالمي بنسبة 20%، إضافة إلى أن تعليق روسيا المعاملات التجارية بالدولار سيؤدي إلى استكمال حلقة تفكيك هيمنة الدولار. كما تتفاقم الأزمات مثل: تراجع معدلات النمو الاقتصادي العالمي بسبب ارتفاع معدلات البطالة والتضخم والمديونية العامة، و الاستقطاب الطبقي، وشدة استغلال العاملين وتشريدهم ، وارتفاع الأسعار والتضخم، والانفاق العسكري علي حساب خدمات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي،وتفاقم الصراع بين اقطاب الرأسمالية” اليابان، الاتحاد الاوربي، الولايات المتحدة ، وصراعها مع الدول الرأسمالية أو الرأسمالية الدولية الصاعدة مثل : ” الصين، روسيا، الهند ، جنوب افريقيا ، البرازيل،.الخ”، واحتدام حدة الصراع على الموارد في البلدان النامية ومنها السودان. ٣ هذا اضافة لنهوض الحركة المطلبية والجماهيرية ضد البطالة ، وبعد أزمة كورونا التي حصدت الالاف من المواطنين، وضد العنصرية، وإلابادة الجماعية للشعب الفلسطيني من اسرائيل المدعومة ماليا وعسكريا من الولايات المتحدة الأمريكية، وتنامي الأحزاب الثورية بمختلف منطلقاتها المطالبة بالضمان الاجتماعي والعدالة والدفاع عن البيئة ووقف سباق التسلح والحرب ، واحترام حقوق الانسان، وحقوق المرأة، وضد الاحتباس الحراري الذي يهدد كوكبنا، ودعم التعليم ، الصحة، الدواء، وضد الخصخصة وتشريد العاملين ، والاضرابات الواسعة لتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والثقافية، فضلا عن تنامي دور الأحزاب الاشتراكية الشيوعية، وتنامي أحزاب اليسار كما في الانتخابات الفرنسية الأخيرة. كما يتفاقم الصراع الايديولوجي لتغبيش وعي الكادحين مثل : أن الماركسية والشيوعية تجاوزها الزمن، واحلال الاحسان من قبل بعض منظمات المجتمع المدني الممولة من مراكز الرأسمالية محل النضال والإنتاج من أجل تحسين الأوضاع المعيشية والثقافية والمعيشية، و ضد نهب ثروات الشعوب الزراعية والمعدنية والحيوانية مقابل فتات وقروض لا تسمن ولا تغني من جوع، وتدمر تلك البلدان وانتاجها ، وتجعلها تابعة ومتوجهة للخارج ولاهته وراء البنك والصندوق الدوليين ومؤسسات التمويل الرأسمالية الأخري لاغرافها في المزيد من الديون َما يجعلها خاضعة وتابعة ، وطلبا للمعونات بدلا من من التوجه للداخل لدعم الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي. لاشك أن التراكم النضالي للعاملين في مراكز الرأسمالية وبلدان التحرر الوطني أو البلدان النامية ، سوف يفضي الي ثورات أعمق من النهوض الجماهيري الواسع كما حدث في الربيع العربي وثورة ديسمبر في السودان التي مازالت جذوتها متقدة رغم محاولة طرفي الحرب اللعينة لتصفيتها، وثورات أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة مثل: احتلو”وول استريت” وضد العنصرية بعد اغتيال المواطن الزنجي فلويد، وثورات وبورما وموجة الاضرابات الواسعة للطبقة العاملة في جميع البلدان الرأسمالية وغيرها، وحركات الشباب والنساء والطلاب والمزارعين المطالبة بتحسين اوضاعها ، والنهوض الجماهيري لوقف إبادة الشعب الفلسطيني. الخ، وهذا التراكم سوف يحدث اختراقا في أضعف حلقات الرأسمالية، ويقود لعودة الأشتراكية بعنفوان اقوي من الماضي بعد الاستفادة من دروس التجربة السابقة. بالتالي، فان حرب السودان هي حلقة في سلسلة حروب المنطقة والعالم بهدف نهب الموارد الثروات في ظل اشتداد وتفاقم حدة الصراع بين أقطاب الرأسمالية في العالم. مما يتطلب أوسع نهوض جماهيري لوقف الحرب واسترداد الثورة وترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، ومواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها في السيادة الوطنية ووقف نهب ثروات البلاد. الوسومتاج السر عثمان بابو

مقالات مشابهة

  • 10 تهم في مواجهته.. الإعدام شنقا لمتعاون مع الدعم السريع في الأبيض
  • عاجل.. ضربة نوعية للجيش السوداني تربك تحركات الدعم السريع في الجنينة
  • اشتباكات دامية بين معدنين سودانيين وعناصر من “الدعم السريع”
  • ضربات جوية دقيقة على تمركزات “الدعم السريع” في شمال كردفان
  • سلاح الجو السوداني يباغت “الدعم السريع” في شمال كردفان
  • مناورة الدعم السريع الجديدة للتحايل على الهزيمة
  • “الخارجية السودانية” تكشف محاولات دولة الإمارات لعرقلة صدور إدانات دولية ضد الدعم السريع
  • يُشعل حرارة الجو.. ماذا تعرف عن منخفض الهند الذي يضرب البلاد؟
  • حرب لتصفية الثورة ونهب ثروات البلاد