ما سر اعتراف الغرب المفاجئ بمجازر إسرائيل في غزة؟
تاريخ النشر: 2nd, August 2025 GMT
بعد أكثر من عام ونصف، من صمت الغرب وتبلده، إزاء مذابح إسرائيل وتجويع أطفال غزة، استيقظ فجأة "ضمير" صحيفة فايننشال تايمز، وهي الصحيفة المالية البريطانية الرسمية، وخرجت عن الصف في الثلث الأول من مايو/ أيار الماضي، وأدانت، صمت الغرب المخزي، ورخص أخلاقه، في مواجهة الهجوم الإسرائيلي الهمجي والبربري على القطاع الصغير.
وفي مقال افتتاحي، اتهمت الصحيفة الولايات المتحدة وأوروبا، بالتواطؤ وبشكل متزايد مع إسرائيل، التي جعلت غزة "غير صالحة للحياة"، في تلميح إلى الإبادة الجماعية، وأشارت إلى أن الهدف، هو "طرد الفلسطينيين من أرضهم"، في إشارة إلى التطهير العرقي.
وبالتزامن مع ذلك، قرّرت صحيفة الإندبندنت أن "الصمت المطبق على غزة" يجب أن ينتهي، وأنه قد حان الوقت للعالم، أن ينتبه لما يحدث، وأن يطالب بإنهاء معاناة الفلسطينيين المحاصرين في القطاع.
وفي ميدل إيست آي، سأل جوناثان كوك، سؤالا يُعد مفتاحا مهما، لولوج صندوق عالم الغرب المظلم، لفهم كيف يفكر إزاء الانتهاكات، والمذابح وسياسات التجويع الجماعي بلا رحمة، واختبار صدق ادعائه، بوصفه المحتكر الوحيد والحصري للمرجعية الأخلاقية في العالم.
تساءل كوك: ".. ولكن لماذا انتظر حلفاء إسرائيل الغربيون- وكذلك وسائل الإعلام مثل الغارديان وفايننشال تايمز- 19 شهرا للتحدث ضد هذا الرعب؟".
يضيف: إن أجزاء من وسائل الإعلام، والطبقة السياسية تعلم، أن الموت الجماعي في غزة، لا يمكن إخفاؤه لفترة أطول، حتى بعد أن منعت إسرائيل، الصحفيين الأجانب من دخول القطاع، وقتلت معظم الصحفيين الفلسطينيين، الذين حاولوا تسجيل الإبادة الجماعية.
يحاول اللاعبون السياسيون والإعلاميون المتشككون تقديم أعذارهم قبل فوات الأوان لإظهار الندم.
ويقول: "وحتى اليوم تتواطأ، وسائل الإعلام الغربية، في الترويج لفكرة أن غزة خالية من الاحتلال الإسرائيلي، من خلال تصوير المذبحة هناك – وتجويع السكان – على أنها "حرب".
إعلانوفي الثلث الأخير من يوليو/ تموز 2025، كتب ماثيو صايد، في الغارديان، مشيرا إلى ما وصفه بـ"مبررات" المذبحة، معتمدا على نظرية نسبية الأخلاق، وهي واحدة من أسوأ النظريات الغربية، التي قدمت للرجل الأبيض/السوبر "السند الأخلاقي" لاستباحة المستضعفين في العالم، وبضمير من ثلج، أو من حجر صلد.
من بين المبررات التي ساقها صايد، أن تفريغ غزة بقتل 60 ألف شخص، وتدمير 92 في المئة من البنايات، والتجويع هو ـ عند إسرائيل ـ ضروري من أجل دحر حماس.
وتُذكّر تل أبيب الغرب بـ"مبرراته الأخلاقية" في الحرب العالمية الثانية، بالقول: "لقد أرغمتم النازية على الاستسلام بقتلكم آلاف المدنيين الألمان. وعلينا أن نفعل الشيء نفسه في غزة".
والحال أنه لا يمكن فصل نتاج الغرب العلمي والفلسفي، عن تشكيل نظرته للعالم. هذا المنتج، حتى لو كان نظريا، يحتمل الصواب والخطأ، يجري تدويره داخل ماكينات، إعادة صوغ الرأي العام، وتحويله ـ بمضي الوقت والتراكم بالإلحاح الناعم ـ ليمسي جزءا من ثوابت عقيدته السياسية، وهي أخطر ثمرات، التدوير الفلسفي والعلمي في الغرب.
يحتل كتاب داروين (1809ـ1882) عن أصل الأنواع، والذي ظهر 1859، على سبيل المثال، منزلة ربما تكون أكثر قداسة عند جماعات المصالح "اللوبي" في العالم الغربي المسيحي، من الكتاب المقدس ذاته!
الولايات المتحدة الأميركية "الرسمية"، ترفض بشكل قاطع أية نظرية تنتهك حرمة "النشوء والارتقاء"، كما وضعها داروين، كان من بينها إجهاض طلب تدريس نظرية "التصميم الذكي" جنبا إلى جنب مع "أصل الأنواع" في المدارس الأميركية، ولو من باب "حرية التعبير"!
وفي 2004 صادرت فرنسا العلمانية، "أطلس الخَلق"، الذي يفكك نظرية داروين. ودول الاتحاد الأوروبي على وجه الإجمال تفرض حماية صارمة على النظرية، ولا تقبل المس بمضمونها أو التشكيك بصحتها!
كان غريبا إلى حد الدهشة، أن يتشدد الغرب المسيحي "الرسمي" في التمسك بالتفسير الحرفي للداروينية، على الرغم من أنها لا تزال عند حدود "النظرية" التي لم ترقَ إلى درجة "الحقيقة" العلمية!
إن هدم هذه النظرية، يعني تقويض الأساس الأخلاقي والتسويغ "العلمي" الذي قامت عليه الحضارة الغربية، سواء على صعيد تطورها وحراكها الداخلي، أو على صعيد نظرتها وفهمها للعالم من حولها.
فالداروينية هي التي سوّغت "تميز" العنصر الغربي، واستعلاءَه على الآخر على أساس أنه الأفضل، ووفرت له الغطاء الأخلاقي، لاستعمار مناطق شاسعة من العالم، واستنزاف موارده، على أساس أن القانون الحاكم المطلق للعالم، يقوم على "الانتقاء الطبيعي": الفرز الطبقي والاجتماعي والعرقي والسلالي، وأن الطبيعة تتجه نحو تنظيف المجتمع من الفقراء والضعفاء وتخليص العالم منهم، لإيجاد مكان للأقوياء فقط.
عندما اُتهم الزعيم التاريخي البريطاني ونستون تشرشل، بأنه ارتكب مجازر مروعة في حق الهنود الحمر في أميركا، وفي حق السود في أستراليا، قال بصلف: إن"عرقا أقوى، عرقا أرقى، عرقا أكثر حكمة" قد "حلّ محلّهم".
وفي كتابه "العادات الشعبية" الصادر 1906، أصّل عالم الأنثروبولوجيا الأميركي ويليام غراهام سومنر، لنظرية ما يسمى "نسبية الأخلاق"، وأن الناس يختلفون حول القضايا الأخلاقية، وأن مصطلحات مثل: "جيد" و"سيئ" و"صحيح" و"خاطئ" لا تخضع لشروط الحقيقة العالمية إطلاقا؛ وأن ما يعتبره الناس صوابا أو خطأ يتشكل كليا – وليس بشكل أساسي – من خلال تقاليد وعادات وممارسات ثقافتهم. ويؤكد الأنثروبولوجي، روث بنديكت (1887-1948)، أنه لا وجود للأخلاق المتعالية، وإنما للعادات الاجتماعية.
إعلانيعزو بعض المثقفين الكاثوليك والعلمانيين الانحطاط الملحوظ في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى إزاحة القيم المطلقة من قبل النسبية الأخلاقية.
وقد جادل البابا بنديكتوس السادس عشر، ومارسيلو بيرا وآخرون بأنه بعد 1960 تقريبا، تخلى الأوروبيون بشكل كبير عن العديد من المعايير التقليدية المتجذرة في المسيحية، واستبدلوها بقواعد أخلاقية نسبية متطورة باستمرار.
الغرب في مجمله ـ بما فيه امتداده الأميركي ـ يتعاطى مع مجازر غزة مستبطنا، هاتين النظريتين: الداروينية السياسية والاجتماعية من جهة، ونسبية الأخلاق من جهة أخرى.
وهي عقيدة تعالٍ وعنصرية، ممتدة وتنتقل من جيل إلى جيل حيث يعلمون أطفالهم في المدارس "منهج عبادة القوة ".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
إسرائيل الميدان والأذهان!
معاوية الرواحي
يبدو مشهد الصدام الفلسطيني الإسرائيلي مُقبضا بمعنى الكلمة. سياق اللحظة والآن كلُّه يوحي بالتعاسة والهزيمة والبؤس. ولفترة ليست قصيرة من الزمن وقف العالم بحزمٍ شديد مع ردة الفعل الإسرائيلية أمام الحرب التي بدأت فيها المقاومة ضربتها الأولى. هذه مجرد حقيقة تاريخية، ليست إدانةً للمقاومة، ولا تحميلًا لها للمسؤولية أمام أخلاقيات الجرذان التي أبداها الجيش الإسرائيلي لاحقا. كان كل شيء في صالح إسرائيل لولا نتنياهو، الذي قلب المعادلات هو ورجل أمريكا البرتقالي دونالد ترامب.
من أين أشتقُّ هذه الفكرة؟ من تصوري عن واقعٍ مغاير إن كان يرأس إسرائيل أي كائنٍ صهيوني سوى نتنياهو. السياق العربي/الإسلامي منذ ضربات الحادي عشر من سبتمبر لم يتغير ضمن السرديات العالمية المُجمع عليها، العرب والإسلام بلاد إرهاب وقتل وتدمير، والمسلم الجيد هو المسلم غير المسلم وانتهى الكلام، ومع اهتمام الفرد أكثر بالبحث والتنقيب تظهر لك مجموعة أخرى من الحقائق، التفسير الأبله للنصوص، وإخراج الآيات من سياقها، مع أنَّ الكتبَ السماوية كلها تقريبا تتفقُ في هذا الجانب، ولكن كيف ستناقش إنسانا مصرا على تصديق تحيزاتها؟ آيات الحرب للحرب، وآيات السلم للسلم، وكأن ما أراده مؤيدو العنف قد وجد تغذيته ليس من المنطقة العربية في المقام الأول، ولكن من الصوت الغربي الكاسح.
هذا كان آخر العهد بمسمى (الإرهاب) كمسمى عربي إسلامي ينال ختم الجودة لاحقا بعد سنين لتظهر لنا داعش ومثيلاتها. من الذي تجاوز الإرهاب العربي الإسلامي وفق التعريف العالمي؟ حتى يوم السابع من أكتوبر، كان السياق الغربي متماسكا. ولم تكن ضربة المقاومة عنيفة وإرهابيةً كما يمكن للوعي الغربي أن يصفها، إلا أنَّ أكاذيب الصهاينة، ومعهم الجوقة الأمريكية قد جعلت الطبيعي طبيعيا، هم عرب، إرهابيون، هاجموا إسرائيل المسكينة، المسالمة، الآمنة، الديمقراطية. والنتيجة النهائية، اختطاف عدد كبير من المدنيين، وقتل من الجانبين، وأخبار حتى هذه اللحظة لا يجزم إنسان أن حقيقتها الكلية لديه، لأنَّها حرب كتابة تاريخ، وسرديات لا نهاية لها، الحاسم في المسألة أن المقاومة اختارت إعلان الضربة الأولى، والذي بعدها كانت ردة الفعل المتوقعة، ولاحقا، ردة الفعل التي أصبحت غير متوقعة.
السياق متماسك حتى الآن، العرب، المسلمون، الفلسطينيون، الإرهابيون هاجموا إسرائيل واختطفوا مواطنيها، وخلال ذلك حدثت مواجهات على مستوى ميداني غير شاسع ومات من الطرفين الكثير. العالم راضٍ بهذا الفهم، والمجتمع الغربي، والدولي، يقف خاضعا أمام أفضلية إسرائيل المفروضة على الطاولة بقوَّة ناعمةٍ مترامية الأطراف. وبدأت حرب نتنياهو. ولم يتغير السياق كثيرا عندما بدأت الحرب.
أتخيل لو كان نتنياهو موثوقا بما فيه الكفاية لكي يحقق النصر الحقيقي الذي تحتاجه إسرائيل. النصر الأخلاقي وفق تعريف العالم الغربي على التحديد. ما الذي كان يجب أن يكون لتحقيق هذا النصر؟ الاتفاق مع الجيران على أن هذه الحرب فقط ضد مقاتلي حماس، وأن المدنيين لا ذنب لهم في هذه المواجهة، والبدء في خطوات حقيقية لتهجير من يمكن تهجيره، وفتح المعابر ربما من جانب واحد ليرحل من يريد الرحيل من هذه الحرب الأخلاقية الإسرائيلية التي تريد أن ترد فقط على من أطلق النار عليها، أيضا بالنسبة للوعي الغربي المهيمن حاليا، شعب غزة هم شعبٌ مختطفٌ من قبل ميليشيات غير منظمة، وبالتالي وفق المنطق الديمقراطي، هم حقا لا ذنب لهم في هذا الصدام.
كانت ستختلف خسارات إسرائيل المهولة إن حدث هذا، ولو على الأقل شكليا، مع ضمانات عودة المهجرين، وغيرها من الأكاذيب المعتادة التي كان سيتفوه بها رئيس وزراء إسرائيل الافتراضي الذي أطرحه في هذا المثال، ووقتها، ستكون المأساة مضاعفةً في حق غزة، وفي حق فلسطين، وكانت سردية النجاة الصهيونية قد بُثَّت، وتداولها القاصي والداني، وبقيت السردية القديمة عن العرب المسلمين الإرهابيين الذين يمجدون العنف ويعيشون حياةً بدائيةً متبعين تأويلات سطحية للنصوص المقدسة ويتعاملون مع الذي هبَّ ودبَّ من منظري العنف باسم الدين كما لو كان نبيا جديدا يطيعه مليار مسلم! سردية قوية مع سخافتها، ولكن هل يمكنك إقناع من لا يريد أن يبحث عن الحقيقة تفصيليا؟
وضع نتنياهو لا يختلف عن وضع نظيره رجل أمريكا البرتقالي ترامب. كلاهما يواجه معارك تريد إسقاطهما بكل الوسائل الممكنة إعلاميا، وقانونيا، ودستوريا، وتشريعيا، وحزبيا. كان التاريخ منصفا مع فلسطين عندما حدث ما حدث وهذا الإرهابي (رسميا) كان هو رئيس وزراء إسرائيل عندما وجهت المقاومة ضربتها الأولى، الضربة التي تعتبر وفق المنطق الغربي غادرةً ولا أخلاقيةً. والسياق كما هو عليه، ولا شيء يتغير، لبعض الوقت، لبعض الشهور، حتى تكشفت الوجوه الحقيقية لجيش الجرذان الصهيوني.
وزَّع نتنياهو لعنة الدم على أنامل جنوده، والذين منهم من الأجيال الجديدة من بهم. لم تخل الحرب من حقائق يبثها الجنود في تطبيقات مثل (التكتوك) وحضور في مواقع التواصل الاجتماعي لا ينفصل كثيرا عن عقليات هذه الأجيال التي تثير العجب. المُودِّع تقريبا، نتنياهو يفعل أقصى ما لديه ليجعل الأمر حربا شاملةً، ضد من؟ ليست حربا ضد المقاومة فقط، ولكنها حرب الشجعان، الأشاوس، الأقوياء، أصحاب الأفضلية الأخلاقية ضد الرضّع، والشيوخ، والمساجد، والمستشفيات، والجرحى، والمدنيين، بل وحتى البهائم والنعاج والخيول والحمير! حربٌ لم تفرق بين بعثة دولية، وأمم متحدة، وصحفيين. أما من كان يجب أن تحاربهم إسرائيل حقا، جنود المقاومة، فقد ظهر فشل جيش الجرذان مبكرًا، عمليات نوعية من الاغتيالات، وانتصار لم يحدث، الأسرى لم يعودوا، ونتنياهو ينشغل بهدم المعبد فوق أخلاقيات جيشه، ويرهق إسرائيل بالمزيد من الصبر من العالم، حتى وصل إلى النصاب الآخر، وتغيرت السردية الأقدم، سردية الحادي عشر من سبتمبر لتصبح الآن موازين الحقائق في كفةٍ مختلفة تماما.
وفق المنطق الغربي، ما الأسوأ من الحادي عشر من سبتمبر؟ ربما داعش ومن يشبهها، ومن أحدث هؤلاء (الأسوئين)؟ بلا شك هم جنود السابع من أكتوبر، إلى أن استطاعت إسرائيل أن تحقق ما لم يحلم به إدوارد سعيد في أجمل أحلام يقظته، انزياح السياق العالمي عن دعم إسرائيل، وتبدد وهم أفضليتها الأخلاقية، ودخول العالم إلى منطقة انقسام بعد سنوات طويلة من الحسم الدامغ، مع معارضة الأقلية. لا يختلف الغرب على حق إسرائيل في الوجود! الذي اختلف هو أفضليتها الأخلاقية، وأضيف إلى هذا الجديد هو حق فلسطين في الوجود. لا أقول هذا بتفاؤل مرحلي عالٍ، بقدر ما أقوله بلغةِ ما له ما بعده.
الذي ينظر إلى أثر الدومينو التراكمي الذي انطلق من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، واستمراء الوعي الغربي العميق والضحل لشيطنة الفئتين العربية والإسلامية ووصمها بالإرهاب والبربرية والتخلف كانت له معطيات وإثباتات يقبلها الوعي الغربي بسهولة. طائرات بن لادن، وموت عدد هائل من المدنيين، لا يقبل هذا المنطق الوعي الغربي فقط، بل من الوعي الشرقي، والعربي، والإسلامي من يرفض من الأساس أن تأخذ المواجهات هذا الطابع الذي يدفع ثمنه ثلاثة آلاف مدني، وركّز معي عزيزي القارئ، ثلاثة آلاف. هذا كان كافيا لإطلاق الغرب بكل أدواته، الثقافية، والبحثية، والعلمية، والترجمة، والسينما، والجواسيس، والمخابرات، وعشنا موّالا عمره عشرون سنة كاملةً من ردة فعل جورج بوش الصغير على ما أريق من ماء وجهه عندما حدثت هذه الضربة.
قبل داعش، هذا كان آخر عهد العالم بأسوأ من يسمون بالإرهابيين، وبعدها جاءت داعش، واستمرت السردية في جوهرها واختلفت في أشكالها. إلى أن جاء نتنياهو هذا اليائس الذي ينتظر نهايةً مزعجة ليجعل من حربه ضد غزة حربا إرهابيةً ينطبق عليها كل شروط الإرهاب الديني، والتطرف السلفي اليهودي، واليمين الأعمى، الأهوج، الذي يرى في عدوه حيواناتٍ تستحق أن تُذبح من أجل جيش نتنياهو المختار!
وانقلبت السردية بمعنى الكلمة. وبدأ العالم ينطقُ أخيرا. قد لا يبدو كل هذا مؤثرا في لحظة الميدان. الذي يحدث في الأذهان هو الذي غيّر معادلاتٍ سابقة كانت تعتبر من الحقائق السياسية الحتمية في كوكب الأرض. ما فعله جرذان الصهاينة في غزَّة مسح من الأساس حتى ضربة المقاومة الاستباقية في السابع من أكتوبر، والوحشية التي كانت تعوّض فشل إسرائيل العسكري في المواجهة مع المقاومة لم تعد أكثر من شكلياتٍ نوعيةٍ تقوم بها إسرائيل عندما تضرب لسبب ما ضربةً نوعيةً واحدة من أجل الاستهلاك الإعلامي، أما باقي الهجوم العشوائي، فهو منشور في التكتوك، ومن قبل جرذان الصهاينة أنفسهم! لم يعد يكلف الجيش الصهيوني نفسه أن يلبس قناعَ الأفضلية الأخلاقية، وحتى نتنياهو نفسه، بنبرة اليائس الواثق من نفسه طفق في توسعة هذا الصراع أقصى ما يمكن لمعتوه يهدم المعبد فوق رؤوس الجميع أن يفعله.
إسرائيل في حالة حرب الآن، حرب تحمي نتنياهو من الانقسام الإسرائيلي الكبير الذي سيحدث بعد نهاية الحرب، فرضية محاولته لإنقاذ نفسه، واستخدامه لهذه الحرب حتى يضمن نجاته لا تبدو مستحيلةً، تبقى ضمن فرضيات كثيرة نحاول فهم ما يحدث. المؤكد حتميا، أن أي رئيس وزراء إسرائيلي غير نتنياهو كان سيكون أفضل بكثير في إدارة خسائر إسرائيل في هذه المعركة. أن تخسر دعم المجتمع الدولي، وأن تدفع بحلفائك السابقين إلى الخوف من ناخبيهم بعدما فعلت من أفاعيل، هذا في حدث ذاته انطلاق نهاية المرحلة السابقة. لن يمكنك وصف العرب والمسلمين بالإرهابيين بعدما فعل نتنياهو وجيش ما فعله بقطاع من العُزلّ، والأطفال، والشيوخ، أحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم، ونزل بقضه وقضيضه قتلا وتقتيلا في ذلك القطاع.
يحلو للبعض اعتبار المقاومة جيشا نظاميا، ويمارس لعبة الآلة الحاسبة على معطيات المواجهة. ويحلو للبعض استخدام كلمة (نازي) في وصف جيش الجرذان اللاأخلاقي الإسرائيل، الحقيقة أن كلمة نازي ليست شتيمة غير مستحقة، لكنها غير دقيقة. الجيش الإسرائيلي وما فعله في غزة هو بكل بساطة (إرهاب) ولا ضرر عقلي وفكري ومنطقي في وصفه بالجيش الإرهابي. أساس الإرهاب هو استخدام سلاح الخوف، وترويع المدنيين، ومعاقبتهم على تصرفات عسكرية بدرت من دولة ما أو فئة ما؟ ما الذي بقي تعريف القانون الدولي، ومن معيار الرجل العادي لكي لا يسمى الجيش الإسرائيلي بمنظمة إرهابية؟ كُل الشروط منطبقة عليه، والعالم الذي بدأ ينطق أخيرا في حق إسرائيل، قرر أن يوقف (تابو) معاداة السامية، ليبدأ الجدال.
هذا التناثر الفكري لسرديات أرهق العالم الغربي نفسه ليرسخها له ما بعده. الأجيال التي ستجد الفرصة على الأقل لتصبح إدانة إسرائيل مباحةً ستبقي سرديةً من الصعب ردمها. عشرات الآلاف من القتلى في حرب همجية، وهزيمة إسرائيلية ميدانية، وعناد من قبل رئيس وزراء إسرائيل قائد المنظمة الإرهابية التي تسمى جيش الدفاع الإسرائيلي سيجعل تصديق أي رواية صهيونية عمَّا حدث في غزة مستحيلا.
الأمل يأتي عندما لا تكون الهزيمة هي نهاية المطاف. لا مجال الآن لتغيير كفة الإجرام لتكون في أي يد غير يد إسرائيل. ولا يمكن لجم العالم الذي فتح عينيه، والأهم، فتح فمه أخيرا. لقد أصبح من الصعب حقا أن تؤمن بأوهام إسرائيل. المقاومة المنطقية الشرسة التي بدأت تتعرض لها إسرائيل جعلتها في ساحة معركة استنزاف أخرى، السياسي الغربي سيفكر ألف مرة قبل أن يعلن ولاءه الكرتوني السمج لإسرائيل، حتى وإن كان مرشحا لمنصب أمين مكتبة نادي الهوكي في شارع يبعد عن المدينة مئة ميل. لا أقول هذا زال، لكنه بدأ يتآكل.
يراودني ذلك الحدس أن نهاية هذه الحرب هي موت نتنياهو لظروف طبيعية. وهنا لا أمارس المنطقي، ربما التمني لا أكثر. هذا الجرذ البشري لم يعبأ في سبيل هوسه الجنوني لا بالبشرية، ولا بالقانون، بل ولا بمصلحة إسرائيل الدولة، أو قومية الوطن اليهودي، بل وحتى بأبسط مصالح إسرائيل الاقتصادية والسياسية، آلة من الحرب تجيد الهدم ولا تجيد الانتصار، مرهقة بالهزائم، وتتباهى بمن يمكن قتله غيلةً، أما الأسرى، والمقاومة، فلا خبر عنهم، يموت قائد فيخلف بعده قائد. لا انتصار حقيقي سوى في تصريحات الإعلام العنجهية، أما الحسم الحقيقي، فالجميع يعلم أن على إسرائيل أن تفاوض، وجيش الجرذان يعرّف بالموت بالانتقام الأقصى من المدنيين، ولأن عصر الإبادات أصبح صعب التكرار، لكل هذا ما بعده، من أجيال، ومن ثباتٍ لحقائق ما حدث، ومن تلاشٍ لما كان يعرف كحقائق عربية وإسلامية، إرهابيو العصر الحديث هم جيش الجرذان الإسرائيلي، مجرمو حرب العصر الحديث هم قادة جيش الجرذان الإسرائيلي، مرتكبو التجويع، والإبادة، والملاحقون وفق القانون الدولي هم قادة جيش الجرذان، لم تتساو الكفتان، وإن اتفق العالم على بقاء تعريف المقاومة في خانةٍ واحدة، العالم أصبح يعرف وفق منطقه السابق من هو الأسوأ، والأشد قتلا، والأكثر دمويةً، وكل هذا لا يفوت بسهولة، وله أثر دومينو سوف يأخذ سنواته نعم ليحدث، هذا ما تقوله لنا النسبية في الوقت، أما الحتمية! فما تراكم من الأذهان من حقائق، سيعيد العودة ليشكل إسرائيل جديدة، ومختلفة، والانقسام الإسرائيلي لم يبدأ بعد، والحرب لم تضع أوزارها. ثمة ما تغير في إسرائيل للأبد، لم تعد وطنا، أصبحت دولةً لا أكثر، والذين يخربون بيوتهم بأيديهم يكررون هذا مجددا، لا عودة عن كل هذا القتل العشوائي، لا كذبة يمكن أن تغطيه، ولا لوبيات يمكن أن تشرعنه، لقد استيقظت حقائق إسرائيل في عقول المنطق النائم، وبعدها، بعد نتنياهو، وبعد فتاوي الإرهاب الصهيوني، القادم تآكل مستمر، لا شفاء بعده، ولا منه، ولا شيء يمكن لإسرائيل أن تفعله لتُنسي العالم تلك السنة التي كشفت فيها إسرائيل حقيقتها في الميدان، وفي الأذهان!
رابط مختصر