ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية، يقول السائل فيه: ما حكم الذكر والصلاة على سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم بهيئة جماعية بين الركعات في صلاة التراويح؟

فضل الصلاة على سيدنا النبي وبيان معناها

وأكدت دار الإفتاء، أن من أفضل الأذكار التي يجب أن يحرص عليها المسلم هي الصلاة والسلام على سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه يجمع فيها بين ذكر الله تعالى والامتثال لأمره سبحانه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إضافة لما في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الانتفاع بخيري الدنيا والآخرة، كتضعيف الأجر، ومحبة الله تعالى، وصلاته على مَن صَلَّى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتزكية الأعمال، ورفعة الدرجات، وتحقيق الغايات وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح".

قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (2/ 306، ط. دار الوفاء): [معنى صلاة الله عليه: رحمته له، وتضعيف أجره على الصلاة عشرًا، كما قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾، وقد يكون على وجهها وظاهرها تشريفًا له بين ملائكته] اهـ.

وقال الإمام السخاوي في "القول البديع" (ص: 13-14، ط. دار الريان): [في ثواب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن صلَّى عليه من صلاة الله عزَّ وجَلَّ وملائكته ورسوله، وتكفير الخطايا، وتزكية الأعمال، ورفع الدرجات، ومغفرة الذنوب، واستغفارها لقائلها، وكتابة قيراط مثل أحد من الأجر، والكيل بالمكيال الأوفى، وكفاية أمر الدنيا والآخرة لمن جعل صلاته كلها صلاة عليه، ومحق الخطايا وفضلها على عتق الرقاب، والنجاة بها من الأهوال، وشهادة الرسول بها، ووجوب الشفاعة، ورضا الله ورحمته، والأمان من سخطه، والدخول تحت ظل العرش، ورجحان الميزان، وورود الحوض والأمان من العطش، والعتق من النار، والجواز على الصراط، ورؤية المقعد المقرب من الجنة قبل الموت، وكثرة الأزواج في الجنة، ورجحانها على أكثر من عشرين غزوة، وقيامها مقام الصدقة للمعسر، وأنها زكاة وطهارة وينمو المال ببركتها وتقضى بها مائة من الحوائج بل أكثر، وأنها عبادة، وأحب الأعمال إلى الله، وتزين المجالس، وتنفي الفقر وضيق العيش، ويلتمس بها مظان الخير، وأن فاعلها أولى الناس به، وينتفع هو وولده وولد ولده بها ومن أهديت في صحيفته ثوابها، وتقرب إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى رسوله، وأنها نور، وتنصر على الأعداء، وتطهر القلب من النفاق والصدأ، وتوجب محبة الناس] اهـ.

حكم الصلاة والسلام على سيدنا النبي بهيئة جماعية في صلاة التراويح

وأوضحت دار الإفتاء، أن الذكر بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بهيئة جماعية في فواصل الاستراحة التي بين ركعات صلاة التراويح هو ذكرٌ عقب الصلاة، وهو من مواطن استجابة الدعاء، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء: 103]، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق: 40]، قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أَمَرَهُ أَنْ يُسَبِّحَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا"، يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾. أخرجه البخاري في "الصحيح".

كما أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة مطلقًا، سواء كانت فرضًا أو نفْلًا أو تراويح، كما قال الإمام النووي في "الأذكار" (ص: 70، ط. دار الفكر).

وقد ورد الأمر الشرعي بذكر الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقًا، ومن المقرر أن الأمر المطلق يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فالأمر فيه واسع، وإذا شرع الله سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق وكان يحتمل في فعله وكيفية إيقاعه أكثر من وجه، فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته، ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليلٍ، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب: 41- 42]، فهذا خطاب للمؤمنين يأمرهم بذكر الله تعالى، وامتثال الأمر حاصل بالذكر من الجماعة كما هو حاصل بالذكر من الفرد.

وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28]، وامتثال الأمر بمعية الداعين لله يحصل بالمشاركة الجماعية في الدعاء، ويحصل بالتأمين عليه، ويحصل بمجرد الحضور.

نصوص العلماء في هذه المسألة

وأشارت دار الإفتاء، إلى أن النصوص والآثار كثرت في استحسان الذكر جهرًا في جماعة، سواء أكان ذلك عقب الصلاة أم غير ذلك، فأما جواز الذكر جهرًا واستحسانه في عموم الأوقات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» أخرجه الشيخان.

قال الحافظ السيوطي في "نتيجة الفكر في الجهر بالذكر" (1/ 376، ط. دار الكتب العلمية، مطبوع ضمن "الحاوي للفتاوي"): [والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر] اهـ.

وقد ساق الإمام السيوطي في رسالته هذه خمسة وعشرين حديثًا تدل على مشروعية الجهر بالذكر، ثم قال عقبها محققًا الكلام في ذلك (1/ 470-471): [إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه، إما صريحًا أو التزامًا كما أشرنا إليه، وأما معارضته بحديث: «خيرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ» فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث: «الْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ»، وقد جمع النووي بينهما: بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. وقال بعضهم: يُستَحَبُّ الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها، لأن المسر قد يملُّ فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكلُّ فيستريح بالإسرار. انتهى، وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث] اهـ.

وقال العلامة الدهلوي في "لمعات التنقيح" (5/ 34، ط. دار النوادر): [وقوله: (وإن ذكرني في ملأ).. .وفيه دليل على جواز الذكر جهرًا] اهـ.

حكم الجهر بالذكر عقب ختم الصلاة

وتابعت دار الإفتاء: أما جواز الذكر جهرًا بعد ختام الصلاة: فقد تواردت النصوص والآثار على مشروعية ذلك، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخبر: «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ» وعنه أيضًا أنه قال: «كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ، إِذَا سَمِعْتُهُ» أخرجه الشيخان.

وعَنه رضي الله عنه أنه قَالَ: «كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح".

قال العلامة الفاكهاني في "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" (2/ 560، ط. دار النوادر): [ظاهرُه: جوازُ أو استحبابُ رفع الصوت بالذِّكْر والتكبير عقبَ المكتوبة.

قال الطبري: فيه الإبانةُ عن صحة فعلِ مَنْ كان يفعل ذلك من الأمراء، يُكَبِّر بعدَ صلاته، ويُكَبِّر مَنْ خلفه، وممن قال باستحبابه من المتأخرين: ابنُ حزم الظاهري] اهـ.

وعن أبي الزبير، قال: كان ابن الزبير رضي الله عنه يقول في دُبر كل صلاة حين يسلم: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» وَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح".

وقال العلامة ابن رجب في "فتح الباري" (7/ 400، ط. مكتب تحقيق دار الحرمين): [ومعنى "يهلل": يرفع صوته، ومنه: الإهلال في الحج، وهو رفع الصوت بالتلبية، واستهلال الصبي إذا ولد.وقد كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يجهرون بالذكر عقب الصلوات حتى يسمع من يليهم] اهـ.

وقال العلامة النفراوي في "الفواكه الدواني" (1/ 193، ط. دار الفكر): [اختلف هل الأفضل في الأذكار الواردة عقب الصلوات السر أو الجهر؟ قال بعضهم: يستحب رفع الصوت بها لما في "الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كُنْت أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ» وفي "مسلم" من حديث الزبير رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ بِصَوْتِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»] اهـ.

وقال العلامة الطحطاوي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 318، ط. دار الكتب العلمية): [ونص الشعراني في "ذكر الذاكر للمذكور والشاكر للمشكور" ما لفظه: وأجمع العلماء سلفًا وخلفًا على استحباب ذكر الله تعالى جماعة في المساجد وغيرها من غير نكير، إلا أن يشوش جهرهم بالذكر على نائم أو مصل أو قارئ قرآن] اهـ.

وقد نصَّ الإمام الكاساني على جواز الذكر بالصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفواصل التي بين ركعات صلاة التراويح، فقال في "بدائع الصنائع" (1/ 290، ط. دار الكتب العلمية): [ومنها: أن الإمام كُلَّمَا صَلَّى ترويحة قعد بين الترويحتين قدر ترويحة يُسَبِّحُ، ويهلِّلُ ويكبِّر، ويُصلِّي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويدعو، وينتظر أيضًا بعد الخامسة قدر ترويحة، لأنه متوارث من السلف] اهـ.

واختتمت دار الإفتاء: بناء على ما سبق عرضه، وفي واقعة السؤال: فإن الصلاة والسلام على سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهيئة جماعية بين الركعات في صلاة التراويح جائز شرعًا، بل هو من جملة المستحبات.

اقرأ أيضاًدعاء سادس أيام رمضان.. اللهم أنت القادر على كل شيء

حكم صيام المرأة غير المحجبة.. دار الافتاء تكشف رأى الشرع

سادس أيام رمضان 2024.. موعد أذان الفجر والمغرب ومواعيد الإمساك ومواقيت الصلاة

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: الاذكار في رمضان القرب من الله حكم دار الافتاء في رمضان دار الافتاء رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم على النبی صلى الله علیه وآله وسلم الصلاة والسلام على سیدنا على سیدنا النبی ذکر الله تعالى صلاة التراویح وقال العلامة الجهر بالذکر رضی الله عنه قال العلامة دار الإفتاء رسول الله ص الصلاة على قال تعالى وآله و س ل ول الله ص اهـ وقال ى الله ع ه وآله ا الله

إقرأ أيضاً:

جلال السيرة النبوية

 

كان – صلى الله عليه وآله وسلم – يسير في الناس كأحد الناس، لا يميزه عنهم إلا ذلك الخُلق العظيم الذي أحدث ضجّة في الأرض، لفتت الأنظار، وحوّلت مجرى الليل والنهار، وذلك المنهج القويم الذي ربط به الأرض بالسماء، والماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، وقَرَن العمل بالجزاء، والدنيا بالآخرة، فشعر الإنسان بالطمأنينة والراحة، حينما وجد نفسه حراً طليقاً ومخلوقاً أنيقاً لا يعنيه من أمر دنياه إلا التنقل والتطور بين تلك النواحي المرتبطة ببعضها فكرياً وروحياً، فجعل ينظر في ملكوت السموات والأرض، ويأخذ من ماضيه لحاضره، ويعمل في دنياه لآخرته.

وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – جديداً على الزمن، وحدثاً طارئاً علــى التاريخ وذلك بالنسبة للفترة الماضية التي توعك فيها العقل البشري بين جاهلية جهلاء، وعنجهية رعنــاء، لو نظر إلى خلفه لم يجد وراءه آثارةٌ مــن علـــم أو أثراً لرسول.

وكان – صلى الله عليه وسلم – عنصراً لطيفاً خارقاً للمألوف البشري وهو من جنسه وعنصره، لأنه كان قلباً لهذا الكون مليئاً بالرحمة والجبروتية يساومه القوم بدعوته فلا ينحني، ويقاومونه فلا ينثني.

وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – يخطو فــي حياتــــه الأولــــى خطــوات موجــزة لم يعرف لها تفصيلاً من بعد إلا فــي حياة الرسالة.

وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – فـي جميع مواقفه الحرجة وظروفه القاسية وفي مجتمعه العاتي العنيد مرفوع الرأس مهيب الجانب محاطاً بالعناية الإلهية التي تركت حباً فـي قلوب أنصاره ورعباً في قلوب خصومه وأعاديه فلم يقف يوماً من الأيام موقفاً مهيناً، أبداً قط، لأن موقفه مع ربه أكبر من موقفه مع نفسه، وموقفه مع نفسه أخطر من موقفه مع الناس.

وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – هو الواسطة العظمى التي لا ينال الإنسان سعادة الدنيا والآخرة إلا به، لأنه كان في المجتمعات البشرية بمنزلة الرأس من الجسد فلا تستقيم حياته إلا به، ولا يتلقى أغذيته الروحية والجسدية إلا منه.

وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – واقفاً بدعوته إلى الله بين أمرين خطيرين إجبارياً محضاً، واختيارياً بحتاً، وهما الوحي والتبليغ، يتلقى العلوم الإلهية من عالم الغيب بصورة إجبارية {اقْرَأْ} قال: ما أنا بقارئ؟

ثم يفضي بها إلى عالم الشهادة بطريقة اختيارية {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} فيبلغ ما تلقاه من الوحي الإلهي المنقسم بمقتضى الحكمة الإلهية أقساماً ثلاثة: (منطقياً، وإلهامياً، وفطرياً).

فالوحي المنطقي هو : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ }.

والإلهامي هو: عناية الله التي تنير آفاق القلب، فيتدارك ما فاته أن يقول، أو يلزمه أن يفعل.

والفطري: مراعاة أذواق الأمم ومخاطبتها بقدر ما تفهم.

وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – ينقل بدعوته للأرض تحيات السماء، ويعلن للعالمين ذلك البيان الخالد والقول الفصل، الذي نراه اليوم في صفحات الأيام سطوراً وضاءةً وحروفاً نيّرة، ونسمع منه في أفواه الطبيعة نغمات أزلية، وأهازيج قدسية تهتز لها مشاعر النفوس، وتخشع لها القلوب التي في الصدور.

وكان _صلى الله عليه وسلم _يعالج بنفسه المشاكل الاجتماعية، ويعمل وحده أعمالاً جذرية، فيقلع من وجه الأرض جميع الشرور والآثام، ويبذر فيها هذه الغروس اليانعة التي نتفيأ اليوم ظلالها، ونجني ثمارها وأزهارها.

وكان_ صلى الله عليه وآله وسلم_ يقود بسياسته الحكيمة جموع البشرية بين ذلك الظلام الحالك، وتلك الزوابع الطائشة، فنجا من كوارثها قومه، وسلم من زوابعها مصباحه حتى وصل بهم إلى فجر السلامة والنور الذي نجد منه اليوم في جميع الحركات والخواطر دليلاً قاطعاً ومصباحاً لامعاً.

وكان صلى الله عليه وسلم يرسم في حياته لبني الإنسان المناهج الواضحة في دينهم ودنياهم والتوجيهات القيمة التي نسير عليها اليوم بعقائد صحيحة لا يطرأ عليها الشك، ولا تجد الأوهام إليها سبيلاً.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمر بدعوته بين تلك الصفوف البغيضة المعادية، ويلاقي منهم كل يوم أنواع المتاعب والمهازل، وضروب المكايد والمؤامرات في جو مليء بالتناقضات العقلية والفكرية، وحروب مع الأهواء والغرائز والطبائع ونزاع الصفوف وقراع السيوف، فأحبط كل ما دبروا، وأحرز في كل خطوة من خطواته هذا الانتصار الرائع الذي لم تسكت ولن تسكت الأفواه والأقلام عن مدحه والإشادة به والتنديد بخصومه ومناوئيه حتى ظهر دينه على كل دين ورسخ حبه في كل قلب إلى أبد الآبدين.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يفاجئ الدنيا كلها بتاريخها الكامل الممتد بين الأزل والأبد، ليدخل بالإنسان من أوسع أبوابه، فيخبر عن الماضي، ويتنبأ للمستقبل ثم يحاول أن يأخذ في نفس الوقت من أخبار الأمم الغابرة، وأنباء الأجيال القادمة، بما يدفع أمته تلقائياً إلى توحيد سلوكهم، وتطوير مجتمعهم والنهوض بهم إلى هذا المستوى الذي نعيش فيه اليوم هانئين مغتبطين مؤمنين بالغيب متفائلين بالسعادة الأبدية، نسير في ركبه وإلى رضى ربه.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصارع التاريخ الذي وقف موقفاً مضاداً، فيتخوله أحياناً بالموعظة والحكمة، ويتوعده تارةً بالعذاب والنقمة، حتى بهره بحكمته وقهره بسطوته، فخاطبه وجهاً لوجه، وألقى في أذنه من هداية الله ما ألقى في أذنه، وأفرغ في روعه من خوف الله ما أفرغ في روعه، ونفش في صدره من الأسرار والحكم، ولم يضن عليه بشيء مما أوحي إليه أو يعامله بشيء مما وجهه من اللوم عليه، لأنه حريص على إسعاده، وبالمؤمنين رؤوف رحيم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله ومن أهتدى بهديه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين

مقالات مشابهة

  • العالمي للفتوى يوضح مظاهر رحمة النبي للحيوانات
  • تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024 في محافظة البحيرة
  • وصية نبوية لإتمام صلاة الجماعة يغفل عنها كثيرون.. ما هي؟
  • الإفتاء توضح أدلة جواز التوسل بالنبي في الدعاء
  • هل احتفل الصحابة بالمولد بعد موت النبي؟
  • دار الإفتاء توضح وقت إجابة الدعاء يوم الجمعة
  • جلال السيرة النبوية
  • النبي (صلى الله عليه وسلم) معلمًا ومربيًا
  • وزير الأوقاف: نحن مأمورون بالفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
  • تعرف علي مواقيت الصلاة اليوم الخميس 19-9-2024 في محافظة البحيرة