"عن اليمن بودكاست والحلقة الاستثنائية مع الصحفي والباحث سعيد ثابت"

في زمن تزدحم فيه المنابر بالصخب والادعاء، وتُختزل الحركات الكبرى في سرديات متعجلة، جاءت حلقة “من الإخوان إلى الإصلاح: قصة الحركة الإسلامية في اليمن” التي قدّمها “اليمن بودكاست” وأدارها الإعلامي أسامة عادل، لتقدّم مادة مختلفة في شكلها ومضمونها، وتفتح نافذة موثّقة على واحدة من أكثر التجارب السياسية اليمنية جدلًا وإثارة للتأمل.

لم تكن الحلقة مجرد إضافة أرشيفية إلى محتوى سياسي متكرر، بل بدت وكأنها عمل توثيقي نادر يعيد ترتيب الذاكرة السياسية اليمنية، ويخوض بأسلوب هادئ ومتماسك في ملف غالبًا ما عُولج بخفة أو عدائية أو اختزال.

بعيدًا عن الشعارات الجاهزة والتصنيفات المقولبة، بدا الحوار وكأنه محاولة لاستعادة الفكرة من تحت ركام المعارك، وإعادة قراءتها في سياقها الزمني والاجتماعي، لا من خلال عدسة الاستقطاب الإقليمي أو صراع الهوية السياسية المعاصرة.

ضيف الحلقة الباحث والصحفي المعروف سعيد ثابت سعيد، لم يبدُ كضيف تقليدي يسرد ما حفظه من تواريخ، بل كمراقب عميق حمل ذاكرة جماعية عن الحركة الإسلامية في اليمن، وسعى بلغة هادئة ونبرة متزنة إلى إعادة تركيب تلك الذاكرة دون انفعال أو تبرير، فلم يتحدث كناشط حزبي أو كاتب منحاز، بل كمن عاش تفاصيل المشهد من الداخل، ورصد تحوّلاته عن قرب عبر محطات متعددة.

تناول سعيد ثابت التجربة الإسلامية في اليمن بوصفها مسارًا اجتماعيًا وفكريًا وسياسيًا معقّدًا، له جذوره المحلية وتحوّلاته الخاصة، فبدأ من البدايات الفكرية للحركة، ثم انتقل إلى لحظة التشكل التنظيمي، مرورًا بعقود من الحضور في السلطة والمعارضة معًا، حديثه، الذي امتد لأكثر من ساعتين، لم يكن مجرد عرض زمني للأحداث، بل مراجعة نقدية موثقة تسبر أغوار التجربة، وتضع كل مرحلة في سياقها، لتعيد التذكير بأن الحركات السياسية لا يمكن فهمها خارج بيئتها الأولى وظروف نشأتها

في هذا المقال، سنقترب أكثر من أبرز المحاور التي تناولتها الحلقة، ونفكك بعض ما طرحه سعيد ثابت من رؤى وسرديات، لا بوصفها شهادات عابرة، بل كوثيقة تسهم في بناء سردية يمنية أكثر توازنًا وعمقًا حول مسار لم يُروَ بعد كما يجب.

عودة إلى الجذور: حين كان المشروع يمنيًا بحتًا

من البداية، أعاد سعيد ثابت الحديث إلى نقطة الانطلاق، إلى ما قبل تأسيس حزب الإصلاح، حين لم تكن هناك أحزاب، ولا تعددية سياسية، بل فقط أفكار ومشاريع ورجال يحملون رؤاهم على أكتافهم، ويجوبون بها من عدن إلى صنعاء.

تحدّث عن البدايات الأولى للحركة الإسلامية في اليمن، حين تأثر بعض الطلاب اليمنيين في مصر بأفكار حسن البنا وسيد قطب، لكنهم ، كما أوضح الباحث سعيد ثابت، لم يعودوا إلى اليمن كمنفذين لتعليمات خارجية، بل عادوا بمشروع محلي يرون فيه مخرجًا لبلدهم من الاستبداد والفقر والجهل.

أسماء مثل عبدالمجيد الزنداني وعبده محمد المخلافي، كانت من أوائل من صاغوا هذا الاتجاه في نسخته اليمنية، لم يكونوا يطمحون لتأسيس “فرع” تابع لتنظيم دولي، بل كانوا يريدون أن يبنوا تجربة يمنية ذات خصوصية، ومن هنا جاءت فكرة المعاهد العلمية، التي رأى فيها ثابت أنها لم تكن أداة تجييش، بقدر ما كانت محاولة لبناء جيل جمهوري، متدين، ومحصن فكريًا في وجه الماركسية والطائفية معًا.

هذا التأسيس الذي تم في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي كان نقطة مفصلية، لأنه حدث بإرادة سياسية يمنية، لا بتدخل خارجي ولا تمويل مستورد، وهو ما حاولت الحلقة التأكيد عليه أكثر من مرة: أن الإسلاميين في اليمن لم يكونوا في يوم من الأيام مجرد نسخة محلية عن مشروع خارجي.

حزب الإصلاح.. كيان سياسي أم امتداد تنظيمي؟

في الجزء الأهم من الحلقة، تحدث سعيد ثابت عن نشأة التجمع اليمني للإصلاح بعد الوحدة، وكيف أن تأسيس الحزب لم يكن مجرد إعادة تموضع للإخوان المسلمين، بل كان استجابة طبيعية لتحوّل الدولة إلى العمل الحزبي التعددي.

أشار في حديثه إلى أن الإصلاح ضمّ في تركيبته منذ اللحظة الأولى مشايخ قبائل، وقادة عسكريين، وعلماء دين، وشخصيات اجتماعية، إلى جانب التيار الإسلامي التقليدي، وهذه الهُوية المركبة هي ما جعلته حزبًا سياسيًا بامتياز، يشتبك مع الواقع ويخوض الانتخابات، ويتحالف مع المؤتمر الشعبي، ثم يدخل في “اللقاء المشترك” مع خصومه الأيديولوجيين في مرحلة لاحقة.

لكن، وكما أوضح سعيد ثابت، فإن هذا التماهي مع الدولة "خصوصًا في فترة التحالف مع صالح" كان سيفًا ذا حدين، فقد منح الإصلاح نفوذًا واسعًا، لكنه في الوقت نفسه حمّله تبعات العلاقة بالسلطة، فحين انقلبت السلطة، كان الحزب هو أول من تلقّى الضربة، وأول من اتُّهم بكل شيء.

وهنا كان الطرح النقدي حاضرًا في كلام سعيد، دون مواربة: الإصلاح ارتكب أخطاء، نعم، لكنه لم يكن يومًا مشروعًا انقلابيًا أو عنفيًا، وإذا كان قد ضعف سياسيًا بعد 2015، فليس لأنه انهار تنظيميًا، بل لأن السياق كله تغيّر، وتحول المشهد من العمل السياسي إلى واقع مليء بالسلاح والتحالفات الإقليمية المعقدة.

تفكيك الأكذوبة: الإصلاح ليس مكتب بريد للإخوان

من اللحظات المهمة في الحلقة، تلك التي تناولت فيها النقاشات المتكررة حول اتهام الإصلاح بأنه فرع للإخوان، سعيد ثابت لم ينكر التأثر الفكري، لكنه شدد أن التنظيم لم يكن امتدادًا عضويًا للإخوان، لا تنظيميًا ولا سياسيًا.

بل على العكس، قدّم سردًا دقيقًا لمسارات الاستقلال المبكر، من رفض تأسيس خلايا تابعة، إلى بناء مشروع يمني داخلي، يشتبك مع الواقع المحلي ولا ينتظر التعليمات من الخارج.

قوة هذا الطرح أنه لم يُقدَّم كرد فعل دفاعي، بل كوقائع وسياقات تاريخية، من لقاء الزبيري مع البنا، إلى عودة المخلافي والزنداني إلى اليمن، إلى تأسيس الإصلاح بعد الوحدة، وكل ذلك جرى دون غطاء خارجي ولا وصاية فكرية.

في لحظة الانهيار… من بقي جمهوريًا؟

واحدة من أكثر المحاور إثارة في حديث سعيد كانت عند سؤاله عن موقف الإصلاح من سقوط صنعاء، ودوره بعد 2014. لم يُنكر أن الموقف كان مرتبكًا، لكنّه لفت إلى أن الإصلاح، ورغم الحملة الإعلامية الشرسة ضده، ظلّ الطرف الأكثر وضوحًا في التمسك بالجمهورية.

تحدّث عن ما أسماه “الخذلان المركّب”، حيث تخلّى الحلفاء، وهاجم الخصوم، واصطف بعض شركاء الأمس مع الإمامة الجديدة، أما الإصلاح، فرغم ضعفه وانكشافه، لم يكن جزءًا من الانقلاب، بل وقف في وجهه بقدر ما استطاع، وانخرط في معركة الدفاع عن الدولة من مواقع متفرقة، في السياسة والإعلام والجبهات.

أكثر من مجرد سرد.. الحلقة التي أعادت كتابة الملف

ما يجعل هذه الحلقة استثنائية حقًا، أنها ليست مجرد استرجاع لتاريخ الإسلاميين في اليمن، بل كانت أشبه بمحاولة لتقديم “سيرة وطنية بديلة” تُنصف التيار الإسلامي دون أن تبرّئه، وتنتقده دون أن تُشيطنه، وهو ما نجح فيه سعيد ثابت بامتياز: لم يكن منحازًا، لكنه كان صادقًا. لم يكن مدافعًا، لكنه أنصفها في حديثه فنظر إلى الداخل، وراجع الذات، وتحدث بلغة لا تحرض ولا تبرر، بل تشرح وتفكك.

إدارة الحوار من قبل أسامة عادل أضفت على الحلقة طابعًا احترافيًا هادئًا، فقد غاب صوت المذيع في اللحظة التي يجب أن يغيب فيها، ليعلو صوت الذاكرة والمعلومة والتحليل.

حين يصبح التاريخ ملكًا للجميع.

ختامًا، قد تكون هذه الحلقة أكثر من مجرد توثيق شفهي لمسار تيار سياسي، فالحلقة في جوهرها، تمثل محاولة نادرة لإعادة اليمنيين إلى أرشيفهم المنسي، إلى تاريخ لم يُكتب بيد الغالب وحده، بل بصوت شاهد أراد أن يفهم لا أن يدين، وأن يروي لا أن يوجّه، فليست “قصة الإسلاميين” في هذه الحلقة سوى بوابة لفهم اليمن نفسه، حين كانت الفكرة سلاحًا، والكلمة جبهة، والمشروع الوطني هو المعركة الأهم.

فمن الطليعة إلى الإصلاح، ومن الزبيري الحالم بوطن عادل إلى الزنداني المثير للجدل، ومن المعاهد العلمية في زمن الحمدي إلى دهاليز السياسة في عهد صالح، ومن صناديق الاقتراع إلى جبهات مأرب وتعز، كانت التجربة الإسلامية في اليمن تتحرّك في قلب الأحداث، لا على هامشها، نعم، لم يكن مسارًا مستقيمًا، بل متعرجًا بين الإيمان والفعل، بين التديّن والسياسة، بين المبادرة والخطأ، لكنه كان، وسيبقى، جزءًا لا يمكن فصله من سيرة هذا الوطن الذي لم يكتب تاريخه بعد كما ينبغي.

وإذا كانت كثير من الحلقات الإعلامية تمرّ مرور العابرين، فإن هذه الحلقة ، بما احتوته من رصانة في الطرح وهدوء في النبرة ، قد تبقى عالقة في ذاكرة من سمعها، لا لأنها تبحث عن الإثارة، بل لأنها سعت إلى الفهم، لم تُروَ القصة بلون واحد، بل بأطيافها وحوافها وتناقضاتها، كما تُروى الحكايات التي يُراد لها أن تبقى، خاصةً ونحن في زمن ضياع الحقائق وتزاحم الأصوات المرتبكة، حيث تمزّقت السرديات وتكاثرت محاولات التزوير والتسطيح، بدا الإنصاف لا الولاء، هو السبيل الوحيد لفهم التاريخ، وإعادة بناء الوعي، فالتاريخ لا يُكتب على عجل، ولا يُفهم بالاصطفاف، بل بالاقتراب من الحقيقة كما هي، بظلالها لا بضجيجها.

وهكذا، تصبح هذه الحلقة أكثر من مجرد شهادة.. بل مفتاحًا صغيرًا لبوابة أكبر: بوابة الفهم، التي لا يُفتح المستقبل من دون عبورها، ولا تُصان الذاكرة من دون إنصافها

                           

المصدر: مأرب برس

كلمات دلالية: الإسلامیة فی الیمن هذه الحلقة سعید ثابت سیاسی ا أکثر من لم یکن

إقرأ أيضاً:

كتاب يعيد قراءة سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين

الكتاب: النزعة العربية وأثرها على الموالي في عصري صدر الإسلام والدولة الأموية
الكاتب: الدكتور جوتيار تمر
الناشر: تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق، الطبعة الأولى 2024
306  صفحة من القطع الكبير.


هذا هو الجزء الثالث والأخير من قراءة خاصة كتبها الباحث التونسي توفيق المديني لصالح "عربي21"، في كتاب "النزعة العربية وأثرها على الموالي في عصري صدر الإسلام والدولة الأموية" للدكتور جوتيار تمر، الصادر عن دار تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع (دمشق، الطبعة الأولى، 2024).

ويغوص هذا الجزء في الجدل التاريخي والفكري حول الثورة العباسية ودور العرب والموالي فيها، موضحاً مسار النزعات القبلية والسياسية التي حكمت العلاقة بين المركز العربي و"الأطراف" غير العربية، وصولاً إلى لحظة الانقلاب العباسي وملامح الدولة الجديدة.


جدلية الثورة العباسية بين الموالي والعرب ونهاية الدولة الأموية

شاع لعقود تاريخية طويلة، أن الثورة العباسية قامت على اكتاف الفرس الموالي، بل وصفها البعض على انها ثورة الموالي على العرب، وبات مسلماً عند الكثيرين أن العرب فقدوا سلطانهم بعد زوال الدولة العربية الأموية، إلا أن البحث عن مضمون الثورة العباسية، وفصل الأحداث ودراسة كل حدث منفرداً ومن ثم ربط خيوطها ببعض سيتضح جلياً، بأن الثورة قامت على اكتاف العرب من أهل خراسان، خاصة القبائل العربية اليمانية والربعية التي اخذت لنفسها مواطن استقرار كثيرة في خراسان وما حولها، وذلك ما تؤكده وصايا إبراهيم بن محمد العباسي مفجر الثورة، الذي حث فيها الدعاة على التقرب إلى الاحياء العربية في خراسان وجذبها إلى الانضمام في صفوف الثورة، ناهيك أن النقباء الاثنا عشر كانوا كلهم عرب أو مولى للعرب، وذلك ما يدحض مقولة أن الثورة أعجمية، انما كانت الثورة عربية المنشأ، والروح، والعقيدة، والسلطة، والعجم لم يكونوا سوى وقود حرب استغلوا في أوقات الشدة والحاجة، وتلك الفرضية هي ما ستثبتها الدراسة وفق ما يأتي:

اتسعت رقعة الدولة العربية الأموية وباتت القوى القبلية نافذة ومسيطرة على غالبية الأقاليم والأمصار والبلدان التي خضعت الحتمية الاجتياح العربي، ولم يتغير شيء من معالم الرؤية القبلية العربية وبقيت خاضعة لمنطق، أن العرب أمة واحدة، المؤمنون أخوة، وهم المؤمنون والمسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهر معهم، والأمة تقوم على الدين، تحولت الأراضي التي وقعت تحت سيطرتهم بفعل القرابة الدين إلى حق من حقوق الملكية العربية، أما السكان الأصليين لتلك الأراضي فهم موالي، وفي أفاءه الله عليهم، بل أنهم بمثابة طبقة يتم حلب درها واستنزاف ما تنتجه من فائض، حتى لو نضب الدر اللبن - لا مانع عند العرب حلب الدم، كما قال الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك لاحد ولاته هبلتك أمك، احلب الدر؛ فإذا انقطع، احلب الدم، لذا كانت الرؤية واضحة فيما يتعلق بالسياسة التي اتبعها الأمويون تجاه الموالي ومن بعدهم العباسيون، الذين حولوا العصبية العربية الأموية إلى شعارات داعية للمساواة بين العرب وغير العرب، ولكن وفق شروط مسبقة، تبقى القيادة عربية، وأما غير العرب فهم وسيلة بشرية حية للوصول للغايات الأسمى، التي تمثلت على مر العصور الإسلامية وسيلة لتثبيت دعائم السلطة.

تميزت الدعوة العباسية عن الحركات والثورات التي سبقتها في صدر الإسلام باعتبارها أخذت حيزاً جدلياً كبيراً لاسيما بين الأوساط الأكاديمية، فقد استقر في الأذهان لفترة طويلة أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الموالي بالأخص موالي الفرس سواء من أهل خرسان أو غيرهم في المناطق الأخرى التي برزت معالم الثورة العباسية فيها، معتمدين على تأويلات ظاهرية لبعض المقولات التاريخية.تثبت الأحداث التاريخية أن السلطة الأموية نفسها حين أرادت أن تمسك بزمام الأمور في الأراضي التي استوطنتها العرب وشاركت الموالي في أمور حياتهم حاولت استمالة قبائل على حساب أخرى لتكون لها نداً، فيما استمالت الموالي بالأخص الطبقة الارستقراطية منها لتكون واجهة اقتصادية لها، وذلك ما أفرز نفوراً وتذمراً لدى القبائل العربية المناوئة للسلطة واخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، فجلس بكير بن ماهان (ت ما بين 125 - 136هـ / 743-744م) كبير دعاة العباسيين يوماً في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: سلط علينا الدهاقين في الجباية، ذلك ليس دليلاً على تعسف السياسة القبلية العربية الأموية تجاه تلك القبائل فحسب، وإنما دليل على مدى انتشار تلك القبائل على ارض خراسان وما حولها، ومدى توغلهم في الحياة العامة والخاصة فيها، بدرجة أنهم كانوا في تذمر دائم للسياسة الأموية سواء من الحكم أو فيما يتعلق بالجباية والخراج، ودليل على رفض تلك القبائل أن يتسلط على رقابهم الأعاجم، وذلك ما مهد لبروز تيارات مناوئة للسلطة.

تميزت الدعوة العباسية عن الحركات والثورات التي سبقتها في صدر الإسلام باعتبارها أخذت حيزاً جدلياً كبيراً لاسيما بين الأوساط الأكاديمية، فقد استقر في الأذهان لفترة طويلة أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الموالي بالأخص موالي الفرس سواء من أهل خرسان أو غيرهم في المناطق الأخرى التي برزت معالم الثورة العباسية فيها، معتمدين على تأويلات ظاهرية لبعض المقولات التاريخية.

كان الموالي في خراسان لا يشكلون ضعف عدد المقاتلة العرب وقبائلهم التي استوطنتها، ذلك ما يؤكده نصر بن سيار والي الأمويين على خراسان حين قال للعرب فيها وأنتم يا أهل خراسان؛ مسلحة في نحور العدو، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان، كما أن العديد من النصوص تثبت وجود عدد من القصور والمساجد المنسوبة للعرب في مرو كدليل على ماهية الاستقرار، مع التأكيد على ذكر أسماء قرى بالقرب من مرو خلصت للعرب، فكانت بونيه قرية لطيء، وقرية بأعلى مرو لكندة، وأخرى لبني العنبر، والخزاعة قرية سفيذنج وبالين، وفنين، كما كانت قرية الماخوان الخالد بن عثمان ابن مسعود، ومن جملة مؤكدات الاستقرار العربي في خراسان وقراها وقصباتها، أن في مرو كان لكل باب من أبوابها اسم يدل على قبيلة سكنتها أو قائد عربي أسكنها عيالاته، کباب میدان یزید، باب حرب بن عامر، باب نصر، واتخذ العرب مركزاً لهم بالبروقان، قرب بلخ التي فيها جماعة من الازد وتميم وغيرهم، كما سكن العرب في خراسان هراة، حيث كان فيها جمع كثير لبكر بن وائل وفي وأماكن أخرى عليلة، فضلاً عن أن الولاة كانوا ينقلون الجنود من مدينة إلى أخرى وفق الحاجة وما تقتضيه العصبيات، كما فعل الوالي الأموي أسد بن عبد الله الذي نقل من كان بالبروقان إلى بلخ، واقطع كل من كان له هناك مسكناً بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن اقطعه واحداً، وأراد أن ينزلهم على الاخماس، لكنه خاف من العصبيات، فخلط بينهم.

ختاماً فإن الدراسة قد توصلت إلى جملة نتائج ومنها:

تميز العصر الراشدي ببعض الامتيازات المقررة للموالي، إلا أن الأمر لم يستمر على نفس المنوال طوال الحكم الراشدي، ففي عهد الخليفة أبي بكر ساوى بين العرب والموالي في العطاء، لكن في عهد الخليفة عمر بن الخطاب أثرت التحولات التي حدثت في بنية الدولة جراء التوسعات وتوجه الجيوش نحو البلدان غير العربية، على سياسته تجاه الموالي، حيث لم يدرج الخليفة جميع الموالي ضمن ديوان العطاء، وألحق بذلك الاجراء إلغاء الرق والسبي على العرب، وفدى سبايا العرب سواء الذين وقعوا في السبي قبل الإسلام أو بعد ظهور الإسلام بأموال الدولة، ومنع المقاتلة العرب بالزواج من غير العربيات، وفرض مبدأ الكفاءة في الزواج، وحذر من الانجراف وراء زواج الأعاجم خوفاً من ذهاب النخوة العربية، وتلى ذلك عدة إجراءات ساهمت في مضمونها ومتغيراتها على نفسية الموالي الأعاجم ووجودهم ضمن هيكلة الدولة، وشرع بذلك لمن أتى من بعده باتباع السياسة ذاتها التي لم تثمر سوى مزيداً من الفوضى السياسية والتي نتج عنها مقتل الخليفة بيدهم في النهاية، ومن ثم مقتل الخليفة عثمان بن عفان من بعده، وعلى الرغم من محاولة الخليفة علي بن ابي طالب إعادة الأمور إلى نصابها إلا أن الفوضى كانت قد تسربت إلى أواصر الدولة عن طريق الولاءات القبلية ونزعاتها وأدت بالتالي إلى مقتله أيضاً.

تغيرت الأوضاع السياسية والاجتماعية للموالي بعد تلك الانقسامات والصراعات الدموية التي أرهقت كاهل الدولة، وأصبحت التشريعات تسن وفق الحاجات، ووضعت العديد من الأحاديث والآثار التي نسبت إلى النبي (ﷺ)، وإلى بعض الصحابة وهي في مضمونها تخالف مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية، ساهمت تأويلات بعض علماء وفقهاء الدولة في تأصيل تلك الآراء وفرضها على الواقع التاريخي، حتى أصبح الموالي ضمن دوائر الازدراء بنظر العرب، لاسيما الأعراب الذين يعرف عنهم بداوتهم واستمرار نزعتهم العربية البدوية حتى بعد مرور ما يقارب القرن على انتشار الإسلام، تلك النظرة خلقت فجوة في بنية المجتمع الإسلامي، الذي كان يعتمد بالدرجة الأساس على الغزوات والسبي والغنائم، في حين ابتعدت عن المهن ووكلت بتلك الوظائف للموالي احتقاراً، حتى اصبح الموالي بمرور الوقت مادة ناضجة للحركات والثورات التي عمت الدولة الإسلامية لاسيما في نهاية العصر الراشدي وبداية العصر الأموي، واستمرت إلى حين سقوط الأمويين، ومجيء العباسيين للحكم.

أثارت العديد من المراجع الحديثة وذلك بالاستناد على بعض النصوص التاريخية والتشريعية على أن الموالي لم يكونوا مضطهدين في الدولة العربية الإسلامية، وأنهم تولوا مناصب إدارية مهمة وحساسة، وأن النصوص التي تظهر ازدراء العرب للموالي هي ليست سياسة الدولة إنما هي حالات فردية بدرت بالدرجة الأساس من بعض الأعراب، متجاهلين أن الافتراضات يجب أن تساق وفق معطيات واقعية، وليس مجرد تأويلات خارجة عن النطاق الافتراضي المبني على الظن، فالدولة لم تكن ضعيفة لتشاهد تلك المتحولات تجاه الموالي وتسكت عنها، على أنها رؤية ونظرة وال أو قائد جيش أو قاض أو أعرابي تجاه الموالي، فهؤلاء كانوا ركيزة الدولة وعمادها الأول، وحين يتجاهل الخليفة اجراءاتهم فإنه يقرها بالدرجة الأساس، ولا يعتبر الأمر مجرد رأي شخص وحالة فردية طالما أنها تدرج ضمن سياسة الدولة، على ذلك الأساس فإن مفهوم الحالة الفردية تمثلت في الأصل بسياسة الخليفة عمر بن العزيز الذي رفع الجزية عن الموالي وحاول اتباع سياسة مغايرة معهم، إلا إجراءاته انتهت بموته، لأن من سبقوه فرضوا تلك السياسة، ومن أتوا بعده استمروا عليها، وبذلك اثبت الواقع التاريخي بأن ما قام به الخليفة كان حالة فردية.

استغل الأمويون والمعارضة الأموية الموالي كلاً وفق حاجاتهم، حيث وظفتهم الدولة الأموية للقيام ببعض المهام الإدارية التي لم تكن مساراتها قد نضجت عند العرب مثل الجباية والأمور المالية، فتولوا مناصب مختلفة ضمن هيكلة مؤسسات الدولة، إلا أنهم حرموا من تلك المناصب التي فيها امتلاك الرقاب العرب، وبالتالي ساهمت تلك السياسة بخلق نظرة مغايرة حول مكانة الموالي في الدولة العربية الأموية، فوجد البعض أنهم مارسوا حقوقهم بعدالة داخل المجتمع العربي الإسلامي، في حين رأى البعض في تلك السياسة اضطهاداً للموالي، وبرهنت الدراسة، أن علو العرب كان الأصل في كل الممارسات، سواء عند الأمويين أو اتباع عبد الله بن الزبير حين تولى الخلافة وسيطر على الحجاز والعراق ومصر، وأن تولي الموالي المناصب الإدارية لم يخرج من دائرة الموالاة التي جعلها الخليفة عمر بن الخطاب اساساً الحفاظ الأعاجم على أنفسهم، كما رأت الدراسة أن غالبية الذين تقلدوا تلك المناصب كانوا موالي لقبائل عربية أو لشخصيات عربية سواء كانوا خلفاء أو أمراء أو حتى شيوخ قبائل، وبالتالي فإن الموالي في صدر الإسلام لم يجدوا لأنفسهم موطئ قدم إلا ما ندر، يمكن الاعتماد عليه لإبراز معالم العدالة الاجتماعية لدى العرب.

استطاعت المعارضة الأموية من تحريك الموالي ضد السلطة في أحيان كثيرة، وذلك من خلال رفع بعض الشعارات التي تتعلق بالمساواة والعدالة الاجتماعية، حيث أثارت الموالي الذين وقعوا تحت حتميات الازدراء العربي لهم، وأثارت العبيد والرقيق بدعوى اعطائهم حريتهم عندما ينضمون لطرف على حساب طرف اخر، لذا بات الموالي وقوداً لغالبية الحركات ضد السلطة في العصر الأموي، على أن ذلك لا يعني خضوع جميع الموالي لذلك المنطق، لأن موالي القبائل المتحالفة مع السلطة حاربت مع اسيادها ضد الحركات والثورات بحكم الولاء.

أثارت العديد من المراجع الحديثة وذلك بالاستناد على بعض النصوص التاريخية والتشريعية على أن الموالي لم يكونوا مضطهدين في الدولة العربية الإسلامية، وأنهم تولوا مناصب إدارية مهمة وحساسة، وأن النصوص التي تظهر ازدراء العرب للموالي هي ليست سياسة الدولة إنما هي حالات فرديةتاسعاً: تؤكد النصوص التاريخية والفقهية أن العرب لم يتنازلوا عن السلطة ويقوا متمسكين بزمام الأمور حتى في الأوضاع غير الطبيعية التي مرت بها الدولة العربية الأموية، ففي حربها مع المعارضين أسندت قيادة الجيوش للقادة القبليين العرب إلا ما ندر، ومع أنها ساهمت في بروز النزعة القبلية وعصبيتها لدى القبائل القيسية واليمانية والمضرية وغيرها، إلا أنها في الأول والأخير كانت تعمل على إبقاء السلطة بيدها، وإبقاء القبائل العربية الموالية لها هي المتسيدة للأوضاع والمسيرة للأحكام، بهدف توجيه العرب بمواليهم إلى خدمة أهدافها، على الرغم من أن تلك الإجراءات تحولت بمرور الوقت إلى سبب رئيسي من أسباب الفوضى السياسية التي ألقت بظلالها على الدولة نفسها رمقها الأخير.

اتجهت الدراسات الحديثة إلى تفنيد النظرية القائمة على أعجمية الثورة العباسية، وأثبتت أن الدعوة كانت موجهة بالدرجة الأساس للعرب المقاتلة والمستقرين في القرى والأمصار التابعة لخراسان الخارجية، لا سيما في مرو وتوابعها، وتثبت النصوص التاريخية على أن الخلفاء منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان قاموا بإرسال اعداد كبيرة من المقاتلة العرب إلى تلك الأمصار فاستوطنوا فيها، وجعلوا في كل قرية حامية انزلوا فيها ما يقارب الأربعة الاف جندي، واستمر وصول الامدادات اليهم ضمن فترات متلاحقة، حتى غلب على تلك الأماكن العرب، واصبح الأعاجم فيها اقلبة محكومة من العرب، كما خضع الموالي في تلك الأماكن لمنطق الصراعات القبلية، وبذلك انقسموا إلى جبهتين، احداها توالي العرب المضرية الموالين للوالي الأموي، وأخرى توالي القبائل الموالية للثورة العباسية، ولم يكن اختيار مولى لقيادة الثورة في خراسان إلا تدبیر حكيم من العباسيين، وذلك لإدراكهم حجم الثارات بين العرب في خراسان وتوابعها من جهة، ولإدراكهم أن الأعاجم سترى في أبي مسلم الخراساني القائد المنتخب من العباسيين كمنقذ لهم من ظلم العرب وصراعاتهم، وكان اختیار خراسان استناداً إلى وجود العرب فيها وغلبتهم على الأمصار والقرى والبلدان حتى أصبحت لديهم قرى خاصة بهم وقلاع خاصة، ومن ثم اختيارهم لأبي مسلم بعد رفض العرب استلام قيادة الثورة لكبح جماح الأعاجم وضمان ولائهم للثورة.

ساهم الموالي بدرجة كبيرة في اسقاط الدولة العربية الأموية، وذلك من خلال انضمامهم إلى الثورة العباسية وتشكيل فرقة خاصة بهم يقودهم عربي، ضمن قيادة عربية كبرى لجميع القوات العباسية، كما ساهمت جغرافية مناطق الموالي الأعاجم في تسريع وتيرة الثورة، حيث تبعت من أراضيهم، فكانوا بحكم الموقع الجغرافي طرفاً في الجبهتين الموالية للسلطة العربية الأموية، والمتحالفة مع الثورة العباسية، ويظهر ذلك جلياً من خلال سير احداث الثورة وتوجه القوات العباسية للكوفة التي كان الإمام العباسي يحتمي فيها، وحين انتصرت الثورة وبدا للجميع أن الموالي الأعاجم باتوا عنصراً رئيسياً في تركيبة الدولة ومؤسساتها، ظهرت بوادر النزعة العربية لدى العباسيين في بداية حكمهم، وذلك من خلال إزاحة رموز الموالي من طريقهم.

إقرأ أيضا: العروبة المؤسِّسة.. كيف صاغ العرب مكانتهم العليا داخل الدولة الإسلامية المبكرة؟

إقرأ أيضا: القبيلة والدولة.. الموالي بين منطق الفتح ومأزق التمييز في المشروع الأموي.. كتاب

مقالات مشابهة

  • بين خطاب رئيس الجمهورية وتمسّك حزب الله بالسلاح.. هل دخل لبنان مسار المواجهة الداخلية؟
  • كتاب يعيد قراءة سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين
  • حماية المستهلك: هدفنا خفض الأسعار فعليا ليلمس المواطن نتائج الإصلاح الاقتصادي
  • وزير المالية: التسهيلات الضريبية والجمركية أداة مؤثرة فى مسار الإصلاح الاقتصادي
  • البحوث الإسلامية: إصلاح ذات البين عبادة تتفوق على الصيام والصدقة
  • اعتراف إسرائيلي بالفشل الإعلامي في التعامل مع تبعات حرب غزة
  • سعيد الزغبي: إحنا مبنتغيرش مش مجرد كلام.. بل هي عقيدة سياسية ثابتة ضد التهجير والتوطين
  • ضياء رشوان: مصر التزمت بـ3 أهداف منذ بداية العدوان في 7 أكتوبر.. وموقفها من القضية الفلسطينية ثابت
  • قراءة في حاضرٍ موحش وماضٍ دافئ