لجريدة عمان:
2025-06-06@02:14:35 GMT

الرائحة بين عقلانية الفلاسفة وعاطفة الأدباء

تاريخ النشر: 23rd, September 2024 GMT

أثناء البحث فـي موضوع العطر فـي الأدب قادتني غواية المطالعة إلى قراءة بعض المصادر والمراجع التي اهتمّت بموضوع العطر والرائحة وكيف تعامل معها الإنسان وخاصة نخبة المجتمع، إذ اختلفت نظرة الفلاسفة إلى الروائح عن نظرة الأدباء والفنانين على امتداد التاريخ، وهذه الأحكام جاء من يعارضها من المدارس الفلسفـية لاحقا، ولكن فـي بداية الأمر لم يتسامح أفلاطون مثلا تجاه الروائح فقد «حمل حملة على العطور واعتبرها من اللذة الجسدية فـي زمن كان استعمال المعطرات وقفًا على بائعات الهوى» (بيت فرون، الرائحة: أبجدية الإغواء الغامضة، 2010)، لم يكتف أفلاطون بذلك بل دعا الفضلاء «ألا يهتموا بغير تنمية الخير فـي نفوسهم بالاستماع إلى الموسيقى وتعلم الرياضيات، فما الجسد إلا بكل روائحه إلا مجرد قبر للروح».

كان سقراط أقل حدية من أفلاطون تجاه الرائحة فاعتبرها دلالة على الوضع الاجتماعي للفرد، وقد نهج العديد من الفلاسفة نهج أفلاطون وسقراط فـي ازدراء العطور والروائح بل اعتبروا أن كثرة الاستحمام يعرّض صاحبه للعقم، معللين ذلك أن الجسد مادة تلهي عن الاهتمام بالعقل وهو الروح المتسامية، وأن الشم والروائح غريزة حيوانية لا ينبغي على الإنسان العاقل الالتفات إليها. ولم يخلِّص الثقافة الأوروبية من تلك النظرة المنحطة للروائح إلا فلاسفة التنوير أمثال جان جاك روسو وغوته، الذين أعلوا من شأن الحواس وخاصة الشم، أما الفـيلسوف الألماني فرديريك نيتشه فقد ذهب بعيدا فـي إعادة الاعتبار للجسد وحواسه إذ كتب فـي كتابه (هذا هو الإنسان، ترجمة مجاهد عبدالمنعم) «إن عبقريتي تكمن فـي أنفـي»، وفـي كتابه (غسق الأوثان، ترجمة علي مصباح) يقول نيتشه «هذا الأنف على سبيل المثال، ذلك الذي لم يخصُّه أي فـيلسوف إلى حد الآن بما يستحق من عبارات الإكبار والامتنان لهو إلى حد الآن الأكثر رهافة مما بحوزتنا من الأدوات التي فـي خدمتنا».

أحدثَ علم الكيمياء ثورة فـي صناعة العطور فـي أوروبا التي تفتقر أراضيها إلى الأشجار العطرية التي تزخر بها أسيا وإفريقيا. وهذا ما جعل البعض يطلق فرضية أن الأوروبيين لا يعرفون العطور والروائح الزكية إلا بعد احتكاكهم مع الشرق، وتعرُّفهم على الأديان السماوية التي أعلت من شأن الروائح والطيب، إذ اقترن تصاعد الدخان برفع الدعوات إلى الرب «إن دخان البخور المتصاعد إلى السماء يمثل فـي المسيحية، صورة مجازية دالة على طرد الشر وتسامي الروح مثل الصلاة والدعاء وهي الصورة التي نجدها فـي الآية: لتكن صلاتي كالبخور قدامك. ورفع كفـي كتقدمة السماء» وهذا ما ذكره رضا الأبيض فـي كتابه (كتابة الرائحة: فـي نماذج من الرواية العربية، 2020).

إذا كانت بعض كتابات الفلاسفة قد قللت من شأن الرائحة، فإن الأدباء قد اعتنوا واحتفوا بالحواس والروائح والعطور. وخاصة كتّاب الرواية، ففـي منصة معنى الإلكترونية للكاتب السعودي طامي السميري نجد نماذج لأهم الروايات العالمية والعربية التي وظّفت الرائحة والعطر على وجه التحديد فـي سردياتها، فمثلا مارسيل بروست صاحب الرواية الشهيرة «البحث عن الزمن المفقود» يذكر فـيها العطر بقوله «وغاصت فـي عطرٍ من عطور الزعرور» وأيضا «إنها زهرة ذابلة لا عطر لها، فاح شذا دوّار الشمس، وغمرها بهذا العطر الدافئ، معطر برائحة الفانيلا». وفـي رواية «حفلة التيس» للبيروفـي ماريو بارغاس يوسا «راح يعطّر الجوّ، فتعرَّف هو على ذلك العطر الرخيص المُسمَّى «نايس»، الذي يعلنون عنه فـي الإذاعات»، إن توصيف العطور الرخيصة فـي الرواية لا يدلل على القيمة المادية للعطر وإنما إلى تبدل روائحها إلى روائح كريهة. أما الروائي الكولومبي غارسيا ماركيز فقد وظَّف رائحة الكولونيا فـي وصف عادات شخصية بطل رواية «الحب فـي زمن الكوليرا»، «بعد ذلك يستحمّ، ويشذّب لحيته، ويصمغ شاربـه بـمستحضـرٍ مـشبـع بـكـولونيا فارينا غيغينير الأصلية». بالمناسبة تذكر دراسة علمية أن الكولونيا عطر عجيب ومثير لدى النساء أكثر من الرجال.

إن استعراض قيمة الروائح لدى الإنسان وتباين وجهات النظر وتطورها بتطور مراحل الحضارة يتبيّن لنا صراع العقل والقلب فـي تقييم الجمال والرفع من شأن الأذواق والحكم عليها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من شأن

إقرأ أيضاً:

المنطوق واللامنطوق في البناء الاجتماعي

«ماذا نستطيع أن نعمل، بينما نحن على قيد الحياة، من أجل العالم؟ يتمنى كثير من الناس أن يقدموا خدمة للبشرية ولكنهم يجدون أنهم فـي حيرة إذ تبدو قوتهم بلا أثر. يدركهم اليأس ويصيب العجزُ من تكونُ أمنيتهم أشدّ ويمكن لانعدام الأمل أن يحطمهم اليأس روحيا. ولطالما نفكر بالمستقبل المباشر فقط، فإن ما نستطيع القيام به يبدو قليلا جدا... لا نستطيع، هنا والآن، خلق حياة جيدة فـي التربية، لا نقدر فـي كل هذه الأمور، مع أن بإمكاننا أن نرى الشر، أن نجد علاجا سريعا له بأي من الطرق العادية فـي السياسية. يجب أن نعترف بأن العالم تسوسه روح غير صحيحة، وأن نحولا فـي الروح لَنْ يأتي بلمحة بصر. يجب أن لا تكون توقعاتنا من أجل القريب بل من أجل الزمن الذي يصبح فـيه فكرُ القِلّة، فِكرَ الكثيرين العاديّ. إذا كان عندنا الشجاعة والصبر، كان بإمكاننا أن نفكر بهذه الأفكار ونعيش الآمال التي ستشع عاجلا أم آجلا بين الناس وسنحول التعب ووهن العزيمة إلى طاقة وحماسة. لهذا السبب، يجب أولا أن يتضح فـي عقولنا نوع الحياة التي نعتقد بأنها صالحة ونوع التغيير الذي نرغبه فـي العالم». برتراند راسل، أسس لإعادة البناء الاجتماعي بتصرف.

تبدو الحياة المتسارعة فـي شتى مجالاتها أنها تنطلق نحو الأتمتة الشاملة لكل شيء، وكلما تقدم بنا الزمن ذاب الآليُّ فـي الإنسان. حتى يصل المرء إلى أن بعض قدراته التي كانت فـي الأمس القريب شيئا بديهيا لا يُساءَل ولا يفكر فـيه أحد؛ شيئا بالغ الصعوبة ويحتاج إلى التدريب والمران لاستعادتها بشكلها الطبيعي فحسب، لا لتطويرها أو ابتغاء المزيد منها. فـي عالم كهذا، لا بد أن تتقافز فـي الذهن أسئلة من قبيل «ماذا بعد؟»، «ما فائدة العلم؟»، إلى نصل إلى مساءلة أنفسنا عن ماهيتنا وذواتنا. فالإنسان الخامل يفقد القدرة على معرفة نفسه، يفقد قيمته لذاته وحياته وما يرتبط بها. وهذا الخمول المذكور هنا، ليس الخمول الجسدي، بل خمول المعنى وغيابه من حياة الإنسان.

ماذا نستطيع أن نغير إذن؟ نشأ الإنسان فـي جماعة، وسيظل فـي جماعة إلى أن تنتهي الحياة بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى البشرية جمعاء؛ وفـي الحالين فإن الثابت هي طبيعته ولزوم حاجته إلى أخيه الإنسان. فكما يقول فـيلسوف الشعراء وحكيمهم، أبو العلاء المعري:

الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ

بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ

هذا يقودنا إلى الشيء الوحيد المتبقي أمامنا بثبات ورسوخ فـي ختام اليوم، وفـي ختام الحياة؛ إنه البناء الاجتماعي. فنحن وإن لم نستطع تغيير نمط الحياة والتخلي المطلق عن التطورات الحادثة فـيها، إلا أن بيدنا تغيير الإنسان بطريقين؛ تغييره فرديا، أو جمعيا. فالتغيير الفردي يتطلب وقتا لا نملكه والحال هذه من التسارع والتغيرات الهائلة فـي فترة قياسية لا يمكن اللحاق بها. لكن التغيير الجمعي ممكن ومتاح، وميزته أنه يمكن فـيه أن يستعمل المرء التطورات والأدوات التي تدمر الإنسان، فـي بناء الإنسان!، أو فـي ترميمه على الأقل. والعلم الذي يتيح لنا هذه التغييرات هو الإنسانيات. والعلوم الإنسانية حقل شائك متعدد المنطلقات والنتائج، ولكنه جذريّ الحلول والتطبيقات من لدن متخصصيه والبارعين فـيه.

يتربع علم النفس على الكرسي الأوسع فـي حقل العلوم الإنسانية المعاصرة، ففهم الإنسان ومراقبة تطوراته والتغيير الذي يلحق بمدركاته وبالتالي مخرجات تلك المدركات؛ مما يندرج تحت رعايته ونطاق تأثيره، ولكن علم النفس يعالج شيئا مختلفا، يعالج شيئا باطنا وظاهرا فـي آن، فكيف العمل والحال هذه؟ إن تغيير المدخلات ومراقبة الكلمات والأفعال والخيالات ومراجعة ما يبدو ثابتا راسخا، هو أول خطوة فـي سبيل الإصلاح وكشف الشقوق فـي النفس البشرية؛ فالإنسان كالبناء تماما، يهترئ ويصيبه الذبول إن لم يقف مع نفسه مراجعا ومصححا لما يتبناه ويعتمل فـي دواخله من أفكار ومعتقدات لا يمكن إلا أن تخرج فـي شكل كلمات عاجلا أو آجلا. هنا تتحقق أهمية معرفة المنطوق واللامنطوق فـي أفعال الناس، فإن لم نستطع تغيير مجرى الرياح، فإننا نملك القدرة على تغيير مسارنا! ومعنى هذا، أن الإنسان الذي يتأثر بأخيه الإنسان لا محالة، يمكن له أن يستبدل محيطه إن لم يستطع تغيير ذلك المحيط ومعالجته. ويتردد فـي ذهني قول الشاعر:

كادَت عيونهُمُ بالبُغضِ تنطق لي

حَتّى كأنَّ عُيونَ القَوم أفواهُ

وهو ما سنتعامل معه فـي المناسبة الآتية، العيد. لكن المسألة هنا ليست مسألة البغض أو الكراهية، بل هي مسألة المنطوق واللامنطوق. فالمنطوق من الكلمات والأفعال يتبدى بسرعة ويمكن رصده ومعالجته فـي حينه، لكن اللامنطوق مما يعتمل فـي النفس البشرية من مشاعر غير مرئية قد تتبدى فـي شكل حركات جسدية لاإرادية، وقد تظل خفـية غير مرئية؛ تلك هي أس المشكلة ومربط الفرس كما يقال. إننا بحاجة إلى علم النفس اليوم أكثر من أي وقت مضى، فالإنسان الذي بنى حضارته ببنائه لمجتمعات تلك الحضارة أولا، يخاطر اليوم بتمزق ذلك المجتمع بترك الأمور على عواهنها وعدم معالجتها. ولا أستطيع انتظار اليوم الذي يتحد فـيه علما الاجتماع والنفس ليعالجا التسربات والتشققات فـي البناء الاجتماعي، ويسائلا المسلمات كي يغدو المجتمع قويا منتجا؛ وكما قلت من قبل، إن لم نستطع تغيير الأفراد فردا فردا، فإن تغيير العقل الجمعي وجعل المسألة مشاعة للنقاش والحوار والمساءلة، هي أول الخطوات لمجتمع قوي صلب يستعمل التطورات الحديثة فـي صالحه، لا أن يكونَ رهنا لتلك الرياح تأخذه حيث تشاء وتلقي به فـي مهاوي الردى لا محالة.

مقالات مشابهة

  • اليد التي تُدافع عن شرف الأمة لا تُدان
  • من هي الحاجة الأردنية التي توفاها الله في عرفات اليوم؟
  • تفاقم الأوضاع الإنسانية التي يواجهها المواطنون في مدينة الفاشر – فيديو
  • أول تعليق لترامب على حظر السفر الجديد والدول التي يشملها
  • المنطوق واللامنطوق في البناء الاجتماعي
  • القطط تميز أصحابها من الغرباء بحاسة الشم
  • خالد أبو بكر: منصب المجلس القومي لحقوق الإنسان ليس تشريفيًا
  • تسميم الأفلاج العُمانية؟!
  • "لا مبرر لقتل الأطفال".. مئات الأدباء الإسبان ينتفضون ضد إبادة غزة
  • الإنسان والمكان