«البرازيل ليست حديقة خلفية».. بين تحدي الهيمنة وصعود القوة الناعمة في الجنوب العالمي
تاريخ النشر: 30th, July 2025 GMT
منذ عودته إلى سدة الحكم، رفع الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا شعار «البرازيل أولًا»، ليس كنسخة مقلّدة من شعارات قومية أخرى، بل كتعبير صادق عن رغبة وطنية لكسر حلقة التبعية والهيمنة، وإعادة تعريف موقع البرازيل على الخريطة العالمية.
في زمن تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتتفكك فيه مراكز القوة التقليدية، قررت برازيليا أن تكون أكثر من مجرد قوة إقليمية: أن تصبح لاعبًا عالميًا له موقف مستقل، ورؤية مختلفة للعالم، بعيدًا عن الوصاية الغربية.
تسعى البرازيل اليوم لتكون رافعة جديدة للاقتصاد العالمي من خلال دورها المحوري في مجموعة «بريكس»، وتوسيع نفوذها في ملفات التنمية، والطاقة النظيفة، والمناخ، والغذاء، وأيضًا عبر سياسة خارجية متوازنة تراعي العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
في هذا السياق، برز موقفها المتقدم من قضايا الشرق الأوسط، وخصوصًا في دعمها لحل الدولتين في فلسطين، ورفضها القاطع لأي تدخل عسكري أجنبي في سوريا، وإدانتها للحصار على غزة، ما جعل منها صوتًا جنوبيًا حرًا يعيد التوازن في خطاب العلاقات الدولية.
ولا يمكن تجاهل الدور المتنامي للجاليات العربية في الداخل البرازيلي، لا سيّما من أصل لبناني وسوري وفلسطيني، التي تجاوزت عدة ملايين من السكان، وساهمت في تشكيل المزاج العام والسياسات، سواء في البرلمان أو الإعلام أو التجارة.
لقد أصبحت هذه الجاليات جسرًا ثقافيًا واقتصاديًا وإنسانيًا، يعزّز من روابط البرازيل بالمنطقة العربية، ويجعلها في قلب الحسابات الجديدة لما بعد عصر الهيمنة.
ترامب ونظرة التسلط المستمرةفي هذا الإطار، يبرز موقف الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، الذي لا يزال يتعامل مع أمريكا اللاتينية بعقلية الحرب الباردة. يعتقد ترامب أن البرازيل مجرد "حديقة خلفية"، وأن بإمكانه توجيه قراراتها، أو على الأقل ليّ ذراعها اقتصاديًا من خلال فرض ضرائب وعقوبات غير معلنة على صادراتها تحت ذرائع بيئية أو سياسية أو تجارية.
لكن هذه النظرة الفوقية تصطدم بواقع مختلف: البرازيل لم تعد تلك الدولة التي تُدار من واشنطن، بل باتت أكثر جرأة في رفض الإملاءات، وأكثر وعيًا بمصالحها القومية، كما ظهر في ملفات كبرى تتعلق بعلاقاتها مع الصين وروسيا، ورفضها التدخل في نزاعات لا تعنيها إلا من منظور العدالة الدولية، وليس الاصطفاف السياسي.
صراع الضرائب.. أم صراع السيادة؟في الأشهر الأخيرة، تصاعد التوتر التجاري بين البرازيل وبعض القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في شكل ضغوط مالية وضرائبية تمس قطاعات استراتيجية في الاقتصاد البرازيلي، مثل الزراعة والتعدين والطاقة.
هذه "الإتاوات الجديدة" ليست مجرد أدوات ضغط تجارية، بل هي شكل من أشكال تقييد القرار السيادي، وإجبار البرازيل على إعادة تموضعها الجيوسياسي.
البرازيل من جانبها لم تقف مكتوفة الأيدي، بل بدأت في تعزيز شراكاتها مع دول الجنوب العالمي، والانخراط بعمق أكبر في مبادرات بديلة للنظام المالي الغربي، سواء عبر بنك التنمية التابع للبريكس، أو في تعزيز التجارة بالعملات المحلية بعيدًا عن الدولار.
هل تستطيع البرازيل المواجهة؟الجواب نعم، ولكن بشروط، فالبرازيل تملك مقومات القوة: اقتصاد كبير ومتنوع يُعد من أكبر 10 اقتصادات في العالم، وموارد طبيعية هائلة تؤهلها لتكون قوة غذائية وطاقوية عظمى، وتحالفات استراتيجية مثل «بريكس+»، تمنحها بدائل للنظام الغربي، فضلًا عن رأي عام محلي بات أكثر وعيًا ورفضًا للهيمنة الأجنبية.
وفي المقابل، تحتاج إلى تحصين مؤسساتها السياسية ضد محاولات زعزعة الاستقرار، وإصلاح داخلي جاد يعالج التفاوت الاجتماعي ويعزز الثقة، وإعلام مستقل يستطيع أن يعبّر عن الرؤية الوطنية دون الوقوع في فخ الدعاية.
البرازيل والتاريخ المعاد كتابتهتخوض البرازيل اليوم معركة رمزية كبرى، ليست فقط على مستوى التجارة أو المناخ أو السياسة، بل على مستوى سردية «من يملك الحق في القرار».
لم تعد مستعدة لأن تكون تابعًا، بل شريكًا متكافئًا في كتابة فصول النظام العالمي الجديد.وكما قال أحد المحللين البرازيليين: «الاستقلال لا يُستعاد فقط من الاستعمار، بل من كل وصاية جديدة تتخفى خلف خطاب ديمقراطي أو بيئي أو أمني».
البرازيل إذن، ليست حديقة خلفية لأحد، بل غابة سيادية كثيفة، فيها ما يكفي من الجذور والأغصان لتقاوم الرياح القادمة من الشمال.
كاتب وباحث في الشؤون الجيوسياسية والصراعات الدولية. [email protected]
اقرأ أيضاًوزير الخارجية يلتقي نظيره البرازيلي في نيويورك لبحث جهود وقف إطلاق النار بغزة
رئيس البرازيل يرفض تهديدات ترامب: لن نخضع للضغوط
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: الاقتصاد العالمي البرازيل صراع الضرائب
إقرأ أيضاً:
خبير سياسي: إعلان ترامب عن المرحلة الثانية مجرد ضغط سياسي… والتنفيذ الحقيقي ما زال بعيدًا
تشهد الساحة الإقليمية حراكًا سياسيًا مكثفًا حول مستقبل الترتيبات في قطاع غزة، وسط تساؤلات متزايدة عن ملامح المرحلة المقبلة والقدرة على تنفيذها في ظل التعقيدات الميدانية وتباين مواقف الأطراف المختلفة.
وبينما تتسارع التصريحات الدولية حول اقتراب الانتقال إلى مرحلة جديدة، يظل المشهد محاطًا بكثير من الغموض والضغوط، ما يجعل أي حديث عن حلول أو تفاهمات رهينًا بحسابات دقيقة وتوازنات حساسة في المنطقة.
سعيد الزغبي: واشنطن تستعجل الانتقال في غزة… لكن الأرض لا تزال غير جاهزةقال أستاذ السياسة سعيد الزغبي في تصريحات صحفية خاصة لموقع صدى البلد إن إدارة ترامب تريد دفع الانتقال السريع إلى المرحلة الثانية لإرساء إدارة انتقالية وأمن دولي قبل أن يتفكك التفاهم السياسي ويستغله الطرفان.
وأكد أنه من الواضح أن ملامح المرحلة الثانية تتضمن انسحابا إسرائيليا أوسع، وقوة دولية، وهيكل حكم انتقالي، بما في ذلك ما سماه ترامب “Board of Peace”، لكن تفاصيل التنفيذ ما زالت تواجه اعتراضات إقليمية وفنية كبيرة.
وقال الزغبي إن التصريحات المتفائلة من نوعية “ستحدث قريبًا” تعكس رغبة أميركية في إبراز إنجاز سياسي قبل محطة زمنية مهمة، لكنها تخفي صعوبات عملية وسياسية حقيقية على الأرض.
وأوضح أن الولايات المتحدة تريد ترسيخ وقف ناري سياسي قابل للاستمرار عبر الانتقال من هدنة مؤقتة إلى ترتيبات حكم وأمن مؤسساتية تمنع عودة القتال، وهو ما يفسر برأيه تسرع الإعلان عن “المرحلة الثانية”.
وأشار الزغبي إلى أن واشنطن تريد أيضًا تفكيك سيطرة حماس على الإدارة اليومية لقطاع غزة تدريجيًا، من خلال تخفيض دورها في الحكم والقدرة العسكرية، عبر آليات خارجية إقليمية ودولية تعوّض جزءًا من سلطتها.
كما تسعى إلى بناء تحالف دولي يشارك في الاستقرار عبر قوات أو مساعدات أو ضغط دبلوماسي بدل الارتكاز الكلي على الطرف الإسرائيلي أو طرف عربي واحد، وهو ما يفسر الحديث عن دول خليجية وإسلامية مرشحة للمشاركة دوليًا.
ولفت الزغبي إلى أن هناك قيودًا كثيرة تعرقل التنفيذ، أبرزها نقص الثقة بين الأطراف المحلية والإقليمية؛ فبعض قيادات إسرائيل تخشى أن يلزمها ذلك بالانسحاب الكامل من مناطق استراتيجية، بينما لا تثق الفصائل الفلسطينية بأي تنازلات من دون ضمانات ملموسة. وهناك أيضًا محدودية رغبة الدول المساهمة، إذ تتردد دول عربية عديدة في إرسال قوات أو تحمل تبعات أمنية وسياسية داخلية، إلى جانب اشتراط المانحين ضمانات ومقاييس واضحة.
وأضاف أن قضية الأسرى والجثامين والشرعية المحلية تشكّل بدورها عامل ضغط قد يبطئ أو يعرقل الانتقال ما لم تحل ملفات حساسة أولًا.
وأكد الزغبي أن تصريحات ترامب “سيحدث قريبًا” تسخّن السوق السياسي والإعلامي وتضع ضغطًا على الشركاء لإظهار نتائج، لكنها في الواقع تُستخدم كأداة ضغط لتسريع المفاوضات وتجميل صورة إنجاز سياسي.
وأوضح الزغبي أن المشهد الحالي يقود إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة. السيناريو الواقعي الأرجح هو “الانتقال المتدرج مع تعديلات”، حيث تعلن واشنطن عناصر المرحلة الثانية مثل القوة الدولية وأسماء المجلس الانتقالي، لكن التنفيذ يكون متدرجًا ومشروطًا بتسليم ملفات فنية مثل قوائم الأسلحة وضمانات الأسرى، ما يؤدي إلى تحسن نسبي في الاستقرار بينما تتأخر التغييرات الجوهرية.
أما السيناريو المتفائل فيتمثل في “توافق إقليمي وتنفيذ سريع”، حيث توافق دول إقليمية على مشاركة رمزية أو لوجستية، وتقبل إسرائيل بانسحابات محددة، وتمنح السلطة الفلسطينية دورًا تدريجيًا، ما ينتج عنه مرحلة انتقالية ناجحة نسبيًا لكنها تحتاج متابعة دولية مكثفة ووثائق تنفيذية تفصيلية.
بينما السيناريو المتشائم يقوم على “تجميد أو تراجع”، من خلال اعتراضات إسرائيلية إقليمية وضغوط ملف الأسرى أو خروقات ميدانية قد تفضي إلى تجميد المرحلة الثانية أو استئناف عمليات عسكرية محلية، ما يعني انهيارًا سياسيًا للاتفاق وعودة التوتر.
ويرى الزغبي أن الإدارة الأميركية تصبو إلى ثلاثة أهداف رئيسية: ضمانات تشغيلية عبر قوائم تفكيك عسكرية ومعايير واضحة لعمل القوة الدولية، وتأمين دبلوماسي بإقناع فاعلين إقليميين بالمشاركة أو الدعم السياسي لتخفيف العبء على واشنطن وإسرائيل؛ وآليات متابعة ومساءلة عبر مراقبة دولية وإطار زمني محدد وحوافز لتنفيذ العناصر المتفق عليها.
وقال إن تأثير المرحلة الثانية سيمتد إلى جميع الأطراف؛ فبالنسبة لإسرائيل قد يؤدي الانتقال إلى تخفيف التوتر الداخلي إذا رأت أنه يحمي المواطنين، أو إلى شقاق حكومي إذا اعتبر الانسحاب مخاطرة أمنية.
وبالنسبة للفلسطينيين قد يصعد دور السلطة إذا نجحت الإصلاحات أو يزيد التفكك السياسي إذا فشلت الخطة. أما بالنسبة للدول الإقليمية والمساهمة، فالمرحلة اختبار لمدى استعدادها لتحمل عبء أمني وسياسي خارج حدودها، وهو ما قد يغير موازين التحالفات في المنطقة.
واختتم الزغبي تصريحاته بالتأكيد على أن الإدارة الأميركية تسعى إلى تحويل وقف النار إلى ترتيب سياسي دائم عبر المرحلة الثانية، لكن إعلان ترامب المتفائل يعكس رغبة سياسية وقتية أكثر مما يعكس جاهزية تقنية أو قبولًا إقليميًا كاملًا.
وشدد على أن نجاح هذه المرحلة يتطلب تنسيقًا دوليًا أقوى، وحلولًا عملية لقضية الأسرى والأمن، ومرونة في التفاصيل المؤسسية، محذرًا من أنه في غياب ذلك قد يتحول الإعلان إلى مشهد إعلامي مليء بالتحديات بدلًا من انتقال مستدام على الأرض.