kأثارت تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، بشأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، دهشة ليس في تركيا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم. حيث قال:
"لا أحد يعرف حقًا من الرابح، لكنني أعتقد أن تركيا هي الرابح. أردوغان رجل ذكي وقوي جدًا.. كان الأسد جزارًا. رأينا ما فعله بالأطفال.. مفتاح سوريا في يد تركيا".
عندما أدلى ترامب بهذه التصريحات، كنتُ قد عدت للتو من سوريا. زرت معظم المدن، وبعدها أجريت مقابلة مع القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع . في البرامج التلفزيونية التي شاركت فيها وحساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي، قلت: "رأيت في سوريا عقل دولة، هذا العقل ليس أميركيًا، ولا إسرائيليًا، ولا بريطانيًا. هذا العقل الذي يحكم الساحة هناك هو تركيا".
لكن ماذا فعلت تركيا في سوريا، وكيف أصبحت بهذا التأثير الكبير؟ لم يناقش أحد هذا الموضوع بتفصيل كافٍ.
أكبر ضحية للحرب الأهلية السورية أصبحت تملك المفتاحكانت تركيا هي أكثر المتضررين من الحرب الأهلية السورية. على مدار 13 عامًا، استقبلت موجات متتالية من اللاجئين دون انقطاع، حتى تجاوز عدد اللاجئين السوريين في البلاد 3.5 ملايين شخص.
نفذت الجماعات شبه العسكرية التابعة لنظام الأسد، وعناصر المخابرات العديد من الهجمات التفجيرية في تركيا، مما أسفر عن مقتل العديد من الأشخاص.
إعلانإلى جانب ذلك، شنّت الجماعات المؤيدة لإيران ونظام الأسد حملات إعلامية؛ بهدف إضعاف حكومة أردوغان. وبسبب وجود اللاجئين السوريين، نشبت احتجاجات ومشاحنات في العديد من المدن. وفي الانتخابات المحلية الأخيرة، قادت الأحزاب المعارضة حملات ضد اللاجئين، مما أدى إلى خسارة حزب أردوغان للعديد من البلديات لصالح المعارضة.
رغم كل ذلك، رفض الرئيس أردوغان مطالب إعادة اللاجئين إلى سوريا قسرًا، ووقف إلى جانبهم دون أن يتراجع.
لكن، هناك خطوة أكثر أهمية قام بها أردوغان ولم يلتفت إليها كثيرون: لقد واصل الاستثمار في المعارضة السورية، وكذلك داخل سوريا نفسها.
تركيا استثمرت داخل سورياشنّت تركيا عدة عمليات عسكرية عبر الحدود لمواجهة الهجمات القادمة من حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG). أنشأت تركيا "مناطق آمنة" في جرابلس، عزاز، عفرين، والباب بموجب اتفاقيات أستانا وسوتشي.
ساعدت تركيا الفصائل المعارضة في إنشاء إدارات محلية، وضمان الأمن، وتأسيس نظام اقتصادي في هذه المناطق. شَيدت مدارس ومباني للجامعات، وبنت مستشفيات ومرافق صحية، وقدمت دعمًا لمشاريع البنية التحتية. على سبيل المثال، قامت بلدية غازي عنتاب بإنشاء الطرق في مدينة الباب، بينما أنشأت وزارة الصحة التركية المرافق الصحية.
كما قامت منظمات المجتمع المدني التركية بتنفيذ مشاريع إنسانية وإغاثية، بالإضافة إلى أنشطة تعليمية وثقافية.
وهيأت تركيا أرضية مرنة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين تركيا وشمال سوريا. ولذلك، تم السماح بتوريد جميع المواد اللازمة لتلبية احتياجات تلك المناطق مثل الاتصال، والنقل، والغذاء، والصحة، والتعليم من تركيا.
إنشاء الجيش الوطني السوريونفذت تركيا مشروعًا لضمان الأمن في مدن شمال سوريا؛ حيث دعمت تأسيس الجيش الوطني السوري، وقدمت الدعم في التدريب العسكري، وتوفير الأسلحة. وقامت تركيا أيضًا بإنشاء قوات شرطة في المدن، ووفرت الدعم لضمان الأمن من خلال منسقين.
إعلانمع مرور الوقت، سيطر الجيش الوطني السوري على آلاف الكيلومترات المربعة التي يقطنها ملايين الأشخاص. وعندما بدأ الهجوم ضد الأسد في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، بدأ الجيش الوطني السوري أيضًا في السيطرة على المناطق التي كانت تحت سيطرة المليشيات الانفصالية الكردية في الشمال.
الموضوع الحرج: العلاقات مع هيئة تحرير الشامكنتُ في سوريا عندما سقطت حلب في عام 2016 بيد نظام الأسد، وتدفقت موجة هجرة ضخمة باتجاه تركيا. في ذلك الوقت، شاهدت الخيام والهياكل العشوائية في ريف إدلب. وكانت إدلب آنذاك مكانًا صغيرًا لا يُسمع به كثيرًا. لكن مع تدفق أعداد هائلة من المهجرين من حلب والمناطق المحيطة بها، تحولت فجأة تلك البلدة الصغيرة إلى مدينة يقطنها مليون شخص.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي عام 2017، حدثت هجرات جماعية من حماة، وفي 2018 من دمشق ودرعا، ليتم نقلهم جميعًا إلى إدلب. وحسب تقارير الأمم المتحدة، بلغ عدد سكان إدلب اليوم 4.1 ملايين نسمة.
كانت هيئة تحرير الشام موجودة في إدلب منذ فترة طويلة، ولكن بسبب الهجمات التي شنها حزب الله ونظام الأسد وروسيا على مواقعها في حلب وحماة ودمشق ودرعا، نقلت الهيئة جميع قواتها العسكرية إلى إدلب، مما سمح لها بتشكيل قوة كبيرة هناك.
نظرًا لأن تركيا كانت الدولة الضامنة في إدلب وفقًا لاتفاقيات أستانا وسوتشي، فقد بدأت بتأسيس علاقات مع المنطقة. ومع ذلك، نشب صراع بين قوات الجيش الوطني السوري في إدلب وبعض الفصائل داخل هيئة تحرير الشام. بسبب ذلك، وضعت تركيا هيئة تحرير الشام على قائمة المنظمات الإرهابية باعتبارها امتدادًا لتنظيم جبهة النصرة.
غير أنه بسبب موقف تركيا كدولة ضامنة في إدلب والوجود الفعلي لقوات الجيش الوطني السوري في المنطقة، اضطرت تركيا إلى بناء علاقات مع إدارة إدلب، وبالتالي بدأت عملية تحول هيئة تحرير الشام.
كيف تحولت هيئة تحرير الشام؟كانت إدلب منطقة تتعرض بشكل متكرر للقصف والحصار من قبل نظام الأسد وروسيا، ولهذا كان لا بد لهيئة تحرير الشام من الاقتراب من تركيا للحفاظ على بقاء المدينة ذات الـ 4 ملايين نسمة. بسبب الهجمات المستمرة من قبل عناصر أجنبية داخل الهيئة واشتباكاتها مع الجيش الوطني السوري، طالبت تركيا الهيئة بتطهير صفوفها من هذه العناصر الأجنبية وضمان مركزية التنظيم، وهو ما استجاب له قائدها.
إعلاندخلت هيئة تحرير الشام في علاقة وثيقة مع تركيا خلال هذه الفترة من أجل إدارة الشؤون العامة والاجتماعية في إدلب، خاصة بعد أن أصبح دافع تركيا الأساسي هو منع حدوث موجة نزوح جديدة من إدلب بسبب الهجمات المستمرة من نظام الأسد. ومع مرور الوقت، ومع رؤية تركيا لتحولات الهيئة، ازدادت العلاقة بين الجانبين.
أُحرز أكبر تأثير في الدورة الاقتصادية، حيث تم مد خطوط كهرباء عبر تركيا، مما سمح للعديد من الأنظمة في إدلب بالعمل. كما تم تأسيس أنظمة اشتراك عبر البنوك، مما أتاح إحياء قطاع المصارف.
مع انخفاض أسعار المواد الأساسية مثل الطعام والملابس والأثاث في إدلب، بسبب فرصة الحرب التي استفاد منها نظام الأسد، بدأ العديد من الناس من اللاذقية وطرطوس بالتسوق من إدلب، كما قدمت تركيا الدعم في مجالات الخدمات العامة في مدن مثل أعزاز، جرابلس، وعفرين، وامتد هذا الدعم إلى إدلب، مما ساعد على تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في المدينة وجعلها مركز جذب.
تراجع التطرف في هيئة تحرير الشام بشكل تدريجي. على سبيل المثال، تم رفع الحظر عن قيادة النساء للسيارات، وتم توفير التعليم لجميع الفئات، ولم تُمارَس ضغوط على الناس. وسمع سكان سوريا بذلك، مما ساهم في كسر بعض الأحكام المسبقة ضد الهيئة.
وبفضل الدعم التركي، تحولت الهيئة التي كانت تُصنف في العالم كتنظيم إرهابي، إلى قوة أكثر اعتدالًا وتحضرًا. في البداية كان أحمد الشرع شخصية عسكرية متشددة، ولكن من خلال هذه التفاعلات، أصبح أكثر مدنيًا وعقلانية.
وفي النهاية، نجحت تركيا في تحويل هيئة تحرير الشام إلى هيئة أكثر مرونة وقدرة على التكيف.
دمشق لم تكن هدف هيئة تحرير الشامفي فترة التهدئة التي نسي العالم فيها سوريا، كانت هذه التطورات تحدث في الداخل. من جهة أخرى، خلال العامين الماضيين، تغيرت التوازنات الجيوسياسية في المنطقة بشكل مفاجئ؛ بسبب الحروب في أوكرانيا، غزة، ولبنان.
إعلانفي عام 2015، دخلت ثلاث قوى في الحرب السورية غيّرت التوازنات بشكل مفاجئ، لكن في العامين الماضيين، تعرضت هذه القوى لانتكاسات كبيرة، وفقدت الكثير من قوتها. فقد فقدت روسيا قوتها في أوكرانيا، وتعرض حزب الله في لبنان لعدة ضربات، كما تراجع دور إيران في صراعها مع إسرائيل، مما أثر على وجودهم في ساحة سوريا. مع تراجع هذه القوى، حاولت المليشيات الكردية ملء الفراغ، لكن لم تنجح بشكل كامل.
استفادت هيئة تحرير الشام من هذه الفجوة في ساحة المعركة، وبدأت في التحضير للسيطرة على المناطق التي كانت تستهدفها في ريف إدلب ومحيط حلب. دفعت تركيا هيئة تحرير الشام لإرجاء العمليات العسكرية في تلك المناطق. وعندما انتهت الحرب في لبنان، بدأت العمليات العسكرية في الساحة السورية.
لم تفكر هيئة تحرير الشام أبدًا في السيطرة على دمشق، أو حتى السيطرة الكاملة على حلب. ومع ذلك، عندما نزلوا إلى الساحة ووجدوا أن نظام الأسد قد أصبح هشًا، وأن حزب الله والمليشيات الإيرانية وروسيا ليس لديهم القدرة على القتال، فقرروا التقدم.
بعد أن تمكنت هيئة تحرير الشام من السيطرة على حلب بسهولة، توجهت نحو حماة. وعندما سقطت حماة بسهولة أيضًا، تحركوا نحو حمص. كانت خطة هيئة تحرير الشام هي التوقف هناك والتفاوض مع نظام الأسد. لكن عندما علموا أن الجماعات المدعومة من الأردن والولايات المتحدة قد دخلت إلى ريف دمشق، أمر أحمد الشرع جميع قواته بالتوجه نحو دمشق.
في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، تمت السيطرة على دمشق، وسقط نظام البعث بعد 61 عامًا من حكمه، وهرّب بشار الأسد من البلاد.
ليس لديهم خبرة كافية ويتلقون الدعمقال لي أحد المسؤولين في هيئة تحرير الشام: "كأننا في حلم، لا نصدق أننا سيطرنا على دمشق". وعندما أجريت مقابلة مع الشرع، سألته: "كيف تمكنتم من السيطرة على كل شيء بهذه السهولة؟"، فأجاب: "النظام ظلم شعبنا إلى حد كبير، وكأنهم كانوا ينتظرون مجيئنا".
إعلانفي الواقع، كان الوضع الجيوسياسي المتغير على الأرض قد تطور بشكل مضر للنظام وملائم لهيئة تحرير الشام، وكان النظام المتعفن ينهار بسهولة بضربة واحدة.
لقد اكتسبت هيئة تحرير الشام خبرة في إدارة شؤون الدولة في إدلب، ونجحت جزئيًا في استخلاص العبر من جميع الأخطاء التي وقعت في الحرب الأهلية. في حلب، عاد الوضع إلى طبيعته خلال يومين، ولم يتم الانتقام من أحد. وهذا ساعد في إضعاف النظام في دمشق.
ومع كل هذه الإنجازات، لا تمتلك هيئة تحرير الشام الخبرة أو المعرفة أو الموارد البشرية اللازمة لإدارة الدولة. ولذلك، قدمت تركيا دعمها في هذا المجال أيضًا؛ فالتصريحات التي تم إصدارها إلى الرأي العام الدولي عززت فكرة أن هيئة تحرير الشام ليست منظمة إرهابية مخيفة.
والخطوات التي تم اتخاذها كانت محسوبة بشكل جيد، وتم تجنب حدوث الفوضى. في دمشق، شهدت كيف أن الحياة عادت إلى طبيعتها في غضون ثلاثة أيام. ذهب الناس إلى جبل قاسيون للنزهة، وعاد النشاط التجاري إلى أسواق دمشق القديمة على الفور. في وقت كان يتم فيه توزيع الخبز والوقود وفقًا للبطاقات، اختفت هذه الممارسات فجأة.
كيف ستكون الدولة الجديدة؟أحد أكبر التحديات هو تحديد شكل النظام الإداري في سوريا التي تضم العديد من الهويات العرقية والمعتقدات الدينية المختلفة. ومع وجود أمثلة مؤلمة من العراق ولبنان وليبيا وأفغانستان، كان من الضروري اتخاذ موقف حازم من تركيا من أجل منع ظهور هيكل مشابه للفوضى. لأن تركيا، التي تشترك في حدود تبلغ 900 كيلومتر مع سوريا ولديها ما يقارب 4 ملايين لاجئ سوري، ستكون أكثر الدول تأثرًا بتلك الفوضى.
أعلنت هيئة تحرير الشام ثلاثة مبادئ رئيسية:
ستكون الأراضي السورية موحدة تحت إدارة واحدة، ولن يكون هناك نظام فدرالي. جميع الجماعات المسلحة ستكون جزءًا من وزارة الدفاع، وسيتم نزع السلاح. جميع المكونات العرقية والدينية في سوريا ستشارك في إدارة البلاد، ولن يتدخل أحد في حياة الآخرين. إعلانهذه المبادئ، التي ستهدئ الكثير من الدول، كانت أيضًا بمثابة حاجز ضد احتمال نشوب الفوضى الداخلية. السبب في تراجع آمال أولئك الذين كانوا ينتظرون "دولة الشريعة" أو حكومة مسيطرة تفرض سلطتها على الجميع هو هذه المبادئ المعلنة والالتزام بها.
لكن لا يعني ما سبق أن الوضع سيكون مثاليًا؛ حيث إن عملية إعادة بناء سوريا سياسيًا واجتماعيًا وجغرافيًا لن تكون سهلة، الأشهر القادمة ستكون حاسمة جدًّا.
الشعب السوري عانى بما فيه الكفاية من النزاع والصراعات، وتعرض لآلام كبيرة. لذلك، فإنهم يعلقون آمالهم على تأسيس نظام وحكومة هيكلية ترضي الجميع. ومن المهم أن تدعم جميع الدول هذا الهدف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الجیش الوطنی السوری هیئة تحریر الشام السیطرة على نظام الأسد العدید من فی سوریا فی إدلب ت ترکیا کانت ت جمیع ا
إقرأ أيضاً:
مشروع الهيئة: أن تعرف ما تريد خلال الطريق
"المجزرة التي تُنسى محكوم عليها بالتكرار، النعمة التي تُنسى مصيرها الأفول"
((كتبت هذه المادة بناء على العديد من المقابلات التي أجراها الكاتب في سوريا وإضافة إلى الاطلاع على مصادر عدة، اختار صياغة هذا كله في قالب درامي، ووضع الخلاصات على لسان شخصية متخيلة تماما)).
نجلس هنا أسفل الجبل، قال لي -أبو دجانة- وهو يطلق بصره نحو جبل قاسيون.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الصليبي الأخير.. وزير الدفاع الأميركي الذي يكره جيشهlist 2 of 2بندقية في المحراب.. كيف صاغ التديّن جنود تحرير الشام؟end of listقلت: ولماذا لا نصعد الجبل؟
صعود الجبل يحتاج إلى كلمة سر.
ظننته يمزح، فضحكت، لاحقًا تبين لي أن صعود الجبل فعلًا يحتاج إلى كلمة سر!
تجري فيه العديد من الإصلاحات، ويغلقه رجال هيئة تحرير الشام (الأمن حاليًّا) ولا يمكن عبور الحاجز إلا بكلمة سر شفاهية. بدا لي ذلك منسجمًا مع شخصية الجبل، كلمة سر تفتح لك الطريق.
قاسيون المهيب يجلس فوق دمشق وكأنه شاهد عليها، يحمل فوقه "الصخرة الحمراء" في "مغارة الدم"، أداة الجريمة الأولى في التاريخ، صخرة قابيل التي قتل بها شقيقه هابيل فشهق الجبل من هول الجريمة وتجمد فمه ناحتًا مدخل المغارة، هكذا تقول الأسطورة.
هذا البلد مثقل بالتاريخ إلى حدّ التعب، لا تخطو قدماك في مكان إلا وقد عبرته إمبراطوريات وقادة وعلماء، وهو كذلك محملٌ بالمستقبل (دابق، الأعماق، الغوطة.. أسماء مواجهات لم تأت بعد)، وهنا "المنارة البيضاء شرقي الجامع الأموي حيث موعدنا مع نزول سيدنا ابن مريم" قال القيم على الجامع الأموي وهو يحكي لنا مستقبل المكان أيضًا.
أما ضيفنا أبو دجانة فهو كالآخرين، تخلى عن كنيته "القاسية" ولبس بدلة أنيقة وربطة عنق، وكالآخرين أيضًا تعلم التحدث بلغة وزراء الخارجية "انطلاقًا من الأراضي السورية -الدول الشقيقة – دول الجوار – التنوع الثقافي في سوريا".. وهكذا، تحتاج أن ينقضي الجزء الأول من الحوار لكي تلج بعدها في أعماق كوادر الهيئة وربما (بل غالبًا) لا تفلح، فالطبقة التي تكثفّت على السطح من الخطاب تبدو متشابهة وكأنها تعميم مكتوب؛ تعد بحلم الدولة وتبشر بالاستقرار، وتتكلم وكأن هناك كاميرا خفية في مكان ما تصور الإجابات.
إعلان الحقائق الملثمة: في المفترقاتلا يأتي الحق على حصان أبيض، بل أحيانًا يستقل حافلة خضراء، يسلّم منطقة، ينسحب من أخرى ويقاتل رفاقه، أحيانًا يكون الحق ملثمًا، وفي مفترقات معينة يقف الباطل بعيدًا عن الحق مقدار خطوة واحدة، ثم يتمايز، أحيانًا أخرى يكون الخيار الوحيد بين باطل وباطل أقل، لكن المشكلة أن عليك أن تقرر قبل أن تفكر، الوقت الذي تقضيه في التفكير كافٍ لخسارة معسكر.
ليست الحقيقة بهذا الوضوح الذي نتوهمه، ولا مصممة على مقاس الشعراء كي يمدحوها، الفتنة دائمًا عمياء، وحين تكون في داخلها نادرًا ما تميّز طبيعة الشيء الذي تواجهه، حتى إذا أدبر أسفر لتتبين حينها موضع قدميك، وكثيرًا ما تزل قدمٌ بعد ثبوتها.
"تسألني عما تعلمته؟" قال أبو دجانة فيما يشبه الخلاصة. ثم أكمل بشيء من الأسى: "كم كنت أتمنى أن أعرف قبل أن أبدأ. كم كانت تصوراتنا مثالية وساذجة. كنا مع كل مفترق طرق نتخلى عن شيء من هذه المثالية ونتحلى بدرجة أعلى من الواقعية، لقد عبر بنا الشيخ (أبو محمد الجولاني) كل هذه المفاوز ولهذا نثق فيه اليوم، أنتم لا تعرفونه، نحن نعرفه. نعرفه جيدًا."
(الحقيقة ليست بالوضوح الذي تصوره برامج الكرتون وقصص الأطفال، هذا صحيح، لكنها ليست بالغموض الذي عادة ما يتذرع به، ذاك التذرع الذي يتوسع في كل مرة حتى يجد الإنسان نفسه يدوس الحقيقة بحثا عنها!)
وبدأ أبو دجانة يسرد القصة من البداية: "منذ دخل الشيخ أرض الشام أواخر عام 2011 بصحبة ستة مقاتلين من العراق (وخمسين ألف دولار شهريًّا من البغدادي) كي يؤسس جبهة النصرة، كان يحلم بفتح دمشق، ويبشّر بذلك اليوم، يتحدث عنه كأنه يراه واقعًا، كان يقرأ لنا رواية كتبها بنفسه عن فارس أنقذ التاريخ، فك وثاقه من آسريه الذين أحكموا تقييد يديه كي لا يكتب شيئًا، آمنّا أنه الوحيد القادر على فعل ذلك، وآمن هو أيضًا بذلك، وفعله حقًّا!"
"لم يكن هذا ليحدث بسهولة، لقد أعدّنا الله عبر مفترقات كثيرة وصعبة لهذا اليوم، مفترقات قاسية وأحيانًا كانت شديدة الالتباسات، حدّث المرء نفسه خلالها طويلًا وغمرته الشكوك، رغم أننا نادرًا ما كنا نجد وقتًا حتى للشك، في بيئة مثل التي أحاطتنا كان الانتظار يعني الموت."
إعلان المفترق الأول: إخوة الغلوّواجههم المفترق الأول في أبريل/نيسان عام 2013، حين أعلن أبو بكر البغدادي قيام دولة العراق والشام وحل جبهة النصرة، فقفز الجولاني إلى حضن تنظيم القاعدة، مستفيدًا من مظلتها في حماية تجربته الوليدة أمام زحف "الدولة"، خسر الكثير من الكوادر الذين فضلوا جاذبية الدولة على جبهة النصرة، وحتى يوليو/تموز 2014 بدت النجاة خطة كافية وقتها، كان تنظيم الدولة يلتهم الأراضي والفصائل، وشهدت دير الزور أشد المعارك التي قادها "أبو ماريا القحطاني" عن جبهة النصرة، الرجل القوي الذي سيُعذب لاحقًا في سجون الهيئة ثم يُقتل بتفجير يُعتقد أن تنظيم الدولة وراءه عام 2024.
:تنظيم الدولة هو الذي انشق عنّا!"، قال أبو دجانة، "لقد ذهب بعيدًا في تطرفه، حينها اختبرت الالتباس الأول، لقد قاتلت إخوة بدؤوا معنا المسيرة بعد أن اختاروا الانضمام لتنظيم الدولة، لم يكن الأمر سهلًا بعض الفصائل تورّعت وتأخرت في قتالهم لذلك تمددوا سريعًا، فضلًا عن عقائدية المقاتل عند تنظيم الدولة، إنهم بالفعل طلاب موت، كادت تجربتنا تفنى حينما تدخلت أحرار الشام لمساندتنا، وعبر بنا الشيخ هذه الأزمة."
(ظهور تنظيم الدولة في سوريا كان حدثًا مزلزلًا، لقد أخذ المكونات السلفية في الفصائل وذهب بها لأقصاها، مُسببًا صدمة حقيقية تُنفّر اليوم من أي تشابه مع هذه المكونات، وبدلًا من البحث عن الوسط فإن ظهور غلو متشدد يمهّد لظهور غلو متساهل نقيضًا له، لاحقًا، يصبح التخويف من النموذج المتشدد تنظيرًا بحد ذاته وبرنامجًا للعمل).
– ما الذي ميز طريقة عملكم في البداية؟ سألتُه
"أسلوبنا وقتها كان العمليات العسكرية ضد نظام الأسد. تجنبنا حروب الاستنزاف ونموذج الرباط الذي يحتاج إلى مقاتلين كثر، ولم نجد أنفسنا مضطرين إلى المحافظة على مناطق محررة ثابتة.
بدلًا من ذلك، انصبّ تركيزنا على بناء قوات هجومية بعقيدة قتالية عالية وفاعلية عملياتية قادرة على إحداث فارق على الأرض، وركزّنا على آلية اختيار الكوادر بدقة، أصبحت شروطنا أقل حدة لصالح إدماج قطاع واسع من الفصائل الصغيرة معنا، وغيرنا أسلوبنا في العمل وفق ذلك.
وقتها، لم يكن "المشروع" قد تبلور في أذهاننا، كنا نظن أن ما نعتقده هو المشروع بحد ذاته وهذا كافٍ، لكنه لم يكن كذلك، لقد اتضحت الأمور مع الوقت."
(كلمة "المشروع" تتردد كثيرًا على ألسنة شباب الهيئة بوصفها رديفًا للـ"حكم"، لكن في الواقع الحكم بذاته وسيلة ضرورية لتبليغ "المشروع"، إذن -مجددا- ما هو المشروع؟ يجري الإحالة إلى ما في عقل الرجل أكثر من الإحالة إلى أفكار محددة، مما يشي بأن المشروع جرى اختصاره في شخص القائد)
المفترق الثاني: الأم العجوزفي الثامن والعشرين من يوليو/تموز 2016، كانت الحركة الأم "القاعدة" قد شاخت تمامًا، ولم تعد مظلّتها تمنع الأمطار بل هي نفسها أصبحت مصدرًا للبلل، لم تعد "القاعدة" جذابة وشيخها الظواهري أصبح بعيدًا معزولًا وغارقًا في الشعور بالخذلان، أعلن الجولاني بعد أن أماط اللثام عن وجهه فك الارتباط مع تنظيم القاعدة وولدت بذلك "جبهة فتح الشام"، لكن الكوادر التي ظلت وفية للقاعدة انشقت معلنة عن تنظيم "حراس الدين".
إعلانكانت ضرورة، قال أبو دجانة، الكثير من الفصائل كانت تمتنع عن التحالف معنا بسبب عبء اسم "القاعدة" فهي كما تعلم مصنفة حركةً إرهابية دوليًّا، المهم في النهاية هو الأهداف وليس الوسائل، عليك أن تفكر في الأمر وكأنه سباق رالي طويل، كل مئة متر علينا أن نبدّل العجلات بأخرى أكثر ملاءمة للمرحلة القادمة، لذلك بعد سنة واحدة أسسنا "هيئة تحرير الشام" سعيًا لإدماج أكبر قدر من الفصائل التي نتفق معها، لقد قسمنا الفصائل وقتها إلى نوعين: نوع ليس لديه مشروع وهذا كان من السهل إدماجه وترتيب وضعه، ونوع لديه مشروع مغاير لا يصب في مصلحة الحالة الجهادية وهذا عرضنا عليه التحالف، ثم قاتلناه حين أصرّ على التمسك بخيار تفتيت الساحة.
(أعجبتني استعارة سيارة الرالي، وذهب فكري بعيدًا، ماذا لو غيرنا لون السيارة، جسمها، محركها، أقصد ما هو الشيء الذي إذا غيرناه لا تعود السيارة هي نفسها؟ يصعب أن يجيبك أحد عن هذا السؤال وذاك لأن الثوابت جرى حلّها بمحلول "السياسة الشرعية" فاستحال كل تجاوز قابل لإعادة التأويل والتبرير)
المفترق الثالث: إخوة الطريقفي 21 يوليو/تموز 2014 بدأنا بحملة "ردع المفسدين"، كان الفساد قد استشرى -للأسف- على يد فصائل الجيش الحر، وبدأ السكان يستنجدون بنا، لم يكن لدى هذه الكوادر انضباط فردي ولا مشروع للحكم.
الحملة طالت أحرار الشام التي حمتكم من تنظيم الدولة في إدلب، أليس كذلك؟. قلتُ مستدركا.
أسرع مجيبًا: "دعني أوضح لك، في النهاية يجب أن نلتف حول مشروع واحد، لقد عانينا طويلًا من تشرذم المشاريع، الكثير من الفصائل كان لديها ارتباطات دولية، وعدم وجود مشروع جامع كانت تكلفته باهظة.
لقد سبق هذه الحملة إطلاقنا أول تصور لمشروع إقامة إمارة إسلامية وتطبيق الشريعة، في هذه المرحلة بدأنا نفكر في ضرورة السيطرة على الجغرافيا، الانتقال من العمل الأمني وحرب العصابات إلى تجربة الإدارة والحكم. وانطلاقًا من ريف إدلب في جبل الزاوية تحديدًا بدأنا في تأسيس تجربة السيطرة على الجغرافيا وتفعيل القضاء الشرعي.
قاتلنا جبهة ثوار سوريا التابعة للجيش الحر، وخلال عامي 2014 و2016 تمدد مشروعنا وبدأنا نُحكم السيطرة على مناطق واسعة من ريف حلب وإدلب وحماة، في 2017 بدأت أحرار الشام تجمع حولها فصائل الجيش الحر، وشكلّت مشروعًا لإدارة المناطق المحررة، مما مثّل تهديدًا حقيقيًّا لنا، وفي ظل امتناعها عن الاتحاد معنا لم يكن معقولًا قبول أكثر من مشروع في نفس المنطقة، فقاتلناهم."
إعلانكان قتالًا على مساحات النفوذ وتوحيد المشاريع وهذا في العمل السياسي يمكن فهمه، ولكن لماذا كنتم تصيغونه صياغات تكفيرية؟ لم يكن هناك تكفير لهذه الفصائل أبدًا.كان هناك مزاج عام يفضي إلى التكفير؟ بمعنى يكفي تعبيرات من نوع "هؤلاء يحالفون الكفار"، "لديهم تنسيق مع أجهزة مخابرات"، "يعملون ضد الدين"، حتى تتلقّاها القيادات الوسيطة والدعاة بوصفها مبررًا للتكفير لاحقًا (القضايا التي فعلتموها واحدة تلو الأخرى بعد تسلّم الحكم).
ابتسم الرجل، وأكمل حديثه بعيدًا عن هذه النقطة.
"لم تكن فترة سهلة، ولم يكن لدينا سيطرة على كل الخطابات داخل الجماعة، في النهاية أفضى هذا الاقتتال إلى ما فيه مصلحة الجميع، سيطرنا على باب الهوى (مصدر الدخل الأساسي للفصائل حينها)، ومن هذه اللحظة أصبح مشروع حكم إدلب ناضجًا، تشكلت حكومة الإنقاذ في عام 2017، استمرت الاشتباكات مع الفصائل حتى عام 2019 ، كان آخرها قتال أحرار الشام وحركة نور الدين زنكي في ريف حلب الغربي، وبعدها بسط المشروع سيطرته، كانت فترة خسر فيها الجميع ما بقي من مناطق نفوذ خارج الشمال السوري، فأصبح ريف حلب وإدلب مركز التنافس الوحيد."
(ثم جاءت الحملة الروسية عام 2019 لتهز كيان من بقي من حاملي سلاح، وتهدد باقتلاع التجربة من جذورها. خسرت الفصائل نحو نصف مساحة سيطرتها، وجرى تثبيت خطوط وقف إطلاق النار باتفاق سوتشي بين الرئيسين أردوغان وبوتين في مارس/آذار 2020).
المفترق الرابع: إنه الحكم
(بذور الحكم بدأت عام 2017، (البعض يعتبرها بدأت قبل هذا التاريخ)، وتدريجيًّا كانت الوقائع تدفع "المشروع" تلك الكلمة الغامضة لتقمُّص شكل الطريق، حيث بدأت تقل قيمة الأدبيات، والروافد، والتوجهات الفكرية، ويحل مكانها كاريزما القائد وسلطة الإنجاز وشبكات المصالح، كانت الصيرورة تتكفل بصياغة الشكل، وكان الشكل نفسه يعيد صياغة الجوهر أيضًا).
بدأ أبو دجانة يشرح تفاصيل هذه المرحلة.
"في أسلوب الحكم، أخذت طريقة العمل في البداية طابعًا قريبًا من جبهة النصرة، يمتاز باللامركزية النسبية، وإتاحة صلاحيات واسعة للإدارة المحلية، وهذا نظام كان يصلح لتلك المرحلة. أسميناه نظام الكتل "القوات"، تخضع كل وحدة إقليمية لأمير وهو القائد العسكري ويصحبه "الشرعي" في حين كانت الأحكام المحلية متروكة بشكل كبير لتقدير القضاة المحليين وهم الشرعيون.
في عام 2018، ذهب الشيخ لتفكيك هذه البنى، فهذا النمط يصلح للتنظيمات العسكرية لكنه يتناقض مع بناء حكم مركزي موحد، حينها شكلنا ما يعرف بإدارة المناطق المكونة من 350 عضوًا مُنظّمين في أقسام محلية عبر مناطق إدلب السبع، التي كانت حلقة وصل بين "حكومة الإنقاذ" و"هيئة تحرير الشام"، وعوضت النقص الموجود في الحكومة وحلت مكان العصب القديمة في المناطق."
(هكذا أصبح هناك حكومة مقربة وحكومة ظل موالية، تعمل على سحب النفوذ تدريجيًّا من المكونات والعناصر الجهادية السابقة لتشكل طبقة حكم جديدة، لم تستوعب الوجهة الجديدة للمشروع. لقد حرصت تجربة إدلب على تخليص نفسها تدريجيًّا من أي مظاهر قد تفزع المانح الدولي أو المراقب العالمي الذي لديه قائمة قصيرة ومختزلة للمظاهر التي تشعره بالقلق.
على سبيل المثال سعت مؤسسة "سواعد الخير" و"الخلاص"، لبث سمت إسلامي عام في الأماكن العامة، بما في ذلك التضييق على الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة، فأغلقتهما الهيئة. وحين بدأت مظاهر الانفتاح تكسو المدينة بعد 2020، حاول بعض الدعاة والهيئات تنظيم قانون ينظم هذا الوضع، لكن الهيئة لم تؤيد القانون ولم تعارضه بل جمدّته.كان التحول يسير تدريجيًّا نحو استجلاب شرعية خارجية ولكن بهدوء يضمن عدم انفلات الفئات المحافظة والمتدينة ضد "المشروع").
"لم نستفرد بإدارة البلد، كان نموذجنا تشاركيًّا" أوضح أبو دجانة، ثم أكمل "انضمت لحكمنا نخب التكنوقراط داخل الجسم الحكومي وأتحنا لمنظمات غير حكومية الدخول في قطاعات الصحة والتعليم، كان دعمنا يزداد بين النخب المحلية، من مهنيين ورواد أعمال وشخصيات قبلية، في حين كان السخط على التجربة يتصاعد من النشطاء والصحفيين وكوادر حزب التحرير.
إعلانكيف جرى التعامل مع التوجه المعارض؟ كثيرًا ماكنا نسمع عن تعذيب في السجون مثلًا، إلى أي درجة جرى ضبط التغول الأمني على الناس؟انظر، لقد وقعت تجاوزات كثيرة، خصوصًا عندما تعرضنا لـ"فتنة خلية العملاء"، فتنة كادت تودي بنا، (وهنا صمت الرجل قليلا وسرقته الخيالات إلى مكان غامض من الذكرى) ثم قال: تخيل أن يُعتقل أكثر من 170 شخصًا بتهمة العمالة، بعضهم قيادات صف أول، لم يكن الأمر سهلًا، ثم لاحقًا يتبين أن ثمة مكيدة أو خطأ جرى داخل مسار التحقيق من البداية، لقد كانت فترة قاسية وشديدة الصعوبة، بل دعني أقل ربما كانت هذه أصعب محنة مررنا بها."
فضائل المأسسةعملنا بجدّ على مأسسة أنفسنا، كنا نقرأ ما يحدث معنا، نتعلم من أخطائنا، من خصومنا، لكن كنا نفتقر إلى قوة التنظيم.
كانت الألوية تقاتل بدون فكر عملياتي، وأحيانا تنسحب بعض الكوادر من القتال إذا سقطت قُراهم، مشروع التحرير كان يشغل الشيخ لذا أردنا إعادة بناء كل شيء على أسس متينة، بدأنا بتوحيد القوات العسكرية عبر إطلاق برامج جديدة للتدريب بعقيدة قتالية موحّدة لكل القوات، وأنشأنا غرفة عمليات "الفتح المبين"، التي ساهمت في التنسيق العسكري بين الفصائل (من بينها أحرار الشام وفيلق الشام)، كما أسسنا أكاديمية عسكرية عملت على رفع الجنود إلى مصاف المقاتلين النظاميين القادرين على تشكيل نواة لعمل جاد وحقيقي.
الوكالة العربية السورية للأنباء – سانا
كما أدخلنا العديد من التخصصات مثل: قوات النخبة "العصائب الحمراء"، ووحدات القتال الليلي التي جاءت استجابة لتحدي قتال النظام ليلًا عام 2019 مما أفقدنا الكثير من المناطق.
طورّنا مشروع مسيّرات شاهين، التي شكلّت رعبًا حقيقيًّا لقوات النظام حين بدأت عملية ردع العدوان، في حين كثفت أجهزة استخباراتنا عملها في جمع معلومات عن العدو.
إعلانوحين حانت الظروف المناسبة للانقضاض على النظام كان الشيخ موجودًا ليقرر ذلك، ودعني أخبرك أن هذه إحدى أهم فضائله، الجرأة في موضعها، كان يمكن أن يفشل الهجوم، أن يحدث شيء آخر غير ما حدث، لم نكن على يقين من نجاح العملية لذلك أسميناها "ردع العدوان"، ولم يكن مداها في أكثر العقول خيالًا يتجاوز حلب، لكن الله وحده هو الذي منّ علينا بهذا الفتح.
(فات الرجل أن يقول إن فتح الجبهات كان أحد المطالب الأساسية التي رفعها "الحراك" الذي خرج ضد حكم الجولاني في إدلب قبل العملية بوقت قصيرة، وهو ما يعني أن المزاج الثوري والشعبي كان قد وصل لحالة من الغليان جعلت قرار المواجهة حتميًّا، وإن كانت كتابة التاريخ تخفي اليوم دور الفصائل والكتل والأفراد وتحصرها في قصة شخص)
ودّعت الرجل بعد مقابلة استمرت أربع ساعات ولم يعرف كلانا بأي انطباع خرج الآخر، نظر إليّ محاولًا الاستكشاف، وقال:
"القادمون من الخارج، يأتون على هيئة رجلين: الأول يريد أن يعرف هل تغيرنا حقًّا أم ما زلنا "وحوشًا" ليرفع تقارير للغربيين والجهات المانحة، والثاني يريد أن يعرف لأي درجة تغيرنا كي يعود إلى أمتنا ويطمئنها أننا لسنا خونة؟!".