فى ذكرى رحيله الـ «32»: يوسف إدريس هموم العوام والقناعة السياسية بين القصة والرواية والمسرح
تاريخ النشر: 1st, August 2023 GMT
تحل اليوم ذكرى رحيل الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس، 1 أغسطس 1991. أبوالقصة القصيرة العربية وواحد مِن أهم الكُتاب والروائيين العرب، لذا لقب ﺑـ «تشيخوف العرب»، نسبة إِلى الأَديبِ الروسِى الكبِيرِ «أنطون تشيخوف»، وقد تحول أكثر من عمل له إلى عمل سينمائى ومسرحى، ومنها: «الحرام» «والعيب» «حادثة شرف»، و«النداهة»، وله إسهاماته، منها كتاب «نحو مسرح عربى»، ومن أبرز أعماله المسرحية «الفرافير» و«المهزلة الأرضية» و«المخططين» وغيرها.
أخبار متعلقة
«ملكة».. «قنبلة» يوسف إدريس شديدة الانفجار
عن قصة يوسف إدريس.. «صلة» يعود من جديد على مسرح الطليعة اليوم
غلاف الكتاب
وهو مولود في 19 مايو 1927م بمحافظة الشرقية، وتربى بالقرية مع جدته حتى سن الثامنة، ونظرًا لعمل والده في استصلاح الأراضى ولتنقله بين المحافظات فتنقل معه، بدأ محاولاته في الكتابة منذ الصغر، وبعد تعليمه الثانوى التحق بكلية الطب جامعة القاهرة في 1946. وبعد تخرجه عمل في القصر العينى منذ عام 1951م إلى عام 1961م، وكان أن حاول أن يسلك طريق الطب النفسى منذ عام 1956، ولكنه استصعب الأمر. وكان ليوسف إدريس العديد من السفريات، رغم أنها لأغراض أدبية، إلا أن لها فضلا كبيرا عليه وعلى بناء شخصيته وعلى أدبياته فيما بعد.. وفى سنوات دراسته بكلية الطب اشترك في مظاهرات كثيرة ضد المستعمرين البريطانيين، وفى 1951 صار السكرتير التنفيذى للجنة الدفاع عند الطلبة، ثم سكرتيراً للجنة الطلبة. وبهذه الصفة نشر مجلات ثورية وسجن وأبعد عن الدراسة عدة أشهر، ثم ظهرت أولى محاولاته القصصية بجريدة المصرى وروز اليوسف، وفى 1954 ظهرت مجموعته أرخص الليالى، ثم مجموعته «العسكرى الأسود» فكتب عنه عميد الأدب العربى طه حسين يقول: «أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثلما وجدت في كتابه الأول (أرخص ليالى) على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها».
غلاف الكتاب
ثم عمل محررا بالجمهورية، 1960، ثم كاتب بجريدة الأهرام 1973 حتى عام 1982، وفى عام 1961 انضم إلى المناضلين الجزائريين في الجبال وحارب في معارك استقلالهم ستة أشهر وأصيب بجرح وأهداه الجزائريون وساماً إعراباً عن تقديرهم لجهوده، وعاد إلى مصر ليواصل مسيرته الصحفية والأدبية، وفى عام 1963 حصل على وسام الجمهورية، إلا أن النجاح والتقدير لم يخلّصه من انشغاله بالقضايا السياسية، وظل مثابراً على التعبير عن رأيه بصراحة، ونشر في 1969 المخططين، منتقداً فيها النكسة والمتسبب فيها ومنعت المسرحية، وإن ظلت قصصه القصيرة ومسرحياته غير السياسية تنشر في القاهرة، وفى بيروت عام 1972، اختفى من الساحة العامة، على إثر تعليقات له علنية ضد الوضع السياسى في عصر السادات، ولم يعد للظهور إلا بعد حرب أكتوبر 1973، عندما أصبح من كبار كتّاب جريدة الأهرام. وقد حصل على العديد من الجوائز لإسهامه الأدبى، وبخاصة في مجال القصة القصيرة، ومن أشهرها: وسام الجزائر عام 1961م، نظرًا لمساهمته في ثورة الجزائر المُسلحة. نال وسام الجمهورية مرتين (1963م -1967م). نال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1980م.
غلاف الكتاب
ولم يقتصر إبداعه على القصة القصيرة لتمتد ثورته الإبداعية للرواية والمسرح. لقد صنع إدريس بما ألَّفه مدرسة مختلِفة وتجرِبة جدِيدة اتّبعه فِيها الكثِير، مستخدِما بَراعتَه في اللّغةِ ليَعبر عن قطاعات مختلِفةً مِنَ المجتمعِ الِمصرى وقدم خلال حياته عددا من المسرحيات، أبرزها «الفرافير» و«المهزلة الأرضية» و«اللحظة الحرجة» و«المخططين» و«البهلوان»، وغيرها.
أما «الفرافير»، فقد أخرجها الراحل كرم مطاوع عام 1964 للمسرح القومى، تدور أحداث المسرحية عن الصراع بين الأسياد والعبيد داخل المجتمع، وتناقش ضرورة وجود الطبقات المختلفة لتحقيق التكامل في المجتمع، لكن دون استعباد طرف لآخر، تعد مسرحية الفرافير- مما لا شك فيه- إحدى العلامات الفكرية في عالم المسرح العربى الحديث.
يوسف إدريس
أما مسرحية «المخططين»، فقد أبدع في هذه المسرحية، حيث تناول فيها شرارة الثورة والثوار، وذلك في فترة مهمة من تاريخ السياسة المصرية. وقد تناول إدريس في هذه المسرحية الفترة الزمنية في تاريخ مصر، وخاصة بعد نكسة 1967م، وذلك في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وقد كان لإدريس تاريخ طويل في نقد سياسات الحقبة الناصرية، مما أدى إلى منع عرض المسرحية على خشبة المسرح.
يُعد يوسف إدريس من أفضل من تطرقوا إلى القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية، حيث مزج الفصحى بالعامية في قصصه القصيرة، فكانت قريبة للقارئ مملوءة بالحياة.. فنجد في رواية «الحرام» التي قد يصحّ اعتبارها واحدة من أعظم عشر روايات كتبت في اللغة العربية، لتتبوّأ مكانة راقية بين أهم مئة رواية عربية، بحسب تصنيف اتحاد الكتّاب العرب. كما اعتبر النقاد والسينمائيون الفيلم «فيلم فاتن حمامة» الذي اقتبسه عنها واحداً من أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
وفى قراءة لرواية «الحرام» نجد أنها نموذج مثالى للكشف عن زاوية تميز رؤيته ومقاصده الفكرية التي تنحاز إلى الفقراء والفئات الاجتماعية المهمّشة، وبخاصة فئة الفلاّحين، الذين عانوا من ظلم واضطهاد لا مثيل لهما في زمن الملَكية والباشوات. وهذا فضلاً عن أسلوبه وجملة التقنيات التي وظّفها في رائعته تلك، وذلك من خلال بيان أن الحرام الذي وقعت فيه بطلة القصة يندرج في دائرة حرام أكبر يقوم به أهل البلد الفقراء مع عمال التراحيل الذين هم أفقر منهم، فهو الحرام الحقيقى.
وفى «أرخص ليالى» نقف على نماذج لشرائحِ المجتمعِ المِصْرى، الذي تَجمعُهُ الهمومُ والمشكلاتُ ذاتُها. مغرقة في الواقعية المصرية في العصر القديم، وزمن يوسف إدريس وما قبله. يتميز بتقديم عدد كبير متنوع من الشخصيات التي تبدو بسيطة في مظهرها وإن كان المضمون الذي يريد توصيله أعمق بكثير من بساطة شخصياته، كما نجد إدريس يفصل بين الليالى الرخيصة والباهظة، معلّلاً الانحدار السحيق الذي وصل إليه اقتصاد مصر بسبب الإنجاب الكثيف الذي أدّى إلى انفجار هائل في عدد السكان.
ومما يذكر أيضا أن عمله الذي يحمل عنوان «سره الباتع»، فقد تمت ترجمته إلى مسلسل رمضانى عام 2023، وقد نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان «حادثة شرف». وقد تناولت الحديث عن الواقع وعصر الاحتلال الفرنسى في مصر، وتحمل الكثير من الرموز الوطنية، وأبرزها السلطان حامد، وتدور أحداث الرواية حول الشاب الذي يبحث عن سر مقام «السلطان حامد» الموجود في إحدى قرى الريف المصرى، ويقوده البحث عن اللغز إلى وقت الحملة الفرنسية على مصر.
وفى قصة «لغة الآى آى» التي صدرت لأول مرة سنة 1965. فقد استوحى قصصها من معايشته- كطبيب- وهى مجموعةٌ قصصية بطلُها الألم، تَروى تجارب إنسانية متكرِّرة نُعايشها باستمرار، ولكن انخراطنا فيها يجعلنا نَغفل عن الجانب الإنسانى الذي استطاع «يوسف إدريس» أن يُسلِّط الضوء عليه بمهارة فائقة. وفى قصة «لغة الآى آى» تَصطدم بجرعةٍ مكثَّفة من الألم، تعيش فيها كلَّ صرخة نابعة من أعماق «فهمى» المريض بالسرطان، فيَقشعرُّ جسدك، ويَنتابك ذُعر لا يتمكَّن من وصفه إلا «إدريس» الذي كتب مجموعتَه بقلمِ الوجَع. يهيمن على المجموعة العذاب والشقاء والشكوك والعزلة والخيانة والغضب. صحيح أن عديداً من نهايات القصص تُصوَّر مفعمة بسمات الأمل والانتصار وتحقيق البعد الإنسانى. كما أن الحكمة العامة في المجموعة متفائلة وملتزمة. لكن قبل الوصول إلى تلك النهايات لا بد من أن يتعذب القارئ ويعانى آلام الشخصيات ومحنها. كما لا تخلو «لغة الآى آى» من الصرخات ومرادفاتها. صرخة الغضب. الصرخة المكتومة. صرخة الكبت الطويل. عواءات الغيرة، وعويلها. ثمة حتى زعيق الماضى وعواؤه كما في قصة «صاحب مصر». وهناك أيضاً «الصوت الحاد واللافح» وصراخ الليل الذي يوقظ الجيران.
أما عن «الجنس والسياسة» فهو ثنائى تجلى في غير عمل من أعماله، ويقدم لنا الدكتور غالى شكرى في كتابه «أزمة الجنس في القصة العربية» تلخيصًا موجزًا لقصة «العيب»، التي تتناول الخطيئة كثمرة أنضجتها أوضاع المجتمع الخاصة في «المدينة»، فتاة تعمل في إحدى المصالح الحكومية، تفاجأ بجوٍّ موبوء عماده الرشوة وفساد الذمم بين زملائها من الموظفين، ويثور ضميرها وتحاول أن تبقى نظيفة، ولا تتيح لهذا الجوِّ الملوث أن يمتد إلى وجودها النفسى، مهما تعددت وسائل الإغراء. وتصمد الفتاة فترة من الزمن أمام العروض المغرية من أحد زملائها الموظفين، بأن تتنازل عن ضميرها- ولو مرة- وتنضم إلى الزمرة الفاسدة. تصمد على الرغم من الوضع المؤلم الذي تعرَّض له شقيقها في المدرسة، حين لم يستطع أن يواصل الدراسة عجزًا عن سداد المصروفات. ومع ذلك فإن صمودها لم يستطع أن يصمد حتى النهاية: موقف أخيها من ناحية، وإغراء المال من ناحيةٍ أخرى، وعين الذئب التي كانت تخدرها من ناحيةٍ ثالثة، وتشتهيها كأنثى ناضجة. وأخيرًا تسقط «سناء» أمام ضغط الحاجة وبريق الذهب. ولقد اكتفى يوسف إدريس في تعبيره الوجدانى عن هذه المرحلة، بأن القديم ما يزال قويًّا وأنه يستطيع أن يغتال الجديد.
يوسف إدريس ذكرى رحيل الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريسالمصدر: المصري اليوم
كلمات دلالية: زي النهاردة شكاوى المواطنين يوسف إدريس زي النهاردة
إقرأ أيضاً:
كامل إدريس وعبد الله حمدوك: تشابه الملامح واختلاف السياق
يخوض رئيس الوزراء كامل إدريس لحظةً استثنائية بكلّ المقاييس؛ إذ تولَّى المنصب في خضمّ حربٍ ضروس أنهكت البلاد ومزَّقت نسيجها الجغرافي والاجتماعي، وفرضت عليه أداء مهامه في واقعٍ سياسي واقتصادي وأمني بالغ التعقيد. وعلى الرغم من أن مسيرته في المنصب ما زالت في بدايتها، فقد انبرى كثيرون إلى مقارنته بسلفه عبد الله حمدوك.
ورغم أن المقارنة بين الرجلين تفتقر إلى العدالة ما لم يُؤخَذ السياق الزمني والسياسي بعين الاعتبار، فلا بأس من التوقُّف عند بعض أوجه التشابه والاختلاف؛ فكلا الرجلين خرجا من كنف المؤسسات الدولية، وتشكَّلت هُويَّتهما المهنية والفكرية في فضائها، وتدرَّجا في مدارجها حتى بلغا مناصب مرموقة. كما أن مسيرتهما الأكاديمية متقاربة، إذْ حصلا على درجاتٍ علمية عليا من جامعاتٍ أجنبية بارزة، وعاشا في الغربة أكثر ممَّا عاشا في السودان، ولم يخوضا غمار العمل الداخلي إلا لفتراتٍ محدودة. كما أنهما دخلا إلى المسرح السياسي من خارج الأُطُر الحزبية التقليدية؛ فحمدوك وإنْ كانت له خلفيةٌ يسارية، وإدريس الذي لا تُعرَف له انتماءاتٌ حزبية أو تعاطفٌ صريح مع أيّ تيارٍ بعينه، لم يكونا منغمسَين في العمل السياسي التنظيمي الصارخ.
تولَّى حمدوك رئاسة الوزراء في أغسطس 2019، في ظلّ وضعٍ سياسي مشحون ومعقَّد، لكنه أخفّ وطأةً من واقع اليوم؛ فقد ورث دولةً مكتملة الأركان من حيث الهياكل والمؤسسات رغم ما اعتراها من هشاشةٍ واختراق. أما إدريس، فقد جاء إلى المنصب في وقتٍ تشهد فيه الدولة حالة انهيارٍ شبه تام وتُدار من عاصمةٍ مؤقتة بعيدة عن الخرطوم، وفي ظلّ سيطرة قواتٍ متمرّدة على أجزاء من البلاد. ومن هنا، فإن المقارنة من زاوية الأداء الإداري والخدمي ستكون مجحفة، بل وقد تُعدُّ نوعًا من التجنّي أو التنصُّل من مواجهة الحقائق.
جاء حمدوك محمولاً على موجة أملٍ شعبي عارم، وعلى أكتاف تكتُّل مدني، وشكّل خيارًا لمرحلةٍ انتقالية طمحت إلى التأسيس لوضعٍ جديد. غير أن هذا الأمل ما لبث أن تبدَّد، إذٌ عجز الرجل عن إدارة التوازنات الداخلية، وسرعان ما تحوَّل إلى رمزٍ أجوف تُطبّل له فئةٌ وتلعنه أخرى. أفرط في التعويل على الخارج، وأهمل إعادة ترتيب الجبهة الداخلية. ومن الواضح أنه يؤمن بأن حلّ أزمة السودان (اقتصادي خارجي)، في حين أن أسَّ الأزمة، في تقديري، كان (سياسيًا اجتماعيًا داخليًا) في المقام الأول؛ وهذا ما جعله يهدر وقتًا ثمينًا في اللهث وراء المجتمع الدولي لتحقيق إنجازٍ يُنْسَب له شخصيًا، وهو شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية الإرهاب لتسهيل الاستدانة من المؤسسات المالية الدولية على حساب توحيد الجبهة الداخلية وراء هدفٍ واحد وهو انتقال السلطة سلميًا. وهناك من ذهب إلى أنه كان يستغلُّ منصبه لتلميع صورته دوليًا وتعزيز سيرته الذاتية وعينُه على منصبٍ رفيع في المنظمات الدولية. أما الشعب، فقد أجمع عليه إجماعًا غير مسبوقٍ، ربما لأنه كفر بالساسة، وضاق بهم ذرعًا، وآثر أن يجرّب خبيرًا اقتصاديًا ممَّن لم يلوثّهم الانغماس الصارخ تنظيميًا في العمل السياسي، على غرار ما حدث آنئذٍ في تونس، إذْ انتخب الشعب التونسي الأستاذ الجامعي (المستقلّ) قيس سعيّد بأغلبية بلغت 74% بعد أن تأمَّلوا ماضيهم فلم يجدوا إلا جراحًا وخرابًا، وتراءت لهم خيباتهم وانكساراتهم بسبب تصدُّر محترفي السياسة المشهد، وإدمانهم بذل الوعود العاطلة، فآثروا الرهان على المختلف.
ومن المآخذ على حمدوك تمكينه جماعةً بعينها من مفاصل الدولة، وتمريره أجندتها الفكرية والثقافية والدينية على مجتمعٍ لم يكن مهيَّأً لتحوُّلاتٍ جذرية مفاجئة. ومن أبرز تجلّيات ذلك تدخُّله في المناهج التعليمية بلا تشاورٍ مجتمعي واسع. كذلك، بدا سعيه إلى إطالة أمد الفترة الانتقالية في نظر كثيرين محاولة مكشوفة لتمكين حلفائه السياسيين. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد اتَّسم أداؤه بالارتباك وغياب الرؤية، وبلغ الأمر حدّ تسليم الملفّ الاقتصادي لحميدتي، في خطوةٍ مثَّلت انتكاسةً لمَنْ استبشروا بمقدمه.
على الضفَّة الأخرى، يقف إدريس، رجل القانون والملكية الفكرية، الذي تولَّى المنصب في ظرفٍ هو الأسوأ في تاريخ الدولة السودانية الحديثة. حربٌ تمزّق أوصال البلاد، دولةٌ منهارة، وخدماتٌ شبه معدومة. رغم ذلك، يقدّم الرجل حتى الآن صورةً مختلفة؛ إذ لم يغادر البلاد منذ تولّيه المنصب، ويبدو منشغلًا بإعادة ترتيب الداخل قبل مغازلة الخارج.
وحتى الآن، يبدو أن إدريس أذكى اجتماعيًا من حمدوك، إذْ يُظهِر اهتمامًا ملحوظًا بالتواصل المباشر مع المواطنين، وهو ما تجلَّى في خروجه إلى الشارع والتماس هموم الناس بلا وسيط، وحرصه على تقديم نفسه في قالب المسؤول المتواضع الخادم لا المترفّع المتسيّد، في محاكاةٍ واضحة للنموذج الغربي فيما يتعلَّق بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
غير أن هذه الصورة، رغم جاذبيتها، ما زالت في نظر بعضهم استعراضية، إذ لم يُختَبَر الرجل بعدُ في الملفّات الشائكة والمعقَّدة. أما حمدوك، فقد ظلَّ حبيس الصورة النمطية للبيروقراطي الدولي. كان رصينًا، لكنه فاترٌ، وغير قادرٍ على إشعال الحماسة أو بثّ الأمل. وعندما أخفق مؤيّدوه في جمع الناس حول فكرة، لاذوا إلى حشدهم حول شخصه، فتداعت (حرية سلام وعدالة)، وارتقت (شكرًا حمدوك).
أما من حيث الرؤية، فقد أشار إدريس في خطابه الأول إلى امتلاكه تصوُّرًا وخطة للعمل، غير أن السياق الذي تسلَّم فيه المنصب لا يوفّر البيئة المناسبة لتنفيذ خطةٍ طويلة الأمد؛ فالوضع السياسي والاقتصادي والأمني الراهن يفرض مقارباتٍ سريعة ومرِنة تركّز على الأولويات العاجلة؛ إذ من غير الممكن إطلاق مشروعٍ إستراتيجي واسع الطموح في ظلّ ميزانية حرب، وتحدياتٍ أمنية متصاعدة، واستقطاباتٍ سياسية وعرقية حادَّة. هذه المرحلة تفرض نمطًا مختلفًا من التفكير يتجاوز الأُطُر التقليدية، وقراراتٍ شجاعة تتلاءم مع تعقيدات المرحلة الانتقالية.
ما زالت تجربة إدريس العملية قيد التشكُّل، إذْ يخطو بحذرٍ بالغ،كأنمَّا يتلمَّس طريقه في حقل ألغامٍ، خشية الاصطدام بأيٍّ من القوى المتنازعة. ويُحسَب له أنه بلغ المنصب من غير ظهيرٍ حزبي أو رافعة تنظيمية، وهو ما قد يتيح له هامش استقلاليةٍ أوسع، لكنه في المقابل يتركه عرضةً للعزل في لحظةٍ حرجة، إذ يسهل التخلُّص منه بجرّة قلم من غير أن يهُبَّ لنصرته نصيرٌ سياسي أو ظهيرٌ شعبي. وإذا كان إدريس يطمح إلى أن يكون قائدًا حقيقيًا، فعليه أن يتعامل مع الواقع كما هو، وأن يتحرَّك بسرعة؛ فالبلاد لم تعُد تحتمل مزيدًا من الإخفاقات. عليه أن يعِي جيدًا أن هذه اللحظة الحرجة تتطلَّب مرونةً، واتزانًا، ورؤيةً عملية قصيرة المدى واضحة المعالم تلامس الواقع بأدوات الحاضر، لا بأوهام الماضي أو وعود المستقبل البعيد.
أما حمدوك، فلم يحمل مشروعًا خاصًا به، بل جِئ به لتنفيذ خطةٍ تستبدل تمكينًا بتمكين آخر. وقد أبى أن يكون رئيسًا لجميع السودانيين، وهو ما أفضى إلى تراجع شعبيته خلال فترة حكمه، حتى انتهى به الأمر الآن إلى عزلةٍ سياسية وغربةٍ جماهيرية رغم استمرار أنصاره ما انفكُّوا يتذرَّعون بأن الدولة العميقة هي التي أعاقت نجاحه.
تميَّزت علاقة حمدوك بالمؤسسة العسكرية بالتذبذب والحذر، فقد تولَّى المنصب في أعقاب سقوط نظام البشير ضمن صيغة شراكةٍ فرضتها موازين القوى آنذاك بين المدنيين والعسكر. ورغم ما ناله من دعمٍ شعبي واسع في بداياته، لم يتمكَّن من بناء جبهةٍ مدنية قوية تفرض رؤيتها، بل بدا في كثيرٍ من الأحيان تابعًا لإيقاع العسكريين، لا شريكًا متكافئًا معهم، وخاصةً قادة الدعم السريع. كما أنه ارتضى تقاسم السلطة بلا اشتراطاتٍ واضحة تضمن مدنية الحكم، وهو ما أتاح للعسكر الاحتفاظ بمفاصل السيادة والأمن. وبلغت تلك التنازلات ذروتها حين عاد إلى منصبه بموجب اتفاق 21 نوفمبر 2021 منفردًا مع الفريق البرهان، في خطوةٍ عدَّها كثيرون خيانةً لثقة الشارع وروح الثورة، وتكريسًا لوصاية المؤسسة العسكرية على المرحلة الانتقالية؛ ولكن المفارقة أن القادة المدنيين تمسَّكوا به رغم تجاوزه لهم بذلك الاتفاق؛ فهل كان ذلك نابعًا من يقينٍ بأنهم أعجز من أن يصنعوا صنمًا جديدًا، ولذلك ادّخروه تحسُّبًا لما قد تأتي به الأيام؟
في المقابل، دخل إدريس المشهد من بوابةٍ مختلفة تمامًا؛ فقد تولّى المنصب في ظلّ حربٍ طاحنة دمَّرت مؤسسات الدولة، وعزَّزت من حضور العسكر بوصفهم القوة المنظّمة القادرة على فرض الأمر الواقع. ومع ذلك، يُلاحَظ أن إدريس يتعامل مع العسكر ببراغماتيةٍ حذرة، دون أن يظهر تبعيَّةً مطلقة أو نزعةً صدامية، فهو لم يدخل السلطة بتسويةٍ معلنة معهم، ولم يُعرَف عنه التماهي مع خطابهم، لكنه أيضًا لم يصطدم بهم مباشرةً، وهو ما يشير إلى سعيه للحفاظ على مساحة مناورةٍ محدودة تتيح له تحريك الملفَات المدنية دون استفزاز مباشرٍ للسلطة العسكرية. ويتوقَّف نجاحه في هذه المعادلة الدقيقة على مدى قدرته على كبح تغوُّل العسكر دون الدخول في مواجهةٍ مكلفة في ظرفٍ لا يحتمل المغامرات.
ومن أبرز الفروقات بين الرجلين ما يتعلَّق بالانتماء الجغرافي والإثني، وهي ورقةٌ ما زالت، للأسف، تؤرّق السياسة السودانية؛ فحمدوك، المنتمي إلى إثنية تُعَدُّ من (الهامش)، يُقال إنه قوبل برفضٍ مستتر من بعض النخب المركزية، لا بسبب ضعف أدائه فحسب، بل أيضًا لرمزية انتمائه وخروجه من الدوائر التاريخية للسلطة، وهو رأيٌ مردود على طارحيه بشواهد تاريخية عدَّة. في المقابل، فإن إدريس، ابن قبيلة الدناقلة، إحدى القبائل المرتبطة تاريخيًا بالمركز، قد يُنظَر إليه على أنه امتدادٌ لمنظومة الهيمنة التاريخية، حتى وإنْ لم يتبنَّ خطابها أو ممارساتها. وتُبرِز هذه المفارقة جوهر الأزمة السودانية العميقة المتمثّلة في الصراع على رمزية الانتماء، والتمثيل، والعدالة في توزيع السلطة.
في المجمل، لا شكَّ أن حمدوك قد أفرغ ما في كنانته من سهامٍ، واستنفد كامل طاقته السياسية. فرغم عناصر النجاح العديدة التي أتيحت له، فإنه بدَّدها برعونة، لأنه لم يكن يملك قراره، بل ظلَّ أسيرًا لدائرةٍ التفَّت حوله آنذاك، وهي ذاتها التي ما زالت تحيط به اليوم إحاطة السوار بالمعصم، ولا أمل في فكاكه منها. وحتى لو قُدِّر له أن يعود إلى المشهد الآن، فإنه لن يقدّم جديدًا، بل لأعاد أخطاءه بحذافيرها، لأن المعادلة ببساطة لم تتغيَّر. ولئن كانت المقارنة غير واردة من حيث السياق والتجربة، فإن حاله لن يكون بأفضل من حال مهاتير محمد، باني نهضة ماليزيا، الذي تنازل طوعًا عن الحكم، ثم عاوده الحنين إلى السلطة فعاد بعد سنوات، ليكتشف ويكتشف معه الناس أن معين أفكاره الإصلاحية والنهضوية قد نضب، فلفظه الشعب، وكان سوء الخاتمة السياسية. أما إدريس، فهو مشروعٌ لم تتضح معالمه بعد، ولا يُعْلَم إن كان سيُفلِح في ترسيخ نمطٍ مغاير من القيادة، أم أنه سينزلق إلى درب الخيبات المتكررة. فرص نجاحه حتى الآن محدودة، ومجال حركته ضيّق في ظلّ تكالب الجميع على الغنائم. ومع ذلك، فإن نجاحه سيعتمد على مدى قدرته على الحفاظ على استقلاليته، وتخفيف إسار العسكر، ومهارته في المناورة لتوسيع دائرة التوافق الوطني. ومن باب الإنصاف، لا بُدَّ من منحه فرصةً حقيقية لعرض بضاعته، لا بوصفه مخلّصًا، بل بوصفه معبرًا انتقاليًا قد يساعد البلاد على الخروج من وهدتها الخانقة.
خالد محمد أحمد
إنضم لقناة النيلين على واتساب