ينزلق السودانيون، هذه الأيام، بسبب الخصومات والخلافات السياسية، إلى درك سحيق من الأفك والكذب والفجور، لا أدري هل هذه هي خاصية اختصنا بها الله وحدنا، أم أنها ظاهرة كونية، وما نحن إلا شكل من أشكال تمظهرها بسبب الصراع الحاد في المشهد السياسي السوداني. من يقف ورائها، وماذا سيحصد منها ممارسوها، لأنها تمثل الإقصاء في أبشع تجلياته، وهل ما عاد ممكناً أن نتصارع فكرياً، ونتنافس سياسياً في أرض نظيفة، منبسطة، خالية من الحصى والشوك والحسكنيت؟.
منذ أن نصب نميري المشانق للمدنيين، لأول مرة في أحكام سياسية، في يوليو 1971، طوينا صفحة من التسامح، وولجنا عصر العنف السياسي في أقبح صوره، العنف الذي يمارس من أجل تحقيق مكاسب سياسية، وهو أمر دخيل علينا، حيث لم نكن قبل ذلك التاريخ، بل وحتى خلال سنوات الاستعمار، أن شهد السودان الاغتيالات السياسية. وكما فتح نميري ذلك الباب في بدايات حكمه، كتب لنفسه سوء الخاتمة بمهزلة محاكمة الفكر وإعدام شهيد الرأي الأستاذ محمود محمد طه كشكل آخر من أشكال العنف السياسي.
بعد استعادة الحكم المدني بعد إبريل 1985، كنا نعتقد أننا قد طوينا، وللأبد، تلك الصفحات المظلمة في تاريخنا من الممارسات السياسية، إلا أننا شهدنا الخروج عن أدب الخلاف وممارسة سوء الأدب والانحطاط السياسي في صحف الجبهة القومية الإسلامية، ألوان، والراية، حيث ضربتا بكل القيم والأخلاق عرض الحائط، بعد أن سعتا بجهد دؤوب على تشويه فكرية التعددية، وصارتا تقدما صورة مشوهة من الممارسة الديمقراطية في حقوق النشر وحرية الرأي، وذلك لإضفاء الشرعية على النموذج الاستبدادي الذي يعدون له العدة منذ دخولهم في المصالحة مع النميري في 1976.
توجت الجبهة القومية الإسلاموية ذلك التبخيس للديمقراطية بانقلابهم المشئوم عليها في يونيو 1989 وأدخلوا البلاد في لُجٍّ من الحروب والعنف السياسي بصورة لم تخطر على بال أشهر الدكتاتوريين في العالم وأشدهم قسوة وعنفا أمثال هيتلر وموسيليني والجنرال فرانكو. شيدوا لأنفسهم أعتى نظام استبدادي في تاريخ الانسان، حيث استأثروا لأنفسهم، بسياسة التمكين، بكل السلطات، وعزلوا السودان من محيطه الاقليمي والعالمي بعد أن حولوه إلى خميرة عكننة لكل العالم، ومارسوا سياسة العنف والترهيب من دون أي اعتبار لأبسط المبادئ الإنسانية، لم يجدوا حرجاً في تعيين وظيفة رسمية في أجهزة الدولة تحت مسمى (مغتصب).
الآن وفي ظل ثورة ديسمبر المجيدة رأينا كيف تآمرت وتورطت اللجنة الأمنية بقيادة الجنرالين البرهان وحميدتي في جريمة فض الاعتصام النكراء لشباب عزل كل جرمهم أنهم كانوا يتغنوا للحرية والسلام والعدالة وهم في حمى جيش الوطن.
ربما أحتكر الاسلامويون القتل في الجرائم السياسية بعد حكم نميري، إلا أن ممارسة العنف السياسي، في أشكاله الأخرى، لم يعد حكراً لهم، بعد أن أصابت جرثومته معظم القوى السياسية وانتشرت، يا للأسف، بين الكتاب والأدباء والمفكرين. ونجد أكبر ضحايا ذلك العنف اللفظي والمعنوي هي تحالف قوى الحرية والتغيير المختصرة ب "قحت" أو تنسيقية القوى المدنية "تقدم" حتى صارت كلمة "قحاتي" كأنها شتيمة لصاحبها، بعد أن دمغوا زوراً وبهتاناً قحت وتقدم بالخيانة والعمالة وبأنها الحاضنة السياسية لمليشيا الدعم السريع.
عندما تأتي مثل تلك الاتهامات المسيئة من قبل الكيزان والفلول، فذلك أمر متوقع، حيث لم نر منهم صدقاً قط، لا في قول أو في فعل، ولم نشهد لهم إلا بالكذب والافتراء وخيانة العهود. لذا ليس بمستغرب أن تأتي منهم مثل تلك الفرية الكأداء لكن أن ترددها قوى محسوبة على الثورة، ومن كتاب ومثقفين، وحزب مثل الحزب الشيوعي فذلك أمر مثير للدهشة!.
في كلمة الميدان، لسان حال الحزب الشيوعي السوداني، العدد 4185 الصادر بتاريخ 14 مايو 2024 جاء فيها ( ... لقد فشل انقلاب 25 أكتوبر 2021 في الوصول والاحتفاظ بالسلطة للمكون العسكري لحماية مصالح البرجوازية الطفيلية وبقايا الفلول ومن يدعمهم إقليمياً ودولياً، كان لتصدي جماهير شعبنا ممثلة في قواه الحية والجذرية ومظاهراتها السلمية التي ملأت شوارع مدن السودان، السبب الرئيسي لتراجع قوى الانقلاب، بل بروز انقسامات في صفوفها، وحاول طرفا المكون العسكري الاحتماء بحاضنة مدنية، وجدت مليشيا الدعم السريع ضالتها في بقايا "قحت" بينما استمر بقية اللجنة الأمنية في توسيع قوى اعتصام الموز ....).
إن قرار وموقف قحت وتنسيقية تقدم منذ اندلاع هذه الحرب العبثية، والذي أعلن من أول يوم الاحتفاظ بمسافة واحدة من الطرفين والسعي معهما للوصول إلى إعلان مبادئ مشترك لوقف إطلاق النار، ثم ابتدار عملية سياسية تنقل البلاد إلى مربع السلام والتحول الديمقراطي.
بما أن الحزب الشيوعي خاض مع الخائضين في عرض هذا التحالف العريض، حلفاء الأمس، والذي لم يزل، رغم انسحاب الحزب الشيوعي وبعض الكتل والأحزاب السياسية والحركات المسلحة مثل "حركة تحرير السودان" بقيادة مناوي، "حركة العدل والمساواة" بقيادة د. جبريل إبراهيم، وأحد فصيلي تجمع المهنين السودانيين بعد انقسامه الي فصيلين، بقي أحدهم عضوا في التحالف.
على الرغم من ذلل التشظي والتلظي، لا يزال التحالف هو الأكبر ولأكثر تأثيرا في الشارع والقرار السياسي، وهو الوحيد الذي يجد الاعتراف والاحترام والقبول من قبل المجتمع العالمي الداعم للثورة السودانية. يكفي أنه لا يزال يضم أكبر حزبين سياسيين عرفهما السودان في تاريخه الحديث وهما حزبا الأمة – الأصل – والتجمع الاتحادي المعارض الذي يضم معظم الكتل الاتحادية، هذا عدا الحزب الصاعد بقوة الدفع الشعبي والنقاء الثوري حزب المؤتمر السوداني، ولا يزال هناك الفصيل الأكبر في تجمع المهنيين عضوا فاعلا فيه.
نعم يعاني التحالف من العديد من الإشكالات التنظيمية والضعف الهيكلي، وغياب الديمقراطية والشفافية في بعض مكوناته، ويعاني كذلك من المطاردات والاعتقالات والتصفيات التي يتعرض لها ناشطوه في الداخل، لكنه على الرغم من ذلك يظل الأمل الوحيد لهزيمة الفلول ومخططاتهم، ودونه، شئنا أم أبينا، لن يوجد السودان الذي كنا نعرفه أو نبني السودان الذي ننشده.
في مطلع أبريل الماضي أصدرت النيابة العامة في السودان، أوامر بالقبض على رئيس الوزراء السابق، رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، عبد الله حمدوك، و15 من قادة التنسيقية، وجاء قرار النيابة بناء على بلاغ دونته اللجنة السودانية للتحقيق في جرائم الحرب، ضد قادة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، بتهم تتعلق بإثارة الحرب ضد الدولة وتقويض النظام الدستوري والجرائم الموجهة ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، تهم تصل عقوبتها إلى الإعدام.
عرف الحزب الشيوعي السوداني، وطوال تاريخه، مؤمنا وعاملا بمقولة المفكر الفرنسي فولتير (قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد ان ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك)، أضابير المحاكم، وروزنامة الراحل المقيم كمال الجزولي مليئة بكثير من المواقف التي هب فيها رجالات الحزب لرفع الظلم عن أفراد وجماعات محسوبون ضمن القوى المناوئة للحزب مما أكسبه احترام الأعداء قبل الأصدقاء.
فلو قرأنا هذا الصمت المريب من قبل الحزب الشيوعي تجاه تلك التهم الجائرة في حق قيادات تقدم مع ربطه فيما أوردته من كلمة الميدان، نستنتج موقف الحزب الرسمي على تلك الاتهامات وهو التأييد المطلق لها، فما دام الحزب يطالب بتصنيف مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية، وأن تقدم أو قحت هي الحاضنة السياسية لتلك المليشيا الإرهابية فبالتالي هم شركاؤهم في الدم وفي الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الدعم السريع!
هذا الأمر أكاد لا أصدقه وأتمنى أن ينفيه بيان رسمي من الحزب الشيوعي يغسل به عار الصمت المتواطئ مع جرائم الفلول فهو أمرا لا يشبهه وموقف مخزٍ لا يليق به.
عاطف عبدالله
17/05/2024
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العنف السیاسی الحزب الشیوعی الدعم السریع بعد أن
إقرأ أيضاً:
العنف الأسري
#العنف_الأسري
د. #هاشم_غرايبه
مجتمعاتنا حديثة العهد بهذا المصطلح، الذي استورد من المجتمعات الغربية من ضمن ما أقحم في ثقافتنا من مفاهيمهم.
المقصود بالعنف الأسري هي تلك الحالة التي يتم فيها اللجوء الى العنف في التعامل لحل المشكلات البينية داخل الأسرة، هذه الحالة ناشزة غير معتادة، فالأصل أن تسود الروح الودية بسبب العلاقة الحميمة أولا، وبسبب تطابق المصالح لأعضاء الأسرة الواحدة وليس تعارضها ثانيا.
لذلك فإن النظام الليبرالي في المجتمعات الغربية هو المسؤول عن غياب أو تغييب العاملين السابقين، لأن هذا النظام يعتبر الفرد هو الوحدة البنائية للمجتمع، لذا يرتكز على إعلاء قيم الفردية، ويعتبر معيار النجاح هو مقدار ما يحصله الفرد من ربح، بينما تعتمد مجتمعاتنا القيم الاسلامية المتوارثة، التي تعتبر الأسرة هي الوحدة البنائية للمجتمع، لذلك فمعيار النجاح هو في مقدار النفع العام المتحقق من تعاون الأفراد وليس تنافسهم.
من الواضح أن غزو القيم الغربية لمجتمعاتنا بات أمرا ملموسا، وتعمل أنظمتنا العربية بدأب على إحلال تلك القيم مكان قيمنا الإسلامية، سواء كان ذلك انطلاقا من قناعاتها العلمانية أو أنها فرضتها عليها التبعية.
لذلك من المفيد التنبه الى أهم المطبات الخطرة التي سيواجهها مجتمعنا في حال نجحوا في تحقيق هذا التحول:
1 – تعنيف الزوجة: تعريف العائلة في المفهوم الليبرالي ( حسب تعريف وثيقة مؤتمر القاهرة الدولي عام 1994) للسكان، هو علاقة بين شخصين أو أكثر، يعني ذلك بوضوح أنه ليس بالضرورة أن تكون هنالك أسرة طبيعية من أب وأم وأطفالهما.
لذلك فالعلاقة قد تكون بناء على توافق رغبات شهوانية وانسجام بين ذكرين أو أنثيين، وليس شرطا توفر المودة والرحمة بينهما، لأنها لا تكون الا بين ذكر وأنثى، ولا أن يكون الرابط هو عاطفتي الأمومة والأبوة، وإنما التبني، الذي هو بديل عنهما.
أما العلاقة داخل العائلة التي يتميز بها النظام الإسلامي، فتحكمها روابط اجتماعية تحددها القيم والعادات (وليست الحرية الكاملة كما في الليبرالية)، وأسس راسخة وفق قواعد شرعية صارمة (وليست قوانين وضعية مرنة يتم تعديلها حسب ميول الناخبين كما حدث من إقرار لتشريعات المثلية)، كما أنها مبنية على التواد والتراحم بين الزوجين، الذي تجسده العلاقة المقدسة والمصانة بين الإثنين، وليست على حرية إقامة العلاقات الغرامية خارج إطار الزوجية، مما يفسد التواد والتراحم الفطري.
2 – تعنيف الأولاد: النظام الليبرالي يعتبر الأطفال أبناء المجتمع، لذلك حريتهم مصانة قانونيا فلا يحق للوالدين التدخل في خياراتهم ولو كانت خاطئة، والتناقض يبلغ ذروته عندما يعتبرون مواقعة الفتاة القاصر جريمة، لكن لا يحق للوالدين منع ذلك ولو كان خشية عليها من أمومة لا تقدر عليها، ورغم أن الإتجار بالمخدرات فعل مُجرّم، لكن لا يحق للوالدين منع أبنائهم المراهقين من تعاطيها فذلك يعتبر تدخلا في حريتهم، كما أن أمومة المرأة لمولودها ورعايتها له يخضع لاختيارها وحسب ظروفها، وليست ملزمة بإرضاعه.
في النظام الإسلامي كل العلاقة الأسرية منطلقة من عاطفة الأبوة والأمومة الفطرية مع الأولاد، ولا يمكن أن يكون هنالك علاقة ارتباط أقوى من علاقة الأم بطفلها، من هنا جعلت الشريعة حضانة الطفل مقصورة على الأم، وحددتها بتشريعات دقيقة ومفصلة لكل الحالات.
إن ما ينشأ من الإرتباط القوي بين الطفل ووالديه يجعلهما الأحرص على مصلحته والأكفأ في رعايته، فلا يمكن أن يلحقا الضرر به، ولا يمكن للدولة أن تكون أحرص ولا أرحم من الوالدين، فالعلاقة الأسرية القوية تحمي أفراد العائلة أكثر بكثير من الشرطة.
هذا هو الأصل أما الإستثناء فهو قليل ومرتبط بسوء الأوضاع الإقتصادية المؤدية الى التفكك، وسبب ذلك يعود الى سوء الإدارة أو الفشل من قبل السلطة، وليس الى خلل في التشريعات الإلهية المنظمة.
نصل في النتيجة الى أن ما يحفظ أمن المجتمع والعلاقات الودية بين أفراده، هو وجود الوحدات المستقلة (الأسر)، كل وحدة منسجمة العلاقات بين أفرادها، وبالعلاقة الممتدة أفقيا وطوليا تحقق الترابط المجتمعي الأمثل.
أما ما يمنع العنف الأسري والمجتمعي حقا فهي تعليمات الأحوال الشخصية في أحكام الشريعة، والتجاوزات التي نراها في مجتمعاتنا ليست لقصور في تلك التشريعات، بل لغياب الدولة الاسلامية، فلو كانت السلطة الحاكمة ملتزمة بتطبيق الشرع، لما حدثت تلك التجاوزات.