في بيروت:
«كنتُ أكتشف الدنيا لأولِ يومٍ
كنتُ أكتشف الدنيا...
وأرجعُ من موتي
وأنتحرُ».
من قصيدة «صُور سياحية للأبيضِ المتوسط».
لم نكد ننتصر بتحرر جورج إبراهيم عبدالله من سجنه الفرنسي وعودته إلى بيروت، بعد واحد وأربعين عامًا، حتى باغتنا زياد الرحباني بفقده المفاجئ في اليوم التالي. لكن الدنيا هي الدنيا؛ تلك عادتها القديمة ما بين مولودٍ ومفقود.
لحظةً بلحظة كنتُ أتابع البثَّ الحي لاستقبال جورج عبدالله على قناة «الميادين». كم تمنيتُ لو كنتُ هناك بين اللبنانيين واللبنانيات الذين توافدوا لاستقباله حتى لا أشعر هنا بالوحدة أمام المشهد المنتظر! ربما لم يتوقع أحد منّا أن يخرج المناضل السبعيني من سجنه المديد بتلك الطاقة الثورية الشابة التي بدت في حديثه المرتجل أمام الإعلام والناس الذين طوقوه على باب المطار. في عودته عودةٌ للغة مهجورة لم يعد يتكلم بها أحد، بل أصبحت موصومة بـ«المراهقة الثورية»، لغة تتحدث عن مقاومة الاستعمار والصهيونية والإمبريالية العالمية وكأنها تعيدنا إلى زمن وديع حداد وشعاره «وراء العدو في كل مكان»، الشعار الذي دفع جورج عبدالله في سبيله أكثر من نصف عمره في السجون الفرنسية. لغة جورج عبدالله التي تنفض الغبار عن الكلمات المنسية هي في واقع الأمر تحرج «الجماهير» و«المناضلين المتقاعدين» أكثر مما تحرج الأنظمة والحكومات، ولعل الأسير المحرر كان يعي ذلك ويقصده في هذا المناخ العام من الهزيمة. ولذلك أيضًا لا بدَّ أن نخشى عليه من لحظة إدراك يدرك فيها أن زمنه الثوري الموازي لم يعد يشبه زمن الناس المهزومين. نخشى عليه من غربة في الوطن، كما نخشى عليه من أي انتقام صهيوني أمريكي قد يتهدده.
أسبوع لبناني مشحون بالأيقونات الرمزية: جورج عبدالله وزياد الرحباني وفيروز. لبنان الثقافي والسياسي يتجلى في أسبوع استقبال ووداع غريب. حضور فيروز الصامت في عزاء ابنها كان الأكثر بلاغة في ذلك الطقس الحزين الذي لم يخلُ من حفلة نفاق تنكرية ودموع «14 آذارية» كان أصحابها دائمًا على النقيض الصارخ الذي لا يشبه زياد الرحباني، خاصة في موقفه من المقاومة والصراع مع إسرائيل. ولكن ليس لأحد أن يُصادر دموع أحد ما دمنا نتحدث عن فنان وساخر هو زياد الرحباني الذي «يحق لأي إنسان أن يدّعي صداقته لو لم يره حتى» كما كتب الفنان السوري بسَّام كوسا في صحيفة الأخبار.
ضاق لبنان على نفسه. ضاق من احتقانه بالصدى، ومن لعنة سايكس بيكو التي خلقت منه قطعة انفصال واتصال وظيفية ما بين الجوار السوري والجوار الفلسطيني المحتل، لولا نافذته المفتوحة على الأبيض المتوسط. وهو الآن رهينة لابتزاز دولي وإقليمي يقوده الموفد الأمريكي: لا دولارات من أجل إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل إلا بعد نزع سلاح المقاومة وتدميره! شرط يضع لبنان على حافة حرب أهلية. الأخبار تتحدث هذا الأسبوع أيضًا عن عودة مرتقبة لمورجان أورتاجوس لاستلام المهمة، وذلك بعد أيام من تصريح توم براك الذي هدد لبنان بإلحاقه ببلاد الشام في حال لم ينصع للشروط الأمريكية.
أسبوع من الدنيا في لبنان يكفي لنتأمل شغل التناوب المرهق، بين إشارات الأمل وإشارات اليأس، بين شارات النصر المرفوعة على باب المطار في استقبال المناضل المُحرر بقميصه الأحمر، وأجراسِ الجُنَّاز في وداع العبقرية الموسيقية. يجرحنا هذا التناوب في بلد يتصدَّع بالتناقضات. يجرحنا، نحن كبعيدين عن بلد الأرز، مشغوفون بصورته السياحية، أن ننظر إليه من خارجه وهو يتغرَّب اليوم أكثر فأكثر عن صورته، تلك التي ساهم الرحابنة في اختراعها، والتي كان زياد الرحباني نفسه قد وصفها بأنها «شِي فاشل»... ويجرحنا أن لبنان الذي نعرفه بات يتصحَّر بهجرات أبنائه وموت مبدعيه بلا ورثة. لكننا لا نستطيع أن نطالب لبنان الجميل بأكثر من طاقته؛ لا نطالبه الآن إلا بالحفاظ على نفسه.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: زیاد الرحبانی جورج عبدالله
إقرأ أيضاً:
أحمد الأشعل يكتب: العالم في حضرة أم الدنيا وقائدها
في شرم الشيخ، المدينة التي أصبحت رمزًا عالميًا للسلام والحوار والعقل، عاد التاريخ ليكتب صفحة جديدة من فصوله على أرض مصر. اجتمع العالم هناك، تحت سماءٍ مصريةٍ تعرف معنى النور بعد الظلام، ووسط جبالٍ شهدت ميلاد قراراتٍ صنعت الفارق في أكثر من محطةٍ سياسيةٍ وإنسانية.
العالم كله حضر إلى “أم الدنيا”، ليس فقط ليشارك في مؤتمر، بل ليُصغي إلى صوتها، إلى كلمتها التي لا تُشبه أحدًا، إلى الدولة التي لم تتخلّ يومًا عن دورها رغم قسوة الظروف، والتي ما زالت تؤمن أن القوة الحقيقية هي في الحفاظ على إنسانية الإنسان.
منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر، تعاملت مصر بشرفٍ نادر ومسؤوليةٍ تاريخية. لم تنجرف إلى انفعالات اللحظة، ولم تزايد على أحد، بل وقفت بثباتٍ في منتصف الطريق بين الحكمة والشجاعة. كانت الكلمة المصرية واضحة منذ اليوم الأول: وقف الحرب… لا للتهجير… نعم للحياة.
وحين حاول البعض تصفية القضية الفلسطينية أو القفز على حقوق شعبها، كانت القاهرة هي التي قالت “لا”، تلك الـ “لا” التي لم يستطع أحد غيرها أن يقولها، لأنها خرجت من قلبٍ يعرف معنى العدل، ومن ضمير أمةٍ لا تقبل المساومة على التاريخ ولا الجغرافيا.
مصر لم تغلق بابها في وجه أحد، ولم تتعامل مع القضية بمنطق السياسة الباردة، بل بمنطق الأخوّة والواجب.
فتحت حدودها رغم المخاطر، وسخّرت مؤسساتها المدنية والعسكرية والإنسانية لتوصيل المساعدات إلى غزة، في وقتٍ كانت فيه كثير من الدول تكتفي بالتصريحات أو بالمشاهدة عن بُعد.
بلغت مساهمة مصر في المساعدات الإنسانية أكثر من 80% من إجمالي ما دخل إلى غزة من أغذية وأدوية، وكانت الشاحنات المصرية تعبر المعابر يوميًا حاملةً أرواحًا جديدة لأهل القطاع، من طعامٍ ودواءٍ وأمل.
ولم تكتفِ مصر بذلك، بل أقامت مخيماتٍ ضخمة داخل غزة نفسها، لحماية المدنيين وتقديم المأوى والرعاية الطبية والغذاء لهم، في صورةٍ نادرةٍ من التضامن الإنساني والبطولة الأخلاقية.
تلك المخيمات التي بلغ عدد من استقر فيها قرابة 450 ألف فلسطيني، وحولها آلاف آخرون وجدوا الرعاية من فرقٍ مصريةٍ تعمل ليلًا ونهارًا، بلا ضجيجٍ ولا صورٍ استعراضية، فقط لإيمانهم أن ما يفعلونه هو “حقٌ للأشقاء وليس منّة”.
وكان المشهد الأجمل أن علم مصر يرفرف فوق كل مخيمٍ ومركزٍ ومستشفى، يعلن للعالم أن الإنسانية ما زالت تعيش هنا، في أرض الكنانة.
وفي الوقت الذي كانت فيه العواصم تتجادل، كانت القاهرة تتحرك.
تواصلت المخابرات العامة المصرية مع كل الأطراف، بلا توقف، من أجل التهدئة ووقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وتأمين الممرات الإنسانية.
كان رجالها يعملون في صمتٍ لا يعرف الاستعراض، يحفظون أسرار الدولة ويخوضون معارك الدبلوماسية من خلف الستار، واضعين نصب أعينهم هدفًا واحدًا: إنقاذ الأرواح ووقف نزيف الدم.
ثم جاءت قمة شرم الشيخ لتتوج هذا الدور العظيم، حين اجتمع القادة من الشرق والغرب، جميعهم على أرض مصر، يبحثون عن طريقٍ للخلاص من الحرب.
كانت الكلمة العليا هناك للموقف المصري، الذي لم يتغير ولم يتراجع، فكل خطابات العالم دارت حول ما كانت مصر تنادي به منذ اليوم الأول: إنهاء الحرب فورًا، والعودة إلى طاولة الحوار، واحترام حق الشعوب في الحياة والكرامة.
كانت القاعة مملوءة بالزعماء، لكن مصر وحدها كانت تمسك بالخيوط، تقود الحوار بحكمةٍ القائد الذي يعرف متى يتحدث ومتى يصمت، ومتى يرفع صوته ليُسمع الجميع أن السلام ليس ضعفًا، بل هو ذروة القوة.
مصر لم تطلب شكرًا، لكنها استحقت التقدير.
لم تنتظر تصفيقًا، لكنها نالت احترام العالم كله.
ومن يتابع تفاصيل هذه الأزمة، يدرك أن ما فعلته مصر لم يكن صدفة، بل امتدادٌ لسياسةٍ واعية يقودها الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أعاد لمصر مكانتها الإقليمية والدولية، ورفع راية الحق في وجه من يظلم، دون أن ينجرف إلى مغامراتٍ أو حساباتٍ مؤقتة.
الرئيس السيسي لم يكن يتحدث فقط باسم مصر، بل باسم الضمير الإنساني كله.
حين قال: “نرفض التهجير وندعم السلام”، لم يكن ذلك تصريحًا سياسيًا، بل موقفًا أخلاقيًا يعبّر عن أمةٍ بأكملها.
ولأن مصر لا تتحرك إلا بيدٍ واحدة، فإن الشكر لا بد أن يمتد إلى كل من حملوا الراية.
إلى رجال المخابرات العامة المصرية الذين تفاوضوا وأنقذوا مئات الأرواح، وإلى الدبلوماسيين في وزارة الخارجية الذين أوصلوا صوت مصر إلى كل منبرٍ دولي، وإلى الجيش المصري الذي كان مستعدًا دائمًا لتأمين الحدود وحماية السيادة، وإلى شعب مصر العظيم، الذي لم يبخل، فمَن أرسل الملايين دعمًا، ومَن أرسل حتى “حبات البرتقال”، كلهم شاركوا في ملحمةٍ من العطاء لا مثيل لها.
وفي النهاية، يظل المشهد الأكبر في شرم الشيخ، ليس فقط أن العالم اجتمع في مصر، بل أنه اجتمع حول مصر.
كل الطرق التي تؤدي إلى الحل تمر عبرها، وكل مبادرةٍ صادقة تبدأ من أرضها، لأن مصر حين تتكلم، يصمت الجميع احترامًا لتاريخٍ عمره سبعة آلاف عام من الحكمة والصبر والقيادة.
هذه هي مصر التي يعرفها العالم… مصر التي لا تبيع مواقفها، ولا تساوم على مبادئها، ولا تنكسر تحت الضغط.
مصر التي تُطعم الجائع قبل أن تسأله من أي أرضٍ جاء، وتُغيث الملهوف قبل أن تنظر إلى اسمه أو علمه.
مصر التي تُنهي الحروب وتبدأ العمار، وتزرع الأمل في زمنٍ امتلأ باليأس.
مصر التي تظل مهما تغيّر العالم، أم الدنيا… وقائدها.