الشيخ ياسر مدين يكتب: التشكيك فى السيرة النبوية (8)
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
طفنا خلال سبعة مقالات سابقة فى تاريخ تدوين السيرة النبوية بدءاً من عصر الصحابة الكرام إلى أن وصلنا إلى الحديث عن الجيل الرابع من علماء السيرة النبوية ومدوّنيها، وهو جيل محمد بن إسحاق بن يسار (ت 151هـ) وطبقته، انتهينا من الحديث عن محمد بن إسحاق وسيرته، وذكرنا منهجه فيها، وبيَّنا جهوده فى توثيق السيرة، وبيَّنا ما ورد عن الإمام مالك فى حق ابن إسحاق، وبيّنا أنه ليس المراد منه الطعن فى أمانته العلمية، وإنما لمآخذ تتصل بالآراء العقَديّة، وقد انتشرت سيرة ابن إسحاق بين الناس انتشاراً يدل على تلقى العلماء لها بالقبول، حتى صارت مرجعاً لمن كتب فى السيرة والتاريخ بعد ذلك، وهذا مما يبين معرفة العلماء بقدرها، وبما بذله صاحبها فيها من تحقيق وتدقيق.
وقد جاء بعد محمد بن إسحاق عالم كبير هو عبدالملك بن هشام بن أيوب، المعروف بابن هشام، وهو عالم نشأ بالبصرة، ثم جاء إلى مصر، وصار أحد علمائها، وكان مؤرخاً، وعالماً بالأنساب، وإماماً فى اللغة، حتى إنه اجتمع به الإمام الشافعى فى مصر، وتناشدا شيئاً كثيراً من أشعار العرب.
وقد روى ابن هشام سيرة ابن إسحاق عن تلميذه زياد بن عبدالله بن طفيل البكائى (ت 183هـ)، وقد سبق بيانُ معنى الرواية. ولم يقتصر دور ابن هشام على مجرد تلقى سيرة ابن إسحاق تلقياً علمياً كتابة وقراءة بسند صحيح متصل بصاحبها، وإنما قام ابن هشام بتهذيب سيرة ابن إسحاق، وقد حدثنا صاحب كتاب «المغازى الأولى ومؤلفوها» فبين أنه ترك «تاريخ أهل الكتاب من آدم إلى إبراهيم [عليهما السلام]، ولم يذكر من سلالة إسماعيل [عليه السلام] غير أجداد النبى المباشرين، وكذلك ترك الحكايات التى رواها ابن إسحاق وليس فيها ذكر النبى، صلى الله عليه وسلم، أو لا يشير إليها القرآن، ولا تحتوى على مناسبة أو شرح أو تأكيد أى أمر آخر مروى فى كتاب ابن إسحاق، وقد أجرى كل هذا الحذف ليختصر الكتاب».
إذن، عمد ابن هشام إلى اختصار الكتاب بحيث يكون مقصوراً على سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلية وما يتصل بها من سير أجداده المباشرين، والحق أنه لم يكن دوره مجرد الاختصار، وإنما قام بعمل جليل خدم سيرة سيدنا، رسول الله صلى الله عليه وسلم، التى جمعها بصورة علمية محمد بن إسحاق، إن ابن إسحاق بذل جهداً كبيراً فى توثيق السيرة، غير أنه لم يكن من العلماء بالشعر، والشعر عند العرب علم كبير له علماؤه ورواته الثقات المعروفون، وقد جمع ابن إسحاق فى سيرته مادة شعرية غير قليلة، فقام ابن هشام بخدمة جليلة لهذه السيرة، وهى أنه قام بعرض هذه الأشعار على العلماء بالشعر، واستبعد منها كل ما أنكروه، وهذا العمل الجليل يبين مدى اهتمام ابن هشام بقضية توثيق السيرة، فهو من علماء اللغة وله علم بأشعار العرب يمكنه من تمييز صحيح الشعر من باطله، لكنه آثر أن يكون عمله أكثر دقة، فلم ينفرد بالحكم على الأشعار التى ضمنها ابن إسحاق فى السيرة رغم علمه الذى يمكنه من هذا، وإنما آثر أن يكون الحكم صادراً من العلماء المعروفين بعلم الشعر، فاكتسب عمله بهذا وجاهة علمية لا تنكر.
وهذا يبين كيف كان علماؤنا يقومون بأدوار يكمل بعضها بعضاً. ولعل ابن إسحاق لم يقم بهذا لاعتباره أن الأشعار المروية ليست من صلب التأريخ، فجمع منها ما وجده، وترك ما وراء ذلك لقارئ السيرة الناظر فيها من العلماء، ثم تلقت الأمة كلها كتاب ابن هشام جيلاً بعد جيل حتى وصل إلينا بصورته الكاملة، ولو أننا عددنا ابن هشام من الجيل السادس من المصنفين فى السيرة باعتبار أن البكائى تلميذ ابن إسحاق من الجيل الخامس، فإن الأمة كلها صارت بذلك هى الجيل السابع الذى تلقى السيرة النبوية التى صنفها ابن هشام وتناقلتها عنه نقلاً متواتراً بلا شك وأى شىء أوثق من التواتر؟!
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: السيرة النبوية الصحابة الكرام السیرة النبویة محمد بن إسحاق ابن هشام بن هشام
إقرأ أيضاً:
رأي.. عمر حرقوص يكتب: القوة الأممية في لبنان بين اعتداءات الأهالي والرفض الإسرائيلي
هذا المقال بقلم الصحفي والكاتب اللبناني عمر حرقوص*، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
يبدو أن ملف قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان "اليونيفيل" يقترب من الإنهاء بعد 47 عاماً من انطلاق عملها، بحسب ما نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن مصادر أميركية، مشيرة إلى أن واشنطن تدرس إنهاء دعمها للقوة الأممية، فيما أشارت صحيفة "جيروزاليم بوست" إلى قرار أميركي بالتصويت ضد تمديد تفويض قوات "اليونيفيل"، مضيفة أن إسرائيل والولايات المتحدة اتفقتا على ضرورة وقف عملياتها.
قصة "اليونيفيل" بدأت إثر الاجتياح الإسرائيلي الأول لجنوب لبنان عام 1978 حين قرر مجلس الأمن الدولي نشر قوة سلام تفصل بين الجيش الإسرائيلي وبين فصائل فلسطينية ولبنانية، على أن يؤدي هذا الانتشار إلى انسحاب إسرائيلي وعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل الاجتياح بظل اتفاقية الهدنة الموقعة عام 1948.
ولكن الحرب الأهلية والصراعات الإقليمية والدولية على الأراضي اللبنانية مددت عمل هذه القوة وجعلت منها طوال سنوات مطلباً لبنانياً شعبياً ورسمياً، بحجة منع ضم مناطق من جنوب البلاد إلى إسرائيل، فيما عانت هذه القوة طوال العقود الأربعة من هجمات لقوى لبنانية أدت إلى مقتل العديد من جنودها، ولم يكن وجود "اليونيفيل" مقبولاً لدى "حزب الله" فهو يتهم عناصرها دوماً بأنهم جواسيس، بينما تتهم إسرائيل الجنود الأمميين بالتقاعس عن تأدية مهامهم والتغافل عن قيام الميليشيات بحفر أنفاق ونقل أسلحة وبناء قواعد في مناطق تنفيذ القرار الأممي.
في السنوات الأخيرة، وتحت مُسمى "الأهالي" أدى أعضاء من حزب الله أو مناصريه دور قطع الطرق على القوة الدولية لمنعها من استكمال مهامها، وصولاً إلى قتل عناصرها بالرصاص مثلما حصل في منطقة العاقبية جنوب مدينة صيدا، أو بالعبوات الناسفة مثلما وقع قرب بلدة الخيام الحدودية، ليتعرض الجنود الأمميون إلى ضغط متواصل بين "مطرقة حزب الله وسندان الاتهامات الإسرائيلية".
الحديث عن إنهاء دور القوة الأممية يجري بظل تكثف الغارات والضربات الإسرائيلية مستهدفة عناصر من "حزب الله" بالإضافة إلى قصف قواعد عسكرية في الجنوب وتدمير أبنية في الضاحية الجنوبية لبيروت بتهمة وجود معامل لإنتاج الطائرات المسيرة التي أصبح استخدامها بديلاً عن الصواريخ في الحروب الحديثة.
الدولة اللبنانية ومنذ انتخاب جوزاف عون رئيساً للبلاد أعلنت مراراً نيتها بسط سلطتها على كامل البلاد ومنع وجود السلاح غير الشرعي. إلا أن هذا الموقف لم يدم طويلاً، حيث تراجعت الرئاسة عن الحديث الصريح بشأن السلاح، مع بدء تحرك المفاوضات الأمريكية–الإيرانية، ليتحول هذا الموقف إلى "حوار" مع مسؤولين من "الحزب" وتعيين أحد أبرز المقربين من "حزب الله" مستشاراً للرئاسة اللبنانية.
ويُفسّر مراقبون هذا التراجع على أنه مناورة سياسية تهدف إلى تجنب استفزاز "الحزب" في هذه المرحلة، حيث يظن بعض السياسيين أن إيران ستستعيد نفوذها في لبنان كجزء من صفقة أوسع قد تشمل تنازلات في الملف النووي مقابل نفوذ سياسي إقليمي أكبر.
في المقابل، تعرّض رئيس الحكومة نواف سلام لهجوم شديد من قبل إعلام "حزب الله" ومسؤوليه، بعد مطالبته بحصر السلاح بيد الدولة. وبلغ الهجوم حد اتهامه بالتعامل مع إسرائيل، وهو أسلوب اعتاد الحزب استخدامه لتخوين خصومه، خاصة عندما تُطرح مسألة سلاحه كعقبة أمام قيام الدولة.
بالتوازي مع التصعيد العسكري، تشير تقارير إعلامية إلى أن "حزب الله" يحاول إعادة تنظيم قدراته التسليحية عبر مشاريع لإنتاج أسلحة متقدمة، مستفيداً من الهدوء النسبي في الداخل وانشغال القوى الإقليمية والدولية بملفات أخرى. ويُعد هذا التوجه محاولة لإظهار القوة من جديد بعد الضربات الإسرائيلية، ولتخويف خصومه الداخليين الذين يرفعون الصوت ضد هيمنته.
يُظهر الوضع اللبناني الراهن تعقيداً شديداً وتداخلاً للأزمات، حيث تتضافر العوامل الداخلية والخارجية لتجعل من حل أزمة سلاح "حزب الله" وبسط سلطة الدولة أمراً بالغ الصعوبة. بينما يُحاصر الداخل اللبناني بين عجز الدولة عن فرض سلطتها، وتحوّل "السلاح" إلى أداة محتملة في لعبة التوازنات الرئاسية. وفي ظل هذا الوضع، يبقى السلام هشاً، ومعرضاً للانفجار في أي لحظة ما لم يتم التوصل إلى تفاهم شامل يعيد للدولة سيطرتها ولمؤسساتها استقلالها عن التغيرات الدولية والإقليمية.
*عمر حرقوص، صحفي، رئيس تحرير في قناة "الحرة" في دبي قبل إغلاقها، عمل في قناة "العربية" وتلفزيون "المستقبل" اللبناني، وفي عدة صحف ومواقع ودور نشر.
إسرائيللبنانحزب اللهرأينشر الثلاثاء، 10 يونيو / حزيران 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.