استعصاء التنمية الاقتصادية دون تنمية ثقافية..
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
في الآونة الأخيرة تعاظم حضور مفهوم «التنمية» في الأوساط السياسية والفكرية العربية، بالذات بعد الكشوف النظرية التي رافقت تطوَّر هذا المفهوم، كشوف عَمِلت على تحريره من قيد الحقل الذي ظل مرتبطًا به (حقل الاقتصاد) وربطه بكافة أشكال الحياة الاجتماعية ليشمل: «الفقر والعدالة والحقوق والرأي... إلخ» ومن ضمن هذه الكشوف ما اشتغل عليه الاقتصادي الهندي أمارتيا كومار سن (المولود في 1933م) وبالذات في كتابه «التنمية حرية -1999م» وأمارتيا حائز على جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية سنة 1998م.
ونحن إذ نشير لكتاب أمارتيا فهذا ليس طمعًا في الوقوف عند هذا الكتاب، فسعينا هو إدغام مفهوم التنمية في حيز الفعل الاجتماعي العربي، حيث لا يمكن تحقيقها دون اقتران بالنشاط الكلي، إذ هي ليست مجردةً من علاقات البنية الشاملة، وموقعها مشتبك ببقية الفاعليات، ومن متاعبنا حصر هذا المفهوم في التعبير عن معدلات الزيادة التي ينبغي أن تحدث في الناتج المحلي، دون إعطاء أهمية لطبيعته وتمظهراته الاجتماعية والثقافية.
إن هذا المفهوم الضَّيِّق للتنمية أثبت فشله عمليًا، فمعظم الخطط التي تضعها الحكومات لصالح التنمية الاقتصادية لن تكون قادرة على إحداث التغييرات الجذرية والقضاء على مظاهر الفقر ورفع مستوى المعيشة وتحسين الوعي بالمسؤولية الفردية تجاه المجتمع، والسبب وراء هذا العجز يعود إلى غياب الرؤية الكلية للبناء الاجتماعي، وهي رؤية تأخذ في الاعتبار أنه ولتحقيق طفرات إيجابية لا ينبغي إغفال الجوانب الثقافية والتي هي مناط فعل الفرد؛ الفرد الذي لا يجوز أن يغيب عن الإسهام في بناء مجتمعه، وصحيح أن للتنمية جوانبها الاقتصادية لكنها لا تنفك أن تكون تعبيرًا عن الحقيقة الاجتماعية بجذورها التاريخية وتمثلاتها الثقافية.
ونحن في هذا المقال القصير ندعو إلى بناء علاقة متينة بين التنمية بمعناها الكلاسيكي «الزِّيادة، والنَّماء، والكثرة، والوَفرة، والمضاعفة...إلخ» وبين «التنمية الثقافية». وهذا المفهوم يعود إلى الفرنسي جوفري دومازيدييه الذي نشر في ستينيات القرن الماضي مقالاً في مجلة «مجلس التعاون الثقافي التابع لمجلس أوروبا» يتنبأ فيه بالتطورات المستقبلية التي ستحدث في فرنسا وضرورة بناء سياسات ثقافية للدولة، ودومازيدييه كان يرى أنه لا يمكن أن يكون الفعل الثقافي فرديًا في الأمة الفرنسية، بل ينبغي التشريع له في الدولة لصالح تعزيز الحضور الثقافي لفرنسا في أوروبا.
ونحن في مجتمعاتنا العربية أحوج ما نكون إلى هذه الرؤية، إذ نحتاج إلى سياسات ثقافية منتجة تحقق لمجتمعاتنا الازدهار، فطالما أن الهدف من التنمية هو إحداث تحولات جذرية في واقع المجتمعات، فبناء هذه العلاقة بين (الثقافة والاقتصاد) ضرورة عملية، ولإنجاز ذلك نحتاج من صُنَّاع القرار أن يصنعوا سياسات ثقافية قائمة في ترابط مع الخطة التنموية العامة للدولة، وأن ينتقل الفعل الثقافي من فرديته إلى معنى جماعي، حيث تتحول الأفكار إلى منتجات، وبمعنى أكثر دقة، أن تكون التشريعات الاقتصادية متمحورة حول الفاعلية الاجتماعية في تجلياتها كافة. فبالنظر إلى أحد أهم الحقول الاجتماعية حقل «الثقافة» فالأمر منوط بتتويج أشغال المثقفين والمبدعين وتأسيسها على معنى السوق، أي أن تكون ذات عائد ربحي، وهذا ما بات يُعرف بـ«الصناعات الإبداعية» ولأجل ذلك فإنه يقع على عاتق المسؤولين تشجيع المثقف ونقله من حيز التأملات إلى الإنتاج المعرفي، ولكي يستطيع المثقف القيام بهذه المهمة، فإنه مطالبٌ كذلك ببناء مشروعه الثقافي على الراسخ من القيم المادية والمعنوية للمجتمع، وبذا يحقق لنفسه صفة «الناطقية» كونه سيصبح حالة مُجَسِدة لمجتمعه وبيئته وأهله، وهذا هو مطلبه العزيز وشكواه، ومن ناحية المؤسسات المعنية برعاية النشاط الثقافي فدورها أن توفر ميزانيات معقولة ومدروسة الأثر لتفعيل الحقل الثقافي بمختلف أنشطته ومجالاته، فإن تمت هذه الزِّيجة بين «الاقتصادي والثقافي» فإن الدولة ستكون قد حققت المعنى الرئيس من مفهوم «التنمية» تلك التي بموجبها تتجذر فاعلية الدولة لصالح بناء المجتمع وتشغيل أفراده على هدىً من منظومة كليانية قادرة على صناعة معنى التقدم في مظانه كافة، وتنقل الفرد من كونه عالةً على الدولة إلى فاعل إيجابي خدمة لمجتمعه وحقله الثقافي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا المفهوم
إقرأ أيضاً:
تعليق على «التواصل الاجتماعي» يكلف شاباً 70 ألف درهم
قضت محكمة العين للدعاوى المدنية والتجارية والإدارية بإلزام شاب بأن يؤدي إلى صاحب محل تجاري مبلغ 70 ألف درهم، تعويضاً عن الإساءة لسمعة المحل والتسبب في خسارته، عبر نشر تعليقات مسيئة عنه على أحد مواقع التواصل.
وفي التفاصيل، أقام رجل دعوى قضائية ضد شاب طالب فيها بإلزامه بأن يؤدي له 200 ألف درهم تعويضاً عما أصابه من أضرار مادية ومعنوية، فضلاً عن رسوم ومصاريف الدعوى، ومقابل أتعاب المحاماة، مشيراً إلى أن المدعى عليه أساء لسمعة المحل التجاري المملوك له بأن أذاع عنه عبارات من شأنها الإضرار بسمعته، والتسبب في خسائر له، وكان ذلك عن طريق تعليقات نشرها على أحد برامج التواصل، وقد أدين المدعى عليه عن ذلك الفعل بموجب حكم جزائي باتّ.
فيما قدم المدعى عليه مذكرة جوابية على الدعوى طلب في ختامها رفض الدعوى، واحتياطياً مخاطبة الهيئة الاتحادية للضرائب، لتزويد المحكمة بالإقرارات الضريبية للشركة عن المدة التي يدعي فيها المدعي حدوث انخفاض في حجم المبيعات بسبب فعله، مع إلزامه بالرسوم والمصاريف، وأرفق صورة من إقرار إعالة وصور من محادثات عن طريق أحد المواقع الإلكترونية.
من جانبها، أفادت المحكمة في حيثيات حكمها بأن الثابت من مطالعة الأوراق والمستندات أن الفعل غير المشروع الذي رفعت الدعوى الجزائية على سند منه، هو بذاته الذي يستند إليه المدعي في دعواه المدنية الراهنة، وكان الحكم الجزائي سند الدعوى قد قضى بإدانة المتهم (المدعى عليه) لثبوت الاتهام المنسوب إليه عن تهمة الإساءة المبينة تفصيلياً بأسباب الحكم الجزائي، ومن ثم يكون ذلك القضاء قد فصل فصلاً لازماً في وقوع الفعل المكون للأساس المشترك بين الدعويين الجزائية والمدنية وفي الوصف القانوني لهذا الفعل ونسبته إلى فاعله.
وبخصوص طلب التعويض عن الأضرار التي لحقت به، أشارت المحكمة إلى أنه وفقاً للمقرر من قانون المعاملات المدنية «كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز بضمان الضرر»، وكان خطأ المدعى عليه ثابتاً، وقد ترتب عليه ضرر بالمؤسسة المملوكة للمدعي، تمثل في ما أصاب سمعتها كونها جهة تجارية نتيجة ما اقترفه المدعى عليه من فعل. وقد توافرت علاقة السببية بين الخطأ والضرر، فيكون المدعى عليه ملزماً قانوناً بتعويضها عن الضرر. وحكمت المحكمة بإلزام المدعى عليه بأن يؤدي تعويضاً للمدعي بمبلغ 70 ألف درهم.
صحيفة الامارات اليوم
إنضم لقناة النيلين على واتساب