من كان يصدّق أن يحدث ما حدث في غزة؟ ومن كان يتصور أن يصمت العالم أمام المجازر المفتوحة هناك من قصف عشوائي أوقع أكثر من ثمانية آلاف شهيد أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء؟ لم يعد لأحد الحجة في التذرع بأنه لا يعلم فالكل شاهد على الجريمة مشرقا ومغربا.
لا أظن أن الهمجية الغربية جديدة ولا أن توحش الاحتلال جديد ولا أن حقوق الإنسان والشرعية الدولية والقانون الدولي أكاذيبُ ومساحيق من أجل تجميل الوجه القبيح للنظام العالمي المتوحش.
غزة ومحور الممانعة
بنى هذا التشكيل السياسي المسلح كل تاريخه على فكرة مقاومة الاحتلال ونجح في إيهام الشارع العربي بأن فيلق القدس والمليشيات المسلحة في جنوب لبنان والعراق واليمن وسوريا إنما سُلّحت لأجل محاربة المحتل وتحرير الأرض. لكن الثورات العرية كانت الحدث الحاسم الذي كشف زيف هذه الشعارات بعد أن نجحت المليشيات المرتبطة بهذا المحور في تدمير مسارات الثورات وتخريبها وسط برك من الدماء والأشلاء خاصة في سوريا.
غزة اليوم تسقِط آخر أوراق التوت عن محور المشروع الإيراني الذي لم يكن في الحقيقة إلا مجموعات مسلحة من أجل مصادرة فكرة المقاومة وتحويلها إلى سلاح يفتك بالمقاومة الحقيقية نفسِها. سارعت إيران منذ البداية إلى إنكار علاقتها بهجوم المقاومة الساحق في غزة مع محاولتها الإبقاء على إيقاع الشعارات الرنانة عاليا كما جرت العادة في كل مناسبة مماثلة.
لكن على الجبهة المقابلة لم يتوقف قصف الطائرات الإيرانية والروسية ومدافع النظام الممانع في سوريا عن دك مدينة إدلب ومحيطها بالقنابل والصواريخ في مشهد تزامنت فيه عمليات الكيان الصهيوني في غزة مع جرائم مليشيات إيران في إدلب.
على جبهة موازية سارعت المليشيات التابعة لإيران في العراق واليمن والمنخرطة داخل محور المقاومة إلى رفع شعارات الاستهلاك الشعبي لرفع الحرج أمام جماهيرهم. كما قامت ببعض المناورات الاستعراضية ضد البوارج الأمريكية للتمويه على هروبهم من المشاركة في الدفاع عن الأرض المحتلة.
لم تتردد القوى الفلسطينية المقاومة في الدعوة الصريحة لميليشيات هذا المحور لكي تنخرط في مواجهة العدو بفتح جبهات جديدة لكنها لم تجد آذانا صاغية ولم يتحرك محور المقاومة كما تحرك بالأمس لقتل السوريين من أجل إنقاذ الأسد أو كما تحرك لوأد المقاومة العراقية عشية الغزو الأمريكي للعراق.
النظام الرسمي العربي والاحتلال
لا يشك عاقلان اليوم في أن النظام الرسمي العربي ممثلا في جامعة الدول العربية إنما هو الوكيل الإقليمي للنظام العالمي وأن كل وكيل يحاول الخروج عن النسق المرسوم له مهدد بفقدان عرشه. بل إننا لا نبالغ في القول بأن الحكومات العربية بما فيها الجيوش العربية نفسها إنما هي أدوات لحماية مصالح النظام العالمي ومنع الشعوب من النهضة والتحرر.
لكن ما زاد الأمر وضوحا هو الخروج العلني لرئيس حكومة الاحتلال نتنياهو ليصرح لأصدقائه من الحكام العرب بأن انتصار المقاومة سيكون هزيمة للكيان المحتل وهزيمة مماثلة للنظام العربي. يربط الناطق باسم الاحتلال هزيمته بهزيمة النظام العربي ويقصد به أساسا محور التطبيع الخليجي الذي أصابته حرب غزة الأخيرة في مقتل.
لا يشك عاقلان اليوم في أن النظام الرسمي العربي ممثلا في جامعة الدول العربية إنما هو الوكيل الإقليمي للنظام العالمي وأن كل وكيل يحاول الخروج عن النسق المرسوم له مهدد بفقدان عرشه. بل إننا لا نبالغ في القول بأن الحكومات العربية بما فيها الجيوش العربية نفسها إنما هي أدوات لحماية مصالح النظام العالمي ومنع الشعوب من النهضة والتحرر.إن شعور النظام العربي بهذا التهديد الوجودي هو الذي يفسر قمع المظاهرات المتضامنة مع فلسطين ومنعها في دول عربية كثيرة وهو يفسر أيضا حجم المساعدات العسكرية التي تتدفق على دولة الكيان من دول عربية بحسب وسائل إعلام، وإغلاق معبر رفح في وجه المساعدات من قبل النظام المصري.
صرح أكثر من مسؤول غربي بأن القادة العرب قد طالبوه بسحق المقاومة في غزة سحقا وهو نفس ما أسرّ به رئيس سلطة أوسلو لقيادات الاحتلال. إنّ هذه الكيانات الوظيفية إنما هي في الحقيقة الحزام الخارجي الذي يحمي الكيان المحتل.
الوعي العربي الجديد
إن الوعي بهذه المعطيات الجديدة فيما يخص محور "الممانعة والمقاومة" وتحالف النظام الرسمي العربي مع المشروع الصهيوني يشكل أكبر المكاسب الجماعية لصالح الوعي الشعبي بعد حرب الإبادة التي تجري في الأرض المحتلة.
لقد برهنت الشعوب عن عجز حركي وعن سكون مفزع مريع بسبب فشلها في تحقيق ردّة فعل تناسب حجم الجرائم التي ترتكب في فلسطين وهو عجز ناجم عن سطوة الاستبداد من جهة وجهل بطبيعة المعركة الوجودية من جهة ثانية. هذا الجهل ناتج بدوره عن عقود من التجهيل والتخدير والتجريف الإعلامي الذي أفرز أجيالا فاقدة للبوصلة مغيّبة عن كل فصول المعارك الحقيقية.
لكن الوعي الجديد الذي انطلق مع ثورات الربيع وصولا إلى ملحمة غزة اليوم سيكون هاما لصالح الأجيال القادمة لأنه سيؤسس إلى إدراك ملموس لطبيعة التهديد الوجودي الذي يمثله الاحتلال وهو تهديد لا يقتصر على غزة ولا على فلسطين وحدها بل يشمل الوجود العربي الإسلامي في مجمله.
إن إدراك اكذوبة المقاومة والممانعة التي رفعت شعارها الأذرع القومية العربية منذ بدايات القرن الماضي إلى جانب الوعي بتحالف النظام الرسمي العربي مع المحتل الصهيوني يمثلان اليوم خطوتين في الاتجاه الصحيح. هذا الاتجاه هو الذي سيصوغ ردود أفعال الأجيال القادمة تجاه الاستبداد باعتباره حليف الاحتلال من جهة أولى وتجاه محور المقاومة والممانعة باعتباره شريكا في جرائم الاحتلال.
إن أخطر ما يخشاه الاحتلال وما يرتعب منه النظام الدولي هو أن تُجدّد المقاومة في غزة وعيَ الشعوب بطبيعة المعركة باعتبارها معركة وجودية وبأن المقاومة قادرة على هزيمة الجيش الذي لا يهزم بأبسط الأسلحة. هذا الخوف هو الذي يفسر حالة السعار الإعلامي المهيمنة على الخطاب السياسي والإعلامي الغربي وهو الذي يشرح أسباب كل هذه الجيوش المجيشة وكل هذا القتل والقصف العشوائي الموجّه نحو قطعة أرض صغيرة في المشرق العربي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الاحتلال الفلسطينية احتلال فلسطين غزة عدوان رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة محور المقاومة هو الذی فی غزة
إقرأ أيضاً:
هُزم جدعون وانتصر داود بإرادته: فشل عربات الاحتلال وبزوغ نصر غزة
في قلب المعركة المستعرة على أرض غزة، وبين الركام والدمار، سقطت أقنعة القوة الإسرائيلية وانكشفت هشاشة منظومتها العسكرية، حين فشلت عملية "عربات جدعون" فشلا ذريعا أمام ثبات المقاومة الفلسطينية، في ملحمة تُعيد إلى الأذهان صورة داود الذي انتصر بمقلاعه على جالوت. ولعل في هذا الفشل المتكرر والارتباك الإسرائيلي المتصاعد، بدايات تشكل نصر فلسطيني أكبر، تتجاوز نتائجه الميدان، لتصل إلى معادلات الردع والسيادة والإرادة.
أولا: انهيار خرافة "جدعون"
لم تكن عملية "عربات جدعون" مجرد اجتياح عسكري محدود، بل كانت ترجمة لمشروع سياسي-أمني إسرائيلي كبير، يهدف إلى فرض معادلة جديدة في ملف الأسرى. أرادت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من خلالها قلب الطاولة على حماس، وكسر إرادتها عبر الضغط العسكري المتواصل، واقتحام المخيمات الوسطى حيث يُعتقد أن الأسرى الإسرائيليين محتجزون هناك، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق.
فبعد أسابيع من القصف، وتوغلات محدودة، وخسائر بشرية ومادية لم تعلن عنها إسرائيل كاملة، انتهت العملية دون أن تحقق أيا من أهدافها، بل وأعادت الجدل الإسرائيلي الداخلي حول جدوى العمليات العسكرية، في ظل تعقيد المشهد السياسي وغياب الرؤية الاستراتيجية.
بعد أسابيع من القصف، وتوغلات محدودة، وخسائر بشرية ومادية لم تعلن عنها إسرائيل كاملة، انتهت العملية دون أن تحقق أيا من أهدافها، بل وأعادت الجدل الإسرائيلي الداخلي حول جدوى العمليات العسكرية، في ظل تعقيد المشهد السياسي وغياب الرؤية الاستراتيجية
ثانيا: مقاومة تتحدى جالوت العصري
غزة المحاصرة، المكلومة، المدمرة، لم تسقط، بل وقفت شامخة في وجه أعتى الآلات العسكرية في المنطقة. فمقاتلو المقاومة، الذين توزعوا في الأنفاق، والمخيمات، والأنقاض، لم يكتفوا بالصمود، بل أداروا معركة استنزاف ذكية، أفقدت الاحتلال توازنه، وجرّته إلى فشل سياسي وعسكري مزدوج.
لم تسفر العملية عن تحرير أي أسير إسرائيلي، ولم تُضعف حماس، ولم تُحقق الانفراجة السياسية التي سعى نتنياهو لتسويقها داخليا. بل على العكس، تعزز موقع المقاومة، وتكرست صورة الفشل الإسرائيلي في الرأي العام العالمي.
ثالثا: خيارات الاحتلال تتقلص وأزمته تتعمق
بحسب ما كشفته هيئة البث الإسرائيلية، فإن المؤسسة الأمنية تدرس الآن بدائل خطيرة تُوصف بـ"المتطرفة"، تشمل حصارا شاملا للتجمعات السكانية في غزة، ومنع دخول الغذاء والماء والمساعدات، لإجبار الفلسطينيين على النزوح جنوبا. لكن هذه الخطط، وفق اعتراف المصادر نفسها، ما تزال "حبرا على ورق"، وغير قابلة للتطبيق الفوري في ظل صمود المدنيين والمقاومة، وخشية إسرائيل من ردود الفعل الدولية.
البدائل الأخرى لا تقل كارثية: احتلال كامل للقطاع، أو تقسيم غزة، أو حكم عسكري مباشر. لكنها جميعا تحمل في طياتها فشلا استراتيجيا مستترا، وتدلل على ارتباك غير مسبوق في منظومة القرار الإسرائيلي.
رابعا: الجيش الإسرائيلي في مرآة الهزيمة
في جلسة المجلس الوزاري المصغر، كان رئيس الأركان إيال زامير صريحا عندما قال إن أهداف الحرب باتت متضاربة. وهو اعتراف علني بأن إسرائيل، رغم قوتها النارية والاستخباراتية، تعجز عن تحديد هدف نهائي قابل للتحقيق. لقد أصبحت آلة الحرب تائهة، تدور في فراغ استراتيجي، وتتآكل معنويا وسياسيا وعسكريا.
زامير أضاف أن توسيع العملية إلى المخيمات الوسطى ليس مضمونا، وأن على القيادة السياسية أن تعلن صراحة وجهتها إذا أرادت شيئا آخر. وهو تصريح يحمل بين سطوره لوما ضمنيا للمستوى السياسي الذي يدير حربا مفتوحة بلا رؤية.
خامسا: نتنياهو والخيارات المستحيلة
منذ عودة الفريق الإسرائيلي من قطر، لم تحقق المحادثات أي اختراق. ورغم محاولات الوساطة المستمرة، إلا أن إسرائيل، بلسان نتنياهو، تُصر على تحميل حماس المسؤولية، متجاهلة واقع الاحتلال المستمر، والحصار، والقتل الجماعي.
نتنياهو الذي يتخبط بين الداخل الملتهب، والضغط الدولي، والفضائح القضائية، يبدو أنه يبحث عن مخرج بأي ثمن، حتى وإن كان عبر صفقات إعلامية أو خطط عسكرية وهمية. لكنه يدرك، كما يدرك قادة جيشه، أن الزمن لم يعد في صالحهم.
سادسا: نحو معادلة ردع جديدة
حرب غزة الحالية، رغم ألمها، أسست لمعادلة ردع جديدة. فالمقاومة اليوم لم تعد محاصرة أخلاقيا أو عسكريا، بل أثبتت أنها قادرة على إدارة حرب طويلة النفس، وتحديد متى وكيف تُنهيها.
فشل "عربات جدعون" ليس مجرد نكسة عسكرية، بل هو إعلان بفشل سياسة الضغط المزدوج (العسكري والتجويعي) التي اعتمدتها إسرائيل، إنه تأكيد على أن غزة، رغم نزيفها، تملك زمام المبادرة، وتعيد تشكيل معادلات الإقليم بأكمله.
سابعا: العالم يُعيد النظر
إن صور الحشود العسكرية على حدود غزة، والتي نشرتها وكالات مثل رويترز والصحافة الفرنسية، لم تعد تُخيف العالم كما كانت. بل أصبحت تُثير أسئلة عن جدوى هذا العنف، ومغزاه، ومآلاته. أما مشاهد المجاعة، ونداءات الأطفال، وصمود المدنيين، فقد خلقت تعاطفا إنسانيا متصاعدا، وبدأت تُحرّك مياها راكدة في مواقف بعض الدول.
الحديث في الكواليس بدأ يتسع ليشمل ضرورة فرض تسوية شاملة، لا تستثني المقاومة، ولا تُعيد إنتاج معادلات أوسلو البالية. لقد بدأت غزة تفرض نفسها شريكا إجباريا في صناعة القرار
الحديث في الكواليس بدأ يتسع ليشمل ضرورة فرض تسوية شاملة، لا تستثني المقاومة، ولا تُعيد إنتاج معادلات أوسلو البالية. لقد بدأت غزة تفرض نفسها شريكا إجباريا في صناعة القرار.
ثامنا: النصر ليس ضربة واحدة بل تراكم إرادات
حين نهزم عدونا في ميدان الوعي، ويعترف بفشله، ونفرض عليه لغة الردع، فنحن نقترب من النصر. قد لا يكون نصرا تقليديا في صورة رفع أعلام على المباني، لكنه نصر أعمق، نصر إرادة، وثبات، واستنزاف طويل النفس.
"هُزم جدعون" ليس شعارا، بل واقع عسكري وسياسي ومعنوي. و"داود" الفلسطيني، لا يزال يقاوم بمقلاعه، يصنع معجزته بالصبر، ويقلب موازين الإقليم بحنكة وثبات.
خاتمة: بداية النهاية؟
في هذه اللحظة التاريخية، تتشكل ملامح تحول استراتيجي. لم تعد إسرائيل تلك القوة التي تُرعب، ولم تعد غزة مجرد ساحة للحصار. لقد انقلبت المعادلة، وباتت "عربات جدعون" رمزا لفشل مشروع الاحتلال في إخضاع الفلسطينيين.
ربما لا تزال الطريق طويلة، لكن خطواتها الأولى كُتبت اليوم، بإرادة من لا يملك إلا الإرادة، وبقوة من راهن عليه العالم أن ينكسر، فصمد.
لقد انتصر داود، لأنه لم يفقد ثقته بنفسه، وستنتصر غزة، لأنها لم تفقد إيمانها بحقها.