أظهرت تقارير مصوّرة أنّ غالبية أبناء سوريا من الكرد والعرب ابتهجوا لتوقيع اتفاق بين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقائد «قوات سوريا الديمقراطية ـ قسد» مظلوم عبدي، وللبهجة موجبات شتى بعيدة المدى يتوجب أن تعالج بعض (والأرجح: ليس كامل) جوانب المسألة الكردية في البلاد؛ وأخرى قريبة الأثر والجدوى، لجهة توقيت يأتي في أتون محاولة انقلاب قادها ما تبقى من فلول نظام «الحركة التصحيحية» وما يواصل البقاء من أفراد فصائليين وجهاديين توّاقين إلى تسعير ثارات طائفية عمياء، وما يقترن بهذَين الفريقين من نزوعات تعطش إلى إراقة الدماء والمجازر الوحشية.



ثمة إلى هذا، وتماشياً مع منطق سياسي أو انتهازي أو مصلحي أو قوموي أو عصبوي، فئات من الكرد والعرب (أقلية، حتى الساعة على الأقلّ) لم تبتهج بالاتفاق؛ لموجبات شتى بدورها، قد يبدأ بعضها من حسن النوايا والتشبث بما مثّلته تجربة «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ـ روج آفا» من معطيات جرى ترقيتها إلى سوية القيم العليا في الحكم والتعبير الديمقراطي لدى فئات «قسد» أو على العكس كانت حاضنة تسلط وتطهير إثني وانتهاكات حقوقية ونهب ثروات في ناظر شرائح من عرب المنطقة. بعض تلك الموجبات لا يعفّ القائلون بها عن التمترس خلف أوهام هذه أو تلك من درجات الاستقلال والفدرالية أو حتى صيغة غائمة هلامية من دويلة كردية لدى الكرد أوّلاً، مقابل التمسك بالهوية العربية أو التعددية الإثنية (في صفوف الأرمن والسريان والآشوريين، مثلاً) لدى فئات أخرى عربية أو غير كردية. ولا يصحّ، في كلّ حال، إغفال فئة رافضة على الجانبين وبمعزل عن الملابسات القومية أو الإثنية، لأنها إنما تولت شبكات فساد مالي واسعة، على امتداد مناطق «قسد».

في إطار هذا التشخيص، ومن دون انتفاء تشخيصات أخرى تأخذ ببعض هذه العناصر أو تستبعد بعضها الآخر أو تضيف إليها؛ في الوسع السجال بأنّ البنود 4 و5 و6 و7 من نصّ الاتفاق بين الشرع وعبدي ذات طبيعة إجرائية، وهي على أهميتها أقرب إلى تحصيل حاصل. ذلك لأنها تتناول دمج المؤسسات المدنية والعسكرية والمعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز؛ وتضمن عودة المهجرين إلى بلداتهم وقراهم، وتُلزم الدولة بحمايتهم؛ ومن باب الاستطراد، الهامّ مع ذلك، تضمّ «قسد» إلى جبهة السلطة الراهنة في مكافحة فلول الأسد؛ كما تشدد على رفض «دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بثّ الفتنة بين كافة مكونات المجتمع السوري».

ليس من كبير جدال، أغلب الظنّ، في أنّ البند الأوّل (الذي يضمن «حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة بناء على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية») لا يخصّ المواطنين السوريين الكرد وحدهم، بل يشمل جميع أبناء سوريا.

وأنه، تالياً، لا يُرضي «قسد» بصفتها التنظيمية التي تزعم التعددية الإثنية في صفوفها، فحسب؛ بل يُراضي حلفاءها السوريين، بعضهم أو جلّهم، ضمن توافق مضمَر على «حقوق» جبهات «روج آفا» السياسية والعسكرية المتعددة. صحيح، بالطبع، أنّ هذا البند، وبالأحرى نصّ الاتفاق كله، لا يقارب ارتباط «قسد» الوثيق مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي (وهذا أحد العقابيل الكبرى المنتظَرة خلال أشهر التطبيق الفعلي، حتى نهاية العام الجاري 2025)؛ إلا أنّ وصول عبدي إلى دمشق على متن طائرة أمريكية، كما تردد، يجبّ قسطاً غير قليل من تغييب المقاربة تلك.

البند الأوّل (الذي يضمن «حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة بناء على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية») لا يخصّ المواطنين السوريين الكرد وحدهم، بل يشمل جميع أبناء سوريا
يبقى البند الثاني، وهو في تقدير هذه السطور الأهمّ من حيث ملاقاة حقوق الكرد ومظالمهم في ظلّ ما تعلنه إدارة الشرع من عزم على المواطنة المتساوية ودولة القانون، خاصة في ميادين دستورية جوهرية تتجاوز (بكثير، كما يِؤمل) الصيغة الرائجة حول إنصاف المكوّنات/ الأقليات. وهو، أيضاً، البند الأخطر في الجانب التطبيقي لأنه يفتح، على مصاريعها كافة، بوّابات المسألة الكردية في سوريا وإشكالياتها ومصاعب معالجة ملفاتها المعقدة؛ هذه التي قامت تاريخياً، ولعلها تظلّ قائمة اليوم في كثير أو قليل، على سرديتين متكرّرتين، متكاملتين على نحو جدلي، رغم تناقضهما في الشكل والمحتوى. في الأولى موجات متعاقبة من الاضطهاد الإثني والسياسي والثقافي، على يد أمم صغرى وأمم كبرى، إقليمية وكونية؛ وفي السردية الثانية، وقائع خيانة ذات طابع مزدوج، على يد الحلفاء أو الأصدقاء، وبأفعال قيادات سياسية كردية على مرّ تاريخ الكرد، والحديث منه خصوصاً.

على سبيل المثال، من حوليات حكم حزب البعث، في سنة 1963 كان الملازم محمد طلب هلال، الذي سيرتقي بعدئذ سلّم المناصب العليا سريعاً، قد رفع إلى قيادة الحزب دراسته الشهيرة التي اقترحت جملة إجراءات تستهدف «تذويب» الكرد في «البوتقة» العربية! تأسيساً على مقترحاته تلك، جرى تعريب أسماء عشرات القرى والبلدات الكردية، ومُنع الأكراد من تسجيل أطفالهم إذا اختاروا لهم أسماء كردية، كما مُنعوا من الطباعة باللغة الكردية، وسوى ذلك من الإجراءات التمييزية الفاضحة.
وفي مطلع السبعينيات، عهد الأسد الأب، أقام النظام حزاماً عربياً بطول 375 كم وعمق يتراوح بين 10 – 15 كلم، على طول الحدود السورية التركية؛ جرى بموجبه ترحيل 120 ألف مواطن كردي من 332 قرية، وإحلال سكان عرب محلّهم بعد بناء قرى نموذجية لهم.

وعلى امتداد 54 سنة من سلطة «الحركة التصحيحية» كان بديهياً أنّ الأحزاب والقوى السياسية الكردية في سوريا جزء لا يتجزأ من حركة الأحزاب والقوى السورية التي رفعت شعار تغيير جوهري ديمقراطي في حياة البلاد.

وكان بديهياً أيضاً أنّ بلوغ مرتبة أرقى في النضال من أجل تغيير نظام استبداد آل الأسد، سوف يشمل انتزاع المزيد من حقوق المواطن السوري، عربياً كان أم كردياً، بصرف النظر عن خلفيته الإثنية أو الدينية أو المذهبية.

ولم تكن غالبية القوى الكردية غافلة عن هذه البديهيات، بل كانت تعرفها وتؤمن بها، وعلى أساسها تواجدت ونشطت في قلب الحراك الديمقراطي السوري، على اختلاف أشكاله وأزمنته.

بذلك فإنّ البند الثاني مُلزَم بمقاربة ما تتركه، أو تركته لتوّها، سرديات انتقاص حقوق الكرد في سوريا، ثمّ معادلة «روج آفا» التي إذا كانت لا تقلّ تعقيداً، فإنّ احتساب مستقبلها حافل بمصاعب بالغة التجذّر، ومزالق مركّبة الاستحقاق والضرورة.

والأصل أنّ المعادلة تنهض على مرتكزات إيجابية خدمت سوريا جمعاء مثلما فعلت إزاء الكرد السوريين، وليست محاربة «داعش» ودحرها في مناطق عديدة سوى مظهر أوّل في هذا السجلّ؛ سوف يتفاعل، على نحو جدلي يقترن خلاله التمثيل السليم بالمصادرة القسرية، مع انتخابات خريف 2017، والتدابير الفدرالية المتعجلة والمصطنعة، وإشاعة مناخات «علمانية» وحقوقية بصدد مكانة المرأة بصفة ملحوظة، والتكريس (النظري، الشكلي، المتعجل هنا أيضاً) لمفهوم اللامركزية، وما إلى ذلك. السلبيات، في المقابل، لم تقتصر على علاقات ارتهانية لقيادات الـPKK في جبال قنديل فقط، بل جمعت التناقض الصارخ في التسليم لإدارة أمريكية تواصل تصنيف الـPKK كتنظيم إرهابي؛ ولم تتوقف عند أنساق استبداد صارخة، وممارسة التجنيد القسري، والتنكيل بمعارضين وصحافيين كرد وعرب، وتنصيب شخصيات عسكرية وسياسية تقود شبكات النهب والفساد.

وهكذا، لعلّ بعض نجاح، أو إخفاق، تنفيذ اتفاق الشرع ــ عبدي رهنٌ بما يتوجب الإبقاء عليه أو استبعاده من معادلة «روج آفا» التي عادت بمحاسنها وبمظانّها إلى خارطة اتحاد سوري مضطرد.
(القدس العربي)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا الشرع دمشق سوريا دمشق الشرع مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة صحافة رياضة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

الواقع القضائي في سوريا والتحديات التي تواجه عمل العدليات خلال اجتماع في وزارة العدل



الواقع القضائي في سوريا وزارة العدل 2025-07-30malekسابق مدير الشؤون السياسية بريف دمشق يلتقي ممثلين عن أبناء الطائفة الشيعية في حي السيدة زينب انظر ايضاً وزارة العدل تناقش واقع العدليات والعمل القضائي في سوريا- فيديو

دمشق-سانا ناقش وزير العدل السوري الدكتور مظهر الويس مع المحامين العامين ورؤساء العدليات في سوريا

آخر الأخبار 2025-07-29اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين يؤكد تمسكه بوحدة الصف بوجه دعاوى الانفصال عن الاتحاد 2025-07-29وزارة العدل تناقش واقع العدليات والعمل القضائي في سوريا- فيديو 2025-07-29أردوغان: إرهاب إسرائيل يقتل الشعب الفلسطيني بإجرام 2025-07-29تطوير برامج الدراسات العليا ضمن ورشة عمل في جامعة دمشق 2025-07-29بريطانيا: سنعترف بدولة فلسطين في أيلول المقبل 2025-07-29مباحثات سورية قطرية في الدوحة لتعزيز التعاون الرقابي 2025-07-2972 لاجئاً سورياً يعودون من لبنان ضمن برنامج الأمم المتحدة للعودة الطوعية 2025-07-29الصحة تبحث مع هيئة التخطيط والإحصاء سبل تعزيز التعاون المشترك 2025-07-29التربية السورية تستعد لإطلاق حملة إعلامية توعوية حول العودة إلى المدارس بالتعاون مع اليونيسيف 2025-07-2915 شركة محلية وعربية وأجنبية ترغب بالاستثمار في مجال الإسمنت في سوريا

صور من سورية منوعات اكتشاف بصمة يد عمرها 4 آلاف عام على أثر طيني مصري 2025-07-28 رجل صيني يثير جدلاً بتحويل سيارته إلى حوض أسماك متنقل 2025-07-28
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • صندوق قطر للتنمية: دعم الطاقة الكهربائية في سوريا يأتي استكمالاً لجهود دعم الأشقاء السوريين
  • ​عالم بـ الأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على «القايمة» آثم
  • الشيباني خلال لقائه لافروف بموسكو: سوريا تتطلع إلى إقامة علاقات سليمة مع روسيا.. لافروف: نعول على مشاركة الرئيس الشرع في القمة الروسية العربية بموسكو
  • ما هي الصدمة الثلاثية التي تعيق عودة السوريين إلى وطنهم؟
  • النائب العام في سوريا: تحريك دعوى الحق العام بحق مرتكبي انتهاكات ضد السوريين
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: الغاز الطبيعي الأذربيجاني سيؤدي دوراً استراتيجياً في رفع القدرات الإنتاجية من الكهرباء في سوريا بما يبشر بمزيد من الانتعاش الاقتصادي
  • ترامب: إسرائيل ترفض حصول حماس على المساعدات التي يتم توزيعها في غزة
  • 23 ألف لبناني هجروا من قراهم في سوريا وتوجّه عشائري لزيارة الشرع
  • الواقع القضائي في سوريا والتحديات التي تواجه عمل العدليات خلال اجتماع في وزارة العدل