محمد رامس الرواس
النُجباء يذكرهم التاريخ بسطور من نور، تقديرًا وعرفانًا لجهدهم الصادق في خدمة أوطانهم، فما بالنا برجُلٍ كرّس حياته كاملةً من أجل الإسهام في بناء وطنه، والمشاركة في رفع أعمدته السامقة، هكذا يكون الأخيار، من أبناء عُمان المُخلِصين، وهكذا نتحدث عن معالي المستشار الراحل عبد العزيز بن محمد بن عبدالعزيز الكتيني الروّاس، الذي وافته المنية قبل أيام، ليترك فراغًا سياسيًا واجتماعيًا، ليس فقط داخل وطننا الحبيب، ولكن على مستوى المنطقة والعالم.
عبدالعزيز الروّاس، اسمٌ لمع في سماء الإعلام والثقافة داخل عُمان وخارجها، وقد كان الفقيد رجلًا من طراز فريد، ولم يكن من السهل الكتابة عن هذه الشخصية الفذة التي قدمت لوطنها وقائدها، الغالي والثمين، وبذلت في تحقيق آمال الشعب واستقراره ونماء علاقاته الخارجية أسمى معاني الجهد والعطاء. قد تكون شهادتي مجروحة فيه، لكن التاريخ والأيام شواهد، والمعاصرون لجيل الفقيد الراحل أحياء لا يزالون يتحدثون عنه، ليُبرهِنُوا ما لمسوه من خلال احتكاكهم معه، من أجمل معاني العطاء والإخلاص للوطن بكل تجرُّد.
منذ النشأة الأولى له في بيت معروف بالعلم والأدب والأخلاق، وترعرعه بين يدي أمٍ غاليةٍ فاضلة، والدة معالي المستشار، عليهم جيمعًا رحمات الله ومغفرته، نشأ عبدالعزيز الروّاس في كنف أسرة أحاطته بالعطف والحنان، فلقد احتضنته السيدة الفقيهة في الدين بكل عطف وحنان ورقة، فغرست فيه أفضل وأكمل مبادئ القيم التي يجب أن يلتزم بها المسلم في حياته، فكان التلميذ النجيب لديها، وشبَّ على ذلك، وبعد أن أكمل دراسته في المدرسة السعيدية بصلالة، انطلق يطلب الخبرة والمعرفة والعلم والعمل خارج السلطنة.
كانت وجهته الكويت، ولقد أخبرني والدي- رحمه الله- أنه التقاه هناك، وأشد ما يذكره عنه إعجابه بأنَّه كان كثير القراءة والاطلاع بشكل مُلفت للنظر. ومع بداية السبعينيات من القرن الماضي، عاد الرواس إلى وطنه عُمان، تملؤه طموحات وآمال عظيمة يحملها بين جنبات نفسه لا ينقصها إلا أن يحولها إلى واقع.
ولله الحمد، كان التوفيق من نصيبه، في ظل وجود سلطان شاب يقود نهضة فتية ويملك الرغبة والعزم على بناء دولة عظيمة لأمة عظيمة، فالتقت رؤاهما واجتمعت واشتركت أفكارهما على سبل الخير والنماء. وللمرة الثانية في حياته أصبح معالي المستشار التلميذ النجيب لدى السلطان قابوس- طيب الله ثراهما- فكان ضمن الصفوة الذين يُنفِّذون أقوال سلطانهم الحكيم، ويشاركونه الرؤى. وقد وجد معالى المستشار في السلطان الراحل الإرادة الكبرى التي استمد منها ونهل منها الكثير من الصفات والسمات الكريمة، ولقد كان معالي المستشار- رحمه الله- أنموذجًا لأصحاب المواقف من الشرفاء والنبلاء، ممن يُريدون لوطنهم العلو والسُّمو.
كما تجلّت نجابته في الحياة، من خلال فهمه الشامل لمعطياتها، في أخذها وعطائها، والأخذ منها بما يُصلح الشأن ويُعِز الوطن ويرفعه إلى مراتب العلو، هذا بجانب فراسته وتوسمه الخير في الرجال الأفذاذ، وذوقه الفريد في المعمار، وقدرته الهائلة على صياغة الكلمات والحديث عن عُمان وقائدها بأفضل ما يكون من العبارات. أما صفاته الإنسانية، فهي كثيرة، ومنها أنه عندما يحب أن يُسدي نُصحًا أو يوجه شخصًا ما نحو موضوع بعينه، لم يكن ليتحدث معه أمام الجميع أو العامة؛ بل كان يحرص على أن يكون ذلك بعيدًا عن أعين الناس، وخلف الكواليس، وهذه من أنبل الصفات.
لقد كان الروّاس وبإشراف من السلطان قابوس، مُهندس العديد من المشاريع الوطنية الإعلامية والثقافية على المستويين المحلي والدولي، وهنا قد لا أجدُ مساحة لعرض تلك المشاريع والمنجزات التي خرجت من مكتب معاليه، لكن علاقات عُمان الخارجية في الشأن الثقافي والإعلامي، بمثابة مرآة عاكسة لما كان يبذله الراحل من جهد. ومن جميل الأقدار، أن صفات مشتركة جمعت المستشار مع السلطان قابوس، لا سيما في الاهتمام بالجوانب الثقافية والأدبية والمعمارية والعلمية، ليصبح للمرة الثانية تلميذًا نجيبًا لدى سلطانه بدرجة امتياز؛ حيث توفرت لدى معالي المستشار العديد من صفات الذكاء والحكمة والحنكة والشجاعة، ما جعله رجل دولة من الطراز الفريد.
لقد حظيت عُمان بإشادات دولية واسعة بفضل نجاح علاقاتها الخارجية في المجالات الإعلامية والأدبية والثقافية، ولذلك شهود وبراهين دونتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والعلماء والمفكرون والكّتاب والأدباء، بكل شرف وتقدير وامتنان. لقد أصبح صوت عُمان الهادئ الرزين في الأوساط الدولية، ذي ثقلٍ يُحسب له ألف حساب، وعلى قدر لا محدود من الثقة التي تُعبِّر عنها الدول شرقًا وغربًا؛ الأمر الذي جعل لعُماننا الحبيبة هوية وطنية متميزة ومكانة ومنزلة رفيعة، تمامًا كما كان يتطلع إليها المعلم الأول لعُمان السلطان قابوس- طيب الله ثراه.
وبفضل هذه النخب العُمانية التي خدمت السلطان والوطن بكل إخلاص، ظلّت عُمان في منأى عن الجدالات والصراعات في المجالات كافة، ونجحت بلادنا دبلوماسيًا وإعلاميًا وثقافيًا في ترسيخ واحدة من أبرز الثوابت ألا وهي قيمة السلام، المصحوب بمبادئ التعايش والوئام العُمانية الخالصة.
أيضًا نالت المخطوطات العُمانية والمواقع الأثرية والتاريخية وتشييد المساجد والمعالم العُمانية الكثير من العناية والحماية والوقت والجهد من لدن السلطان قابوس، وكذلك تلميذه النجيب المستشار الروّاس، لتكتمل لعُمان المنجزات الثقافية والحضارية، فتحقق إدراج موقع "طريق اللبان" ضمن سجلات التراث العالمي، بجانب خمسة أفلاج عُمانية ضمتها لائحة التراث العالمي، وقد تُوِّجَت هذه الأعمال التي أشرف عليها السلطان الراحل وتابعها المستشار الرواس، بإنشاء مُتحف عُمان عبر الزمان، الذي تفضل بقص شريط افتتاحه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله وأبقاه.
إنَّ سيرة ومسيرة النجباء لا يُمكن رصدها وتوثيقها في سطور قليلة؛ بل تحتاج إلى مؤلفات عديدة، تكون خير شاهد على رجل صدق الله ورسوله، وأخلص لسلطانه ووطنه، ولذلك سيظل المستشار عبدالعزيز الروّاس- رحمه الله- أنموذجًا فريدًا لرجل الدولة المُخلص للقائد، المُدرك لمكانة وطنه بين الأمم، والعالِم ببواطن السياسة والإعلام، والمُوجِّه لكل ما يخدم مصلحة الوطن.. وهكذا هم المُخلِصون المُخلَصون، الأوفياء البررة، الساعون لتحقيق أمجاد الوطن وترسيخ قواعد استقراره، خلف قيادة حكيمة تُبصر الحق وتُرشد إلى التقدم، وتمضي بالأمة العُمانية نحو السؤدد والنماء.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مواكب المتهافتين على باب السلطان..!
يبدو أن ذاكرة بعض الشعوب فعلا ضعيفة، أتردد أحيانا أن أقول ذلك من باب التعميم، لأنه لعل وعسى ثمّة فروق بين الشعوب في قوة الذاكرة او ضعفها، وعلى أي حال فإني استطيع القول إن ذاكرة الشعب الليبي أثبت الواقع أنها ضعيفة، ولا تكاد تصمد أمام توالي السنوات التي صرنا نحسها تمر بسرعة، خُيّل لنا أنها غير مسبوقة، وإسقاطا على وضعنا الليبي استحضر تلك المواكب التي كانت تتهافت على خيمة القذافي، من ما يسمون قيادات وفعاليات شعبية للقبائل والعشائر والمدن والقرى، عندما كانت تشدّ رحالها صوب القائد في مناسبات عديدة، يأتون ليجددوا كما يدّعون مواثيق العهد والوفاء ويتفنّنون في دبج الكلمات شعرا ونثرا مرسلا، وتصدح حناجرهم بالهتافات المكرّرة التي كانت فاكهة كلّ لقاء في حضرة السلطان.
لقد صارت مواكب الزائرين إلى خيمة القذافي عادةً وتقليداً، التصق بالعقل الجمعي لدى تلك النفوس، التي كانت تربط ذلك بتحقيق مصالح دونيّة، متستّرة بعباءة رثة للقبيلة أو المدينة، يوهمون أنفسهم ومن يصدّقهم بأنهم يعملون الواجب حفاظا على مكانة القبيلة لدى الحاكم، خوفا من غضبه أو زعله، وما قد يترتب عنه من عواقب كالمزيد من احتقارهم وتهميشهم في شخوصهم، كي لا يحرمون من مزايا يرونها كبيرة ونراها تافهة وحقيرة، وهم قد جُبلوا على حبٍّ مزيّف للسلطان، حتى صار إرضائه سنّةً عرفيّةً يتداولونها جيلا بعد جيل، وعندما تفجّرت انتفاضة فبراير، ظهرت حاجة الحاكم لشعبه، فاستدعيت على عجل مواكب تلك القيادات الاجتماعية التي ثبت أنها مجرد فقاقيع إعلامية، شكّلت صورة باهتة ممجوجة للنفاق الاجتماعي فعجزوا عن مؤازرته وهو يهوى أمامهم مطلع كل يوم جديد.
اليوم ها هو المشهد يتكرر من جديد مع “الدبيّبة” الذي إنصافا -لا وجه للمقارنة به مع القذافي- فهو لا قائد ولا رئيس، إنما مجرد هيكل خشبي لسلطان مزيّف رمت به الصدفة مدفوعاً بسطوة المال المستباح من ثروة الليبيين المنهوبة، فبعد أن انتفضت الجماهير في العاصمة ضده مطالبة برحيله، اعمته بهرجة السلطان ونزوة المال، فتمسّك بتلابيب هيكل عرشٍ تتهاوى أركانه، بعد أن نخر سوس الفساد أعمدته، وأكلت “الأرضة” خشبه وقماشه وزرابيه، ها هو يجعل من مكتبه في طريق السكة قبلةً تهفو إليها جموع الطامعين المتزلّفين ممن يسمّون أنفسهم شيوخا وأعيانا لقبائل كرتونية وأجسام وهميّة.
ها هي مواكب المتهافتين تتوالى، لتعلن عن ولائها للسلطان دون الوطن الذي يستصرخ ليل نهار، ها هم يقدّمون مواثيق العهد المزيفة، ويعلنون أنهم مع الحكومة ويؤيدونها ولا يحيدون عنها من أجل ماذا؟! من أجل مصالح شخصيّة في شكل “صريرات مالية” أو وعود بمناصب ومواقع تمنح لهم جزاءً على تناديهم ودعمهم، وهم يعلمون لكن يتجاهلون أن السلطان لا يدوم، وأن التغيير قادم لا محالة، وأن التاريخ يسجّل عثرات الطامعين المتربصين، بما قد يتحصلون عليه من غنائم مغتصبة من مال الشعب الذي هو محرم عليهم، ويودّون أن يأكلوه في بطونهم سحتا مقيتا وزقوما.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.