الخير والشر وانعدام اليقين في اقتصاد ترامب
تاريخ النشر: 7th, January 2025 GMT
تُـرى ما هو حجم الأثر الذي قد تخلفه الإدارة الأمريكية القادمة على النمو الاقتصادي والتضخم؟ الإجابة ليست واضحة حتى الآن. ففي حين قد تعمل بعض سياسات الرئيس المنتخب دونالد ترامب المقترحة على تعزيز النمو وخفض التضخم بمرور الوقت، فإن بعضها الآخر سيكون له تأثير معاكس.
على الجانب الإيجابي من الـسِـجِـل، سيكون ترامب مُـناصِرا للأعمال التجارية في عموم الأمر، وهذه الحقيقة وحدها من الممكن أن تحفز النشاط الاقتصادي من خلال إطلاق العنان «للغرائز الحيوانية» التي تدفع الاستثمار في الأعمال التجارية والإبداع والنمو.
على نحو مماثل، سيؤدي فرض قيود صارمة على الهجرة -ناهيك عن الترحيل الجماعي- إلى تقويض النمو وزيادة التضخم بدرجة أكبر من خلال زيادة تكاليف العمالة وزيادة خطر نقص العمالة في قطاعات رئيسية. علاوة على ذلك، إذا جُـعِـلَـت التخفيضات الضريبية دائمة ونُـفِّـذَت وعود مالية أخرى دون إيجاد طرق لتغطية تكاليفها، فقد يزيد الدين العام بنحو 8 تريليونات دولار على مدى العقد المقبل. وهذا أيضا من شأنه أن يغذي التضخم، الذي سيزيد بدوره من أسعار الفائدة الطويلة الأجل ويزاحم الاستثمار في المستقبل، على نحو يقوض النمو.
كما قد تؤدي أي محاولة غير منظمة لتعزيز القدرة التنافسية المحلية من خلال إضعاف الدولار إلى ارتفاع التضخم وزعزعة أركان الأسواق المالية. وأي جهد حقيقي أو من قبيل التهديد لتحدي استقلالية الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من شأنه أن يزيد من التضخم المتوقع والفعلي. والتأثير المترتب على العوامل الجيوسياسية غير مؤكد على نحو مماثل. فقد ينجح ترامب في احتواء وتقليص بعض المخاطر الجيوسياسية التي تؤثر على الاقتصادات والأسواق -مثل الحرب الروسية الأوكرانية وصراعات الشرق الأوسط- لكنه قد يتسبب أيضا في إشعال شرارة حرب اقتصادية أوسع نطاقا مع الصين والتي قد تؤدي إلى مزيد من تشرذم الاقتصاد العالمي. وعلى هذا فإن التأثيرات التي قد تخلفها إدارة ترامب على النمو والتضخم ستعتمد على التوازن النسبي بين السياسات الإيجابية والسلبية. ما يدعو إلى التفاؤل أن عوامل عديدة قد تتعارض مع مقترحات ترامب الأشد ضررا. يتمثل العامل الأول، وربما الأكثر أهمية، في انضباط السوق: فالسياسات التي تزيد من التضخم والعجز ستستفز «حراس» سوق السندات، وترفع أسعار الفائدة الاسمية والحقيقية (المعدلة حسب التضخم) الطويلة الأجل، وربما تتسبب في تصحيح سوق الأسهم (انخفاضا بنسبة 10% على الأقل). وبما أن ترامب ينظر إلى سوق الأسهم كمقياس للأداء الرئاسي، فإن هذه الإشارة وحدها قد تُـحـبِط أكثر أفكاره حماسة.
علاوة على ذلك، بما أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لا يزال مستقلا، فيكاد يكون من المؤكد أنه سيقلص أو يوقف تخفيضات أسعار الفائدة إذا بدأ التضخم يرتفع مرة أخرى. ينبغي أن يشكل مجرد احتمال حدوث هذه النتيجة قيدا إضافيا على عملية صنع السياسات الرديئة، وكذا ينبغي أن يكون تأثير مرشحي ترامب لشغل مناصب عليا في إدارة السياسة الاقتصادية، والذين يفهمون الاقتصاد والأسواق بشكل عام. أخيرا، تَـعني الأغلبية الجمهورية الضئيلة في مجلس النواب أن ترامب لا يمكنه أن يعتمد بالضرورة على دعم حزبه الكامل لجميع سياساته، وخاصة تلك التي من شأنها أن تضيف بدرجة كبيرة إلى الدين العام. هذه كلها حواجز حماية مهمة. وإذا قصرنا توقعاتنا على عام 2025، فإن التأثير الصافي المترتب على أجندة ترامب الاقتصادية قد يكون مدمرا للنمو، وإن كان من المرجح أن تتباطأ وتيرة عودة الاقتصاد إلى هدف التضخم الذي حدده الاحتياطي الفيدرالي بنسبة 2%. وقد يظل النمو أعلى من الإمكانات -نظرا للرياح الخلفية القوية- لكنه سيكون أقل مما كان عليه في عام 2024. ما دام في الإمكان احتواء سياسات ترامب الأكثر تطرفا -وفي حال عدم حدوث بعض التطورات غير المتوقعة، مثل صدمة جيوسياسية- فيجب أن يكون العام الجديد حميدا نسبيا بالنسبة للاقتصاد الأمريكي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المليارات السبعة التي أهدرناها لقصف بلد لا نعرف موقعه على الخريطة
ترجمة: أحمد شافعي -
أدت فضيحة سيجنال إلى صيحات غضب عارم من الطريقة التي تبادل بها المسؤولون في إدارة ترامب رسائل نصية غير مؤمَّنة عن الضربات العسكرية لليمن. ولكن من ينقب أكثر يجد فضيحة أكبر.
هي فضيحة سياسة فاشلة تقوي «عدوا» للولايات المتحدة، وتضعف أمننا وسوف تكبدنا وفاة آلاف الأنفس. وهي فضيحة تلوث أيضًا الرئيس جو بايدن لكنها تبلغ حضيضها في ظل حكم الرئيس ترامب.
يرجع الأمر كله إلى هجمة حماس على إسرائيل في أكتوبر من عام 2023، ورد إسرائيل الهمجي بتسوية أحياء كاملة من غزة بالأرض. إذ سعى نظام الحوثيين في اليمن إلى الظفر بدعم إقليمي من خلال مهاجمة سفن يفترض أنها موالية لإسرائيل حال مرورها على مقربة منه في البحر الأحمر. (وواقع الأمر أنهم ضربوا شتى السفن).
والمشكلات في العلاقات الدولية أكثر من الحلول، وقد كان هذا مثالا كلاسكيا: فقد كان نظام الحكم في اليمن يعوق التجارة الدولية، ولم يكن من سبيل يسير لإصلاح ذلك الأمر. فكان أن رد بايدن بعام كامل من الضربات لليمن استهدفت الحوثيين بتكلفة مليارات الدولارات لكن دونما تحقيق أي شيء واضح.
وبعد توليه السلطة، زاد ترامب من الضغط المفروض على اليمن. إذ قلل المساعدات الإنسانية في العالم كله، وتضرر اليمن بصفة خاصة. ولقد كانت آخر زيارة لي إلى اليمن في عام 2018، حين كان بعض الأطفال بالفعل يموتون جوعا، والآن بات الحال أسوأ: فنصف أطفال اليمن دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية - و«هذه إحصائية لا مثيل لها في العالم» بحسب اليونيسيف - وجاء تقليص المساعدات فأرغم ألفي برنامج تغذية على إغلاق أنشطتها وفقًا لتصريح توم فليشر منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة. وقد ألغت الولايات المتحدة شحنة معجون فول سوداني كان يفترض أن تنقذ حياة نصف مليون طفل يمني.
ستكون الفتيات أكثر عرضة للوفاة، لأن الثقافة اليمنية تحابي الذكور. فقد أجريت ذات يوم حوارا مع فتاة اسمها نجود علي تزوجت رغم أنفها وهي في العاشرة. ويجري الآن أيضا تقليص برامج المساعدات الرامية إلى تمكين الفتيات اليمنيات بتقليل زواج الأطفال.
أشك أن إيلون ماسك - الذي تباهى بوضع برامج مساعدات التغذية في الطاحونة - سيقول إننا لا نقدر على مساعدة فتيات صغيرات في اليمن. فهو أغنى رجل في العالم، فقد تكون لديه دراية خاصة بالاستعمال الأمثل لمليون دولار يمثل التكلفة اليومية لستة أسابيع من معجون الفول السوداني الكفيل بإنقاذ حياة طفل جائع.
في الوقت نفسه، فإن الأموال الحقيقية التي تنفقها أمريكا في اليمن هي أموال القنابل، لكن فريق ماسك في إدارة الكفاءة الحكومية بما لديهم من مطاحن للتكاليف بدوا غافلين عن هذه التكلفة. وفي حين وفرت الولايات المتحدة مبالغ بسيطة من خلال السماح بجوع الفتيات الصغيرات، فقد صعدت حملة بايدن القصف في اليمن، بضرب أهداف على نحو شبه يومي. فكانت تكلفة الشهر الأول فقط من حملة ترامب للقصف أكثر من مليار دولار من الأسلحة والذخائر.
أسقط الحوثيون في ستة أسابيع فقط سبع مسيرات من طراز (MQ-9 Reaper) تكلفة الواحدة منها ثلاثون مليون دولار، وخسرت الولايات المتحدة طائرتين مقاتلتين من طراز (F/A-18 Super Hornet) بتكلفة سبعة وستين مليون دولار للواحدة.
يطرح مركز أبحاث «أولويات الدفاع» بواشنطن تقديرا مقنعا مفاده أن الولايات المتحدة أنفقت من خلال بايدن وترامب أكثر من سبعة مليارات دولار لقصف اليمن على مدى أكثر قليلا من عامين. ويبدو أن أغلب هذا الرقم قد تم إنفاقه بإشراف بايدن.
وافقت ليندا بيلمز -خبيرة تكاليف الصراع العسكري في جامعة هارفرد- على أن سبعة مليارات دولار تمثل تقديرا منطقيا بعد إدراج تكلفة نشر حاملات الطائرات وأجور القتال، وعوامل أخرى. وقالت: إن «إنفاق الولايات المتحدة لا يكافئ إنفاق الحوثيين، فنحن ننفق مليون دولار على الصواريخ للرد على مسيّرات الحوثيين إيرانية الصنع التي تتراوح تكلفتها بين مائتي دولار وخمسمائة».
ما الذي حققته مليارات الدولارات السبعة؟ قلل القصف الأمريكي من قدرات الحوثيين بدرجة ما وقتلت أيضا ما لا يقل عن مائتين وستة من المدنيين في شهر أبريل وحده وفقًا لـ(مشروع بيانات اليمن) غير الربحي. كما قللت حملة القصف أيضا من قدرة أمريكا العسكرية من خلال استهلاك ذخائر ثمينة. وعل مدى أكثر قليلا من عامين، يبدو أن الحوثيين قد أسقطوا نحو 7% من مخزون أمريكا الكامل من مسيّرات (MQ-9 Reaper).
لقد أعلن ترامب في مارس أن حملة القصف هذه سوف تؤدي إلى «إبادة كاملة» للحوثيين. لكنه تراجع في الشهر الحالي، وأعلن «توقفا» للعمليات الهجومية. وحفظ ماء وجهه بوعد من الحوثيين بعدم استهداف السفن الأمريكية، ولكن تلك لم تكن المشكلة الأساسية، فالغالبية الكاسحة من السفن التي تعبر البحر الأحمر ليست أمريكية. والنتيجة أن الحوثيين - الذين أتفهم شعورهم بالنصر - قد أعلنوا النصر من خلال هاشتاج «اليمن تهزم أمريكا [Yemen defeats America].
بالنظر إلى الأمر بأثر رجعي، نرى أن ترامب صعّد سياسة بايدن الفاشلة، لكنه أظهر أيضا مقدرة أكبر من بايدن على تصحيح أخطائه.
ما الذي يمكن أن يفعله ترامب لإيقاف هجمات الحوثيين على السفن؟ الخطوة الواضحة هي الضغط على إسرائيل بدرجة أكبر لقبول صفقة تيسر رجوع الرهائن جميعا وتحقيق هدنة دائمة في غزة.
في الوقت نفسه، لم يستأنف ترامب المساعدة الإنسانية، ولذلك يموت أطفال اليمن جوعا.
أخبرتني ميشيل نان ـ رئيس منظمة كير CARE - أن تقليل المساعدات الأمريكية تعني ألا تستطيع منظمتها الاستمرار في مساعدة أكثر من سبعمائة وثلاثين ألف يمني في الحصول على المياه النظيفة وعلى خدمات أخرى. وحكت لي عن فتاة عمرها عامان، تدعى مريم، وصلت إلى عيادة متنقلة ووزنها لا يتجاوز أحد عشر رطلا وتشارف على الموت بسبب سوء التغذية. استطاع مسؤولو الصحة في كير أن ينعشوا مريم، فبدأت تتعافى، ثم أوقفت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية البرنامج. ولا يعرف عمال المساعدة الآن إن كانت مريم قد نجت.
إنني أتفهم الشك الأمريكي في تقديم المساعدة الإنسانية لأطفال اليمن، إذ يدير الحوثيون دولة بوليسية مدعومة من إيران لها تاريخ في تسليح المساعدات. غير أن حملتنا القائمة على القصف والتجويع قد تقوي الحوثيين، وتجعل نظامهم الحاكم قليل الشعبية أشبه بحامي حمى الأمة ويزيدهم قربا من إيران.
قال لي جريجوري دي جونسن خبير شؤون اليمن في معهد دول الخليج الغربي إن «تقليل المساعدات الإنسانية لليمن لا يرجح أن تفيد أحدا عدا الحوثيين، فمع تفاقم الوضع الإنساني المزري أصلا بسبب قطع المساعدات، لن يكون للأسر المقيمة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين إلا أن تقف في صف الجماعة سعيًا يائسًا منها إلى النجاة».
والخلاصة حسبما قال جونسن: هي أن الحوثيين سوف «يزيدون ترسيخ وجودهم في السلطة، بما يزيد من صعوبة اقتلاعهم منها لاحقا». واليمن لم يطرح لنا قط خيارات جيدة. ولكن في خياراتنا السيئة على نحو غير معهود أرى حكاية تحذيرية عن النتائج المترتبة على تكاليف السياسة الخارجية المتخبطة: جوع، وصبية وفتيات يموتون، وإضعاف للأمن الأمريكي وانتصار لخصومنا، وكل ذلك بتكلفة سبعة مليارات دولار من ضرائبنا. وإذن، هذه فضيحة.
نيكولاس كريستوف يكتب في صفحة الرأي بنيويورك تايمز منذ عام 2001
خدمة نيويورك تايمز