لم يكن خالد نبهان جَدّا عاديا، بل لم يكن أيضا شهيدا عاديا، كان قصة أحزان وأشواق دخلت كل بيت في العالم تقريبا، ورأى الناس كيف رسم بكلماته الجريحة قصة من أروع قصص الفراق الدامي في غزة.

فبعد طول انتظار وترقب التحق خالد نبهان بحفيدته "روح الروح" والتحف البياضَ الذي كان قد وخَطَ رأسه ولحيته، وكساها هيبة ووقارا، ازداد إشعاعها وهو يغادر الدنيا شهيدا مبتسما.

ما كانت الشهادة تخطئ أبا ضياء خالد نبهان، إلا لتصيبه في مقتل من الروح، وشغاف من الفؤاد.

قبل نحو عام من الآن، التحف نبهان الصبر وهو يحتضن حفيدته ريم ويقبل جسدها الصغير، كالوردة متلفِّعة بلون شقائق النعمان، إلا أنها محمرة بالدم القاني، مثل شقائقها اللائي سبقنها من كل بيت، بعد أن كسرت تلك العظام الرخوة والجسد الغض البريء قاذفات اللهب الإسرائيلية.

انتشل خالد نبهان حفيدته الصغيرة ريم من تحت الركام، ولم يكن يصدق أن عمرها البهيج قد أوقفه الجيش الإسرائيلي عند 3 سنوات، وأن ضحكتها التي كانت تملأ البيت سعادة، قد تحولت إلى نشيج دائم، وأن صورها البراقة، قد تحولت إلى أطياف محلقة تؤرق الليل وتهيج الذكرى، وتستدر الدمع النبيل.

يتمسك الجد الوقور، بالجثمان الصغير، يشمه ويقبله، ويضمه إلى صدره، ويتمنى لو انطلقت من ذلك الكفن الوديع ضحكة طفولية، لتقول له إن الأمر مزحة كله.

إعلان

لكن "روح الروح" كانت حقيقة في قربها ومأساتها، وحقيقة أخرى صارخة هي أن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة لم تكن تفرق بين صغير أو كبير بين مدني أو مقاتل، فقد كان التطهير العرقي والإبادة الجماعية والعدوان يستهدف كل ما يرف للحياة من جفن في القطاع المدمر كما يقول الكثيرون.

الشيخ المحتسب الصبور، خالد النبهان، يسلم الروح شهيدا في #غزة، ملتحقا في الأعالي بحفيدته الصغيرة التي دعاها "روح الروح" يوم فقَدها.. اللهم اجمعهما في علِّيين pic.twitter.com/G6s5U1uklz

— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) December 16, 2024

ذكرى الميلاد وموعد الرحيل

في ديسمبر/كانون الأول، ولد الجد والحفيدة وفيه رحلا معا في عامين متتاليين، ففي العام الماضي، ودعت الصغيرة قبل نحو شهر من عيد ميلادها الرابع.

وفي حين كانت الصغيرة تنتظر تلك الذكرى العطرة، كان الجد الحنون يعد ما يليق بتلك اللحظة الشذية بالمشاعر والأحاسيس الرقراقة، وكانت المصادفة الأكثر حلاوة في الأمر أن الجد وحفيدته يلتقيان في شهر ميلاد واحد، وكم كان للفرح من أرجوحة في قلب الشيخ النبيل، وكم كان للسعادة من وردة متفتقة، ولحن طفولي عذب في القلب الصغير للوردة ريم الصغيرة المذبوحة برصاص إسرائيلي.

بعد أشهر قليلة ولدت لخالد نبهان حفيدة أخرى أطلق عليها اسم "روجاد" ويعني وقت صلاة الفجر، أي وقت انبلاج النور من رحم الظلام، ووقت انطلاق عصافير الحياة مرفرفة في الكون الذي لم يعد فسيحا، منذ أن أصبحت أزهاره وعصافيره هدفا لقناص إسرائيلي يرسل الموت شراكا قلّ أن ينجو منه جد ولا حفيد.

ورغم عمق المأساة والألم الذي أحدثه رحيل "روح الروح" فقد ظل الجد خالد ذا روح مفعمة بالحب والجمال، كان حاضرا بقوة في الإنقاذ والتثبيت، مالكا لأسلوب رائع في تخفيف المآسي على قلوب الصغار، يملك روحا مشرقة، وخطابا إيمانيا متوثبا، ويعيش عالما من الرضا، يلين راسيات الجبال، ويذيب -لو كان لفراق روح الروح من سلوان- ما يراكمه الحزن اللاهب من جبال ألم، وما يسقي من أودية أشجان.

في الخالدين يا روح الروح
أبو ضياء شهيداً
عوَّضك الله الجنة على صبرك وإيمانك
وجمعك بحفيدتك في جنَّات النعيم pic.twitter.com/UkXg9EMKwg

— أدهم شرقاوي (@adhamsharkawi) December 16, 2024

إعلان غدا نلقى الأحبة

ريم وخالد حفيدا خالد النبهان، روحان من وهج الحياة المحروقة في غزة، وقصتان من بين عشرات الآلاف من القصص الموحدة العناوين المختلفة، في حين تغرز من مخالب الألم في تلك القلوب الرطبة والأجساد الصغيرة، إنها قصة قتل الحياة، وسفك دم الطفولة الرقراق.

لكن خالد كان من بين أفصح الجراح التي تمشي على قدمين، وأبلغ الأصوات التي تتحدث بلسان، كان صوته وصِيته وبسمته وحزنه وأشواقه رسائل تدك العالم كله، تتحطم أمامها أسوار التجاهل، فقد كانت عبارة روح الروح تهز ما بقي من روح في العالم المبَنّج.

ولأن روح خالد كانت قد حلقت في عالم الأشواق، يوم أرخى للحزن زمامه أسفا على روح الروح، فقد كان يحث السير ويترقب الرحيل كل حين، وفي واحدة من آخر تغريداته على حسابه على الإنستغرام، كان الرجل ينظر من سجف الغيب، ويهتف عبر ستائر الأشواق إلى حفيديه، بأنه قادم إليهما قريبا "هل نلتقي؟ فالبُعد مزّق خافقي. هل نلتقي من بعد شوق مُحرق؟ صدقا، توقفت الحياة، وما لها في ليل هجرك أي فجر مشرق". كما تقول كلمات الأنشودة التي كانت مرافقة لصورة نشرها قبل نحو أسبوع على حسابه في إنستغرام.

برحيل خالد نبهان لا ينضاف اسم جديد إلى لائحة طويلة من الشهداء فحسب، بل تكتب قصة ميلاد ملحمة حزن عابر للأيام، وقصة أجيال جمع بينها العدوان الإسرائيلي في كفن منسوج من عبق الكلمات الجريحة والأشواق المطهرة، والرضا والتوكل، والمقاومة التي تأخذ كل لبوس، من قسمات الطفل الرضيع، وهو يتلقى الرصاص قبل أن ينقطع حبله السري، وبسمة الرضيع وهو ينشق عبق المقاومة ويحتسي لبان الجهاد، ومن روح الروح وهو تكتب للحزن آمادا مفعمة بالألم، وترسم قصة جد، ملأ الدنيا حبا وشغل الناس حزنا، ومضى إلى حيث مراقد الصالحين، ومنازل المقاومين، إلى فردوس مديد، وروح وريحان… إلى حيث "روح الروح".

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات خالد نبهان روح الروح

إقرأ أيضاً:

ريم بسيوني: السعادة في التصوف هي القرب من الله.. لأن الروح تشتاق له

تحدثت الدكتورة ريم بسيوني الروائية والأديبة، عن صدور الطبعة الثامنة من كتابها "البحث عن السعادة: رحلة في الفكر الصوفي وأسرار اللغة"، مشيرة إلى أن حظها كان جيدًا بخروج هذه الطبعة الجديدة بالتزامن مع حديثها عن العمل.

وأكدت أن الكتاب يركز على وجهة نظر علماء الصوفية الأوائل من العصر الأموي حتى العصر المملوكي فقط، مضيفة: "هو لا يتطرق للطرق الصوفية الحالية، ولا يتطرق للفكر الصوفي حاليًا، لأن لسه ما عملتش الدراسة دي".

وأضافت بسيوني، في حورها مع الإعلامي  خالد أبو بكر مقدم برنامج "آخر النهار"، عبر قناة "النهار"، أن الكتاب يبدأ بتقديم شرح مبسط لفكرة الصوفية، قائلة: "خلينا نشرح للناس الصوفية بأسلوب مبسط"، وأشارت إلى أن الصوفية تقوم على فكرة صفاء القلب.

واستشهدت بوجهة نظر الإمام أبو حامد الغزالي، الذي يرى أن الشريعة أو القانون تنظم حياتنا علشان نقدر نعيش في سلام، لكن وحدها لا تكفي. قالت المتحدثة: "الشريعة دي بترتب حياتنا، لكن هي ليست وحدها كافية إن احنا نعيش في صفاء نفسي".

في توضيح العلاقة بين الشريعة والباطن، أوضحت المتحدثة أن الغزالي يرى أن هناك فرقًا بين الظاهر والباطن، وساقت مثالاً بزوج يضايق زوجته حتى تطلب الطلاق ثم يقول أمام القاضي إنه لم يخطئ، فتكون الأمور "ظاهريًا صح"، لكن "قدام القاضي الأكبر هو عارف نية الراجل دي كانت إيه".

وأضافت: "إحنا بنفكر في الظاهر ونفكر في الباطن، نفكر في النية"، مشيرة إلى أن الصوفية تعتمد على "إننا نعمل الشرع اللي ربنا طلبه مننا، لكن كمان لازم نطهر قلبنا من الغيبة، من الظلم، من الحسد، من الحقد".

وتناولت رؤية الفكر الصوفي للسعادة، مشيرة إلى أن السعادة في هذا السياق لا تُفهم بوصفها حالة دنيوية، بل هي "القرب من الله".

وأكدت: "إحنا في سفر، الحياة دي مش وطن، هي رحلة"، وفي هذه الرحلة "عايزين يبقى عندنا الشريعة أو قوانين تحمينا"، والهدف النهائي هو القرب من الله. وتابعت: "السعادة مش هتقدر نوصل لها إلا لو عرفنا ربنا وقربنا منه أكتر"، موضحة أن الروح عندهم بتشتاق إلى الله، ولذلك فالسعادة هي الاستجابة لهذا الاشتياق.

ورداً على من قد يعتقد أن هذا الكلام نظري، قالت المتحدثة: "حضرتك تقول الكلام ده شوية نظري كده، وازاي الواحد يقدر يعمله؟"، وأجابت بأن الأمر يبدأ من صفاء القلب، وأضافت: "هو علشان نعمله، إحنا محتاجين نصفي قلبنا، زي ما نقول: صفي قلبك".

وأتم، بأن تحقيق السعادة في الفكر الصوفي يتطلب عملاً على الذات، لا يقتصر فقط على أداء الظواهر الدينية، بل على تطهير الداخل كذلك.

طباعة شارك ريم بسيونى خالد أبو بكر الصوفية

مقالات مشابهة

  • يديعوت: العصابة التي سلحها الشاباك بغزة تنشط في الدعارة وتهريب المخدرات
  • الهيئة الدولية لدعم فلسطين: مبادرة ويتكوف كانت منحازة بالكامل للاحتلال
  • ضابط إسرائيلي كبير: لا يمكن وصف الفشل المهين الذي لحق لنا إثر هجوم 7 أكتوبر
  • داخلية غزة تتوعد العصابات التي اعترف الاحتلال بتشكيلها لنشر الفوضى
  • فتاوى :يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عُمان
  • فعاليات احتفالية للعمال في دبي بـ 4 مناطق
  • ريم بسيوني: السعادة في التصوف هي القرب من الله.. لأن الروح تشتاق له
  • خالد أبو بكر: يستطيع اليوم المواطن أن يحصل على الدولار الذي يطلبه.. فيديو
  • طفل غزي لتايمز: الطعام الذي كانت أمي ستحضره لنا تضرج بدمائها
  • كتائب الشهيد محمد الضيف تتبنى قصف مواقع إسرائيلية في الجولان المحتل