في قلب المعركة المستعرة على أرض غزة، وبين الركام والدمار، سقطت أقنعة القوة الإسرائيلية وانكشفت هشاشة منظومتها العسكرية، حين فشلت عملية "عربات جدعون" فشلا ذريعا أمام ثبات المقاومة الفلسطينية، في ملحمة تُعيد إلى الأذهان صورة داود الذي انتصر بمقلاعه على جالوت. ولعل في هذا الفشل المتكرر والارتباك الإسرائيلي المتصاعد، بدايات تشكل نصر فلسطيني أكبر، تتجاوز نتائجه الميدان، لتصل إلى معادلات الردع والسيادة والإرادة.



أولا: انهيار خرافة "جدعون"

لم تكن عملية "عربات جدعون" مجرد اجتياح عسكري محدود، بل كانت ترجمة لمشروع سياسي-أمني إسرائيلي كبير، يهدف إلى فرض معادلة جديدة في ملف الأسرى. أرادت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من خلالها قلب الطاولة على حماس، وكسر إرادتها عبر الضغط العسكري المتواصل، واقتحام المخيمات الوسطى حيث يُعتقد أن الأسرى الإسرائيليين محتجزون هناك، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق.

فبعد أسابيع من القصف، وتوغلات محدودة، وخسائر بشرية ومادية لم تعلن عنها إسرائيل كاملة، انتهت العملية دون أن تحقق أيا من أهدافها، بل وأعادت الجدل الإسرائيلي الداخلي حول جدوى العمليات العسكرية، في ظل تعقيد المشهد السياسي وغياب الرؤية الاستراتيجية.

بعد أسابيع من القصف، وتوغلات محدودة، وخسائر بشرية ومادية لم تعلن عنها إسرائيل كاملة، انتهت العملية دون أن تحقق أيا من أهدافها، بل وأعادت الجدل الإسرائيلي الداخلي حول جدوى العمليات العسكرية، في ظل تعقيد المشهد السياسي وغياب الرؤية الاستراتيجية
ثانيا: مقاومة تتحدى جالوت العصري

غزة المحاصرة، المكلومة، المدمرة، لم تسقط، بل وقفت شامخة في وجه أعتى الآلات العسكرية في المنطقة. فمقاتلو المقاومة، الذين توزعوا في الأنفاق، والمخيمات، والأنقاض، لم يكتفوا بالصمود، بل أداروا معركة استنزاف ذكية، أفقدت الاحتلال توازنه، وجرّته إلى فشل سياسي وعسكري مزدوج.

لم تسفر العملية عن تحرير أي أسير إسرائيلي، ولم تُضعف حماس، ولم تُحقق الانفراجة السياسية التي سعى نتنياهو لتسويقها داخليا. بل على العكس، تعزز موقع المقاومة، وتكرست صورة الفشل الإسرائيلي في الرأي العام العالمي.

ثالثا: خيارات الاحتلال تتقلص وأزمته تتعمق

بحسب ما كشفته هيئة البث الإسرائيلية، فإن المؤسسة الأمنية تدرس الآن بدائل خطيرة تُوصف بـ"المتطرفة"، تشمل حصارا شاملا للتجمعات السكانية في غزة، ومنع دخول الغذاء والماء والمساعدات، لإجبار الفلسطينيين على النزوح جنوبا. لكن هذه الخطط، وفق اعتراف المصادر نفسها، ما تزال "حبرا على ورق"، وغير قابلة للتطبيق الفوري في ظل صمود المدنيين والمقاومة، وخشية إسرائيل من ردود الفعل الدولية.

البدائل الأخرى لا تقل كارثية: احتلال كامل للقطاع، أو تقسيم غزة، أو حكم عسكري مباشر. لكنها جميعا تحمل في طياتها فشلا استراتيجيا مستترا، وتدلل على ارتباك غير مسبوق في منظومة القرار الإسرائيلي.

رابعا: الجيش الإسرائيلي في مرآة الهزيمة

في جلسة المجلس الوزاري المصغر، كان رئيس الأركان إيال زامير صريحا عندما قال إن أهداف الحرب باتت متضاربة. وهو اعتراف علني بأن إسرائيل، رغم قوتها النارية والاستخباراتية، تعجز عن تحديد هدف نهائي قابل للتحقيق. لقد أصبحت آلة الحرب تائهة، تدور في فراغ استراتيجي، وتتآكل معنويا وسياسيا وعسكريا.

زامير أضاف أن توسيع العملية إلى المخيمات الوسطى ليس مضمونا، وأن على القيادة السياسية أن تعلن صراحة وجهتها إذا أرادت شيئا آخر. وهو تصريح يحمل بين سطوره لوما ضمنيا للمستوى السياسي الذي يدير حربا مفتوحة بلا رؤية.

خامسا: نتنياهو والخيارات المستحيلة

منذ عودة الفريق الإسرائيلي من قطر، لم تحقق المحادثات أي اختراق. ورغم محاولات الوساطة المستمرة، إلا أن إسرائيل، بلسان نتنياهو، تُصر على تحميل حماس المسؤولية، متجاهلة واقع الاحتلال المستمر، والحصار، والقتل الجماعي.

نتنياهو الذي يتخبط بين الداخل الملتهب، والضغط الدولي، والفضائح القضائية، يبدو أنه يبحث عن مخرج بأي ثمن، حتى وإن كان عبر صفقات إعلامية أو خطط عسكرية وهمية. لكنه يدرك، كما يدرك قادة جيشه، أن الزمن لم يعد في صالحهم.

سادسا: نحو معادلة ردع جديدة

حرب غزة الحالية، رغم ألمها، أسست لمعادلة ردع جديدة. فالمقاومة اليوم لم تعد محاصرة أخلاقيا أو عسكريا، بل أثبتت أنها قادرة على إدارة حرب طويلة النفس، وتحديد متى وكيف تُنهيها.

فشل "عربات جدعون" ليس مجرد نكسة عسكرية، بل هو إعلان بفشل سياسة الضغط المزدوج (العسكري والتجويعي) التي اعتمدتها إسرائيل، إنه تأكيد على أن غزة، رغم نزيفها، تملك زمام المبادرة، وتعيد تشكيل معادلات الإقليم بأكمله.

سابعا: العالم يُعيد النظر

إن صور الحشود العسكرية على حدود غزة، والتي نشرتها وكالات مثل رويترز والصحافة الفرنسية، لم تعد تُخيف العالم كما كانت. بل أصبحت تُثير أسئلة عن جدوى هذا العنف، ومغزاه، ومآلاته. أما مشاهد المجاعة، ونداءات الأطفال، وصمود المدنيين، فقد خلقت تعاطفا إنسانيا متصاعدا، وبدأت تُحرّك مياها راكدة في مواقف بعض الدول.

الحديث في الكواليس بدأ يتسع ليشمل ضرورة فرض تسوية شاملة، لا تستثني المقاومة، ولا تُعيد إنتاج معادلات أوسلو البالية. لقد بدأت غزة تفرض نفسها شريكا إجباريا في صناعة القرار
الحديث في الكواليس بدأ يتسع ليشمل ضرورة فرض تسوية شاملة، لا تستثني المقاومة، ولا تُعيد إنتاج معادلات أوسلو البالية. لقد بدأت غزة تفرض نفسها شريكا إجباريا في صناعة القرار.

ثامنا: النصر ليس ضربة واحدة بل تراكم إرادات

حين نهزم عدونا في ميدان الوعي، ويعترف بفشله، ونفرض عليه لغة الردع، فنحن نقترب من النصر. قد لا يكون نصرا تقليديا في صورة رفع أعلام على المباني، لكنه نصر أعمق، نصر إرادة، وثبات، واستنزاف طويل النفس.

"هُزم جدعون" ليس شعارا، بل واقع عسكري وسياسي ومعنوي. و"داود" الفلسطيني، لا يزال يقاوم بمقلاعه، يصنع معجزته بالصبر، ويقلب موازين الإقليم بحنكة وثبات.

خاتمة: بداية النهاية؟

في هذه اللحظة التاريخية، تتشكل ملامح تحول استراتيجي. لم تعد إسرائيل تلك القوة التي تُرعب، ولم تعد غزة مجرد ساحة للحصار. لقد انقلبت المعادلة، وباتت "عربات جدعون" رمزا لفشل مشروع الاحتلال في إخضاع الفلسطينيين.

ربما لا تزال الطريق طويلة، لكن خطواتها الأولى كُتبت اليوم، بإرادة من لا يملك إلا الإرادة، وبقوة من راهن عليه العالم أن ينكسر، فصمد.

لقد انتصر داود، لأنه لم يفقد ثقته بنفسه، وستنتصر غزة، لأنها لم تفقد إيمانها بحقها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء غزة الإسرائيلية عربات جدعون المقاومة إسرائيل مقاومة غزة عربات جدعون حجارة داود قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عربات جدعون لم تعد

إقرأ أيضاً:

ماذا تملك المقاومة في غزة اليوم لردع الاحتلال؟

منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، لم يتوقف الصراع بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بل انتقل إلى مرحلة مختلفة تُدار فيها المواجهة عبر أدوات متعددة، عسكرية وأمنية وإنسانية وسياسية.

ولا تتسم هذه المرحلة بصخب الحرب المفتوحة، لكنها تحمل ملامح صراع منخفض الوتيرة، يقوم على تثبيت قواعد اشتباك جديدة، وإعادة توزيع السيطرة، واستخدام الضغط غير القتالي كوسيلة تأثير رئيسية.

وتُظهر المعطيات الميدانية والسياسات المعلنة للطرفين أن ما بعد وقف إطلاق النار لا يمكن توصيفه كمرحلة استقرار، بقدر ما هو إعادة تموضع مؤقتة تُدار فيها المواجهة عبر "ردع متعدد المستويات"، تتحكم فيه اعتبارات السيطرة الجغرافية، والاختراق الاستخباري، وتدفق المساعدات، وإعادة الإعمار، وإدارة البيئة الداخلية في قطاع يعاني من دمار واسع ونزوح غير مسبوق.

يرصد هذا التقرير أبرز ملامح معادلة الردع التي تشكّلت بعد الحرب، استنادا إلى الوقائع الميدانية، والتحركات الأمنية، والبيانات السياسية والحقوقية.

مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار توصف بأنها مرحلة إعادة تموضع مؤقتة تُدار فيها المواجهة عبر "ردع متعدد المستويات" (الفرنسية)أولا: السياسة الإسرائيلية للردع بعد وقف إطلاق النار اعتماد نموذج "الرد الفوري"

اعتمدت إسرائيل عقب وقف إطلاق النار سياسة أمنية تقوم على الاستجابة السريعة والمحدودة لأي تحرك تعتبره تهديدا لقواتها أو لمناطق انتشارها داخل قطاع غزة.

وشملت هذه السياسة تنفيذ عمليات استهداف متكررة ضد أهداف ومجموعات فلسطينية، زعم الاحتلال أنها كانت تحاول تنفيذ كمائن أو عمليات إطلاق نيران أو الاقتراب من مناطق عسكرية محظورة، في حين أكدت المقاومة أن جيش الاحتلال كان يتذرع بهذه الحجج لمواصلة عدوانه على المواطنين في القطاع.

وتشير البيانات العسكرية الإسرائيلية إلى أن هذا السلوك يُعد جزءا من "تثبيت الهدوء بالقوة"، وهو نهج يهدف إلى منع الفصائل الفلسطينية المسلحة من إعادة اختبار حدود الردع أو التمركز قرب المواقع التي تتمركز فيها القوات الإسرائيلية.

إعلان

وأسفرت هذه العمليات، وفق إحصاءات طبية فلسطينية، عن استشهاد مدنيين في عدة مناطق تشهد وجودا عسكريا إسرائيليا متواصلا، ويعكس هذا النهج استمرار الخروقات الإسرائيلية رغم وقف النار، ضمن حدود لا تُفضي إلى تفجير مواجهة شاملة من جديد.

دخان يتصاعد من مخيم النصيرات بعد الغارات الإسرائيلية في 2 ديسمبر/كانون الأول 2025 (الفرنسية) سياسة منع حماس من استعادة قدراتها

تُعدّ مسألة منع إعادة بناء القدرات العسكرية لحركة حماس أحد أبرز محاور السياسة الإسرائيلية بعد الحرب، وتشير بيانات جيش الاحتلال إلى استمرار عمليات الاغتيال والاستهداف ضد عناصر تقول إسرائيل إنهم ينتمون إلى أجنحة عسكرية أو يشاركون في أنشطة ميدانية.

ووفق مصادر فلسطينية محلية، رصدت الحركة تحركات إسرائيلية تستهدف منع عناصرها من التنقل بحرية في بعض مناطق القطاع التي تشهد وجودا عسكريا، إلى جانب عمليات اغتيال ضد شخصيات ميدانية تتهمها إسرائيل بالضلوع في نشاطات عسكرية.

وتندرج هذه الإجراءات ضمن عملية مستمرة لمنع الحركة من استعادة البنية العسكرية التي كانت قائمة قبل الحرب، خصوصا شبكات القيادة والسيطرة والاتصالات الميدانية.

السيطرة الجغرافية على مناطق واسعة في القطاع

تُظهر الخرائط الميدانية والتحركات العسكرية أن إسرائيل فرضت وجودا عسكريا دائما أو شبه دائم على مساحة تُقدر بأكثر من نصف القطاع، تشمل مناطق شريطية واسعة تمتد من شمال غزة إلى جنوبها.

ويتجلى هذا الوجود في إقامة مناطق عسكرية مغلقة، ونشر نقاط مراقبة ثابتة ومتحركة، ومنع السكان من دخول أراضٍ زراعية أو تجارية قرب خطوط السيطرة، وفرض "خطوط صفراء" تُعد مناطق حظر تنقل.

وتشير تقارير منظمات حقوقية إلى أن هذه السيطرة حالت دون عودة آلاف النازحين إلى مناطقهم الأصلية، وأدت إلى تعطيل النشاط الزراعي والصناعي في مساحات واسعة.

وتتعامل إسرائيل مع هذه المناطق باعتبارها "جيوبا أمنية" تهدف إلى منع اقتراب الفصائل المسلحة، وإعاقة أي محاولات لإقامة بنى تحتية عسكرية جديدة.

 الاعتماد على العملاء والمجموعات المسلحة

تشير مصادر فلسطينية وشهادات ميدانية إلى وجود نشاط لشبكات تعمل بالتنسيق مع الاستخبارات الإسرائيلية داخل القطاع، بعضها مرتبط بعملاء تم تجنيدهم سابقا، وبعضها ينشط ضمن مجموعات مسلحة غير خاضعة لسيطرة الفصائل.

وتتمثل الأدوار الموثقة لهذه الشبكات في تمرير معلومات أمنية، ومراقبة تحركات على الأرض، وخلق بيئات مضطربة لا تسمح للفصائل بتنظيم صفوفها، ودعم عمليات الاغتيال عبر تحديد المواقع.

وتُعد هذه الشبكات امتدادا لسياسة إسرائيل طويلة الأمد التي تعتمد على جمع معلومات بشرية لتعزيز قدرتها على إدارة العمليات الميدانية دون الحاجة إلى تدخل عسكري واسع.

القيود الإنسانية كأداة ضغط

تواصل إسرائيل فرض قيود على إدخال بعض أنواع المساعدات إلى قطاع غزة، وخاصة الخيام ومواد البناء والمستلزمات الطبية الخاصة، وفق آليات تنسيق تخضع للفحص الأمني. وقد أدى هذا التقييد إلى تعثر وصول الخدمات الأساسية لعشرات آلاف النازحين.

وتُظهر بيانات الأمم المتحدة أن المناطق الوسطى و"المواصي" في خان يونس تشهد اكتظاظا شديدا بسبب النزوح المتكرر وعدم توفر مساكن بديلة. ويأتي هذا في ظل استمرار تعرض بعض المناطق للقصف المتقطع أو التوغل المحدود.

إعلان

ولا تُقدم إسرائيل هذه السياسة باعتبارها أداة عقاب، بل تبررها باعتبارات "المخاطر الأمنية"، لكن نتائجها الميدانية تُظهر تأثيرها المباشر على الأوضاع الإنسانية، خصوصا في ما يتعلق بالإيواء والرعاية الصحية وتوفر الغذاء.

View this post on Instagram

الإعمار المشروط

تشير بيانات اقتصادية وميدانية إلى أن إسرائيل تسمح يوميا بدخول نحو 200 شاحنة فقط إلى قطاع غزة، في حين أن الحاجة الفعلية، وفق الخطط الإنسانية واللوجستية، تتطلب دخول نحو 600 شاحنة يوميا.

وتحمل الشاحنات المسموح لها غالبية المواد الغذائية والدوائية والتجارية، في حين يُقيّد إدخال مواد البناء الأساسية مثل الحديد والأسمنت، إضافة إلى المعدات الكهربائية والمولدات، تحت وصف "مواد مزدوجة الاستخدام"، أي يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية على حد سواء.

ويرتبط السماح بإدخال هذه المواد بعدة ملفات سياسية وأمنية، أبرزها: قضية الأسرى الإسرائيليين، تثبيت وقف إطلاق النار، وضمان عدم استخدام الموارد في تعزيز القدرات العسكرية لحركة حماس.

وقد أظهر الواقع الميداني أن هذا التقييد أدى إلى تأخر عملية إعادة الإعمار بشكل كبير، إذ لا تزال آلاف المباني المدمرة دون ترميم، مع استمرار الأعطال في شبكات المياه والكهرباء، مما أثر على حياة عشرات آلاف النازحين الذين يعيشون في ظروف صعبة.

كما أدى نقص المواد الأساسية إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي المحلي، وتأخير استعادة بعض القطاعات الإنتاجية والزراعية المتضررة.

ويشكل الإعمار المشروط جزءا من إستراتيجية الردع متعددة المستويات التي تتبعها إسرائيل، حيث يجمع هذا الإجراء بين الضغط الإنساني والضغوط الأمنية والسياسية، ليكون وسيلة لفرض قواعد الاشتباك الجديدة بعد وقف إطلاق النار، من دون العودة إلى مواجهة عسكرية شاملة.

 

الخطاب الديمغرافي وتشجيع الهجرة

برز في الساحة السياسية والإعلامية الإسرائيلية خطاب يدعو إلى "تسهيل خروج سكان من غزة" أو "فتح الباب أمام خيار الهجرة الطوعية"، ويستند هذا الخطاب إلى تصوير الوضع الإنساني في القطاع على أنه بيئة غير قابلة للاستمرار، تتسم بالدمار الواسع، ونقص الخدمات الأساسية، والأوضاع المعيشية الصعبة.

توثق تقارير فلسطينية هذا الخطاب باعتباره جزءا من إستراتيجية ضغط طويلة الأمد، تهدف إلى التأثير على البنية السكانية في غزة، وتقليص القدرة التنظيمية والسياسية لحركة حماس من خلال تقليل عدد السكان القادرين على البقاء في القطاع أو المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية.

ويُنظر إلى هذا النهج على أنه امتداد للأدوات غير العسكرية في سياسة الردع الإسرائيلية، إذ يعمل على خلق بيئة اجتماعية ضاغطة تجعل البقاء في القطاع أكثر صعوبة، بما يضع السكان أمام خيار الهجرة أو التكيف مع الظروف القاسية، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف التماسك الاجتماعي والسياسي في المجتمع المحلي.

في هذا السياق، يُعد الخطاب الديمغرافي أداة ردع مجتمعي، تستهدف ليس فقط البيئة العسكرية أو التنظيمية لحركة حماس، بل أيضا التركيبة السكانية كعنصر قوة أو ضعف محتمل في إدارة الصراع طويل الأمد.

ثانيا: سياسات حماس بعد وقف إطلاق النار التحرك عبر الوسطاء

اعتمدت الحركة على قنوات سياسية مع مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة عبر الوسطاء، بهدف تحسين شروط وقف إطلاق النار، وتسهيل إدخال المساعدات، ومعالجة ملفات الأسرى، وتخفيف القيود المفروضة على المدنيين.

وكثفت الحركة اتصالاتها مع الأطراف للضغط على إسرائيل، في محاولة لتخفيف أثر الضغوط الأمنية والاقتصادية على سكان القطاع.

ضبط الأمن الداخلي وملاحقة العملاء

نفذت الحركة سلسلة من العمليات الأمنية ضد الأشخاص الذين تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل، وأعلنت عن إحباط محاولات اختراق أمني. كما أعادت تفعيل وحدات أمنية محلية في بعض المناطق بهدف مواجهة الفوضى التي خلّفتها الحرب.

إعلان

وتشير معطيات محلية إلى أن هذه الإجراءات ساهمت في تقليص عدد الحوادث المرتبطة بالسرقة أو الاعتداءات، رغم أن الوضع الأمني ما يزال هشا بفعل النزوح الواسع والتدمير الكبير.

إدارة الأزمة الاقتصادية والمعيشية

اتخذت الحركة إجراءات تهدف إلى الحد من انفلات الأسعار وضبط الأسواق، عبر مراقبة حركة التجارة وتسهيل وصول البضائع. ووفق بيانات تجارية محلية، انخفضت أسعار بعض السلع الأساسية خلال الأسابيع الماضية، خاصة تلك التي دخلت عبر المعابر في دفعات كبيرة.

وتأتي هذه الخطوات ضمن مساعٍ لتخفيف الضغوط الإنسانية التي يستخدمها الاحتلال كأداة تأثير على الحاضنة الاجتماعية للحركة.

الحركة اتخذت إجراءات تهدف إلى الحد من انفلات الأسعار وضبط الأسواق (الأناضول)

 

إبراز تداعيات الحرب إعلاميا

استثمرت حركة حماس بشكل مكثف وسائل الإعلام المحلية والدولية لإبراز الواقع الإنساني بعد الحرب، مركزة على توثيق الدمار الواسع الذي لحق بالمباني والمرافق الحيوية، وعرض شهادات النازحين والمتضررين من مناطق متعددة في قطاع غزة.

كما قامت بنشر تقارير مفصلة عن الأوضاع الإنسانية المتدهورة، بما في ذلك نقص المياه والكهرباء والمواد الأساسية، وتوسيع دائرة التواصل مع المنظمات الحقوقية الدولية والهيئات الإنسانية بهدف الضغط على المجتمع الدولي لتسليط الضوء على الأزمة.

وتتضمن إستراتيجية الحركة الإعلامية أيضا إبراز الانتهاكات الميدانية الإسرائيلية، بما في ذلك الحصارات المؤقتة وعمليات التوغل والاغتيالات، مما يعكس محاولة ربط المعاناة الإنسانية بالسياسات الإسرائيلية أمام الرأي العام الدولي.

وقد أسهم هذا النشاط في إبقاء قضية غزة في صدارة النقاشات العالمية، وتحريك أجندة المنظمات الدولية والإعلام الدولي، كما ساعد على تعزيز موقع الحركة السياسي والدبلوماسي من خلال التأكيد على مسؤولية إسرائيل عن استمرار التدهور الإنساني.

ويظهر من التحليل أن هذا النشاط الإعلامي جزء من إستراتيجية حماس متعددة المستويات، تهدف إلى الضغط السياسي، تعزيز ردعها الرمزي، والحفاظ على قاعدة دعم محلية وإقليمية دون الانخراط في مواجهة عسكرية مفتوحة في هذه المرحلة.

إعادة التعافي التنظيمي

تشير مصادر فلسطينية إلى جهود تبذلها الحركة لإعادة ترتيب البنية التنظيمية بعد استشهاد أو اعتقال عدد من كوادرها، واستهداف العديد من مقارها وأنفاقها. ورغم نجاحها في إعادة تفعيل بعض قدراتها اللوجستية فإن المعلومات المتاحة لا تؤكد استعادة قدرات عسكرية ذات وزن حتى الآن.

وتشير التقديرات إلى أن الحركة تواجه تحديات كبيرة في هذا المجال بسبب استمرار الرقابة الإسرائيلية والوجود العسكري في مناطق واسعة من غزة وإغلاق المعابر.

ويظهر من هذه المعطيات أن عملية إعادة التعافي التنظيمي لحماس مرحلة تدريجية وطويلة الأمد، تعتمد على المتغيرات في المشهد الفلسطيني والإسرائيلي والدولي.

التنسيق مع محور المقاومة

تواصل حركة حماس تنسيقها مع محور المقاومة على المستويين العسكري والسياسي، ويشمل هذا التنسيق إيران، حزب الله اللبناني، وأنصار الله في اليمن.

وتركز الحركة من خلال هذه القنوات على رفع مستوى الاستعداد والتحرك المشترك في حال نشوب مواجهات مستقبلية مع إسرائيل، بما يتيح لها تعزيز الردع الإستراتيجي خارج حدود قطاع غزة، وتوسيع دائرة الضغط على إسرائيل من خلال البيئة الإقليمية.

في الوقت نفسه، تعمل حماس على تحريك الجغرافيا الفلسطينية الأخرى، خصوصا الضفة الغربية، بهدف تخفيف الضغط عن غزة واستعادة الزخم التنظيمي والسياسي.

تكشف الوقائع التي تلت وقف إطلاق النار أن قطاع غزة يعيش مرحلة "ردع متعدد المستويات"، إذ تعتمد إسرائيل على السيطرة الميدانية ومنع التعافي العسكري والضغط الإنساني والاختراق الأمني، في حين تحاول حماس تعزيز وجودها السياسي والأمني، وتحسين البيئة المعيشية، والاستثمار في شبكة العلاقات الإقليمية.

ولا تُظهر المعطيات الحالية مؤشرات على نهاية الصراع، بل تعكس انتقاله إلى شكل مختلف يعتمد على ضبط التوتر، وتقليل الخسائر، وإدارة النفوذ، بدل المواجهة الشاملة. وتبقى معادلة الردع بين الطرفين مرشحة للتغيير وفق أي تطور ميداني أو سياسي، في ظل غياب اتفاق يضمن استقرارا طويل الأمد.

مقالات مشابهة

  • سياسي فلسطيني: إسرائيل لا تزال متمسكة باستراتيجيتها العسكرية تجاه الجنوب اللبناني
  • مشعل: وجه “إسرائيل” القبيح كُشف أمام العالم بعد السابع من أكتوبر
  • وزير خارجية إسرائيل: أجريت نقاشا جيدا مع روبيو حول التحديات في المنطقة
  • المقاومة بين ضغط العدو وصمت القريب
  • أمن المقاومة يحذّر من منشورات دعائية ألقتها مسيّرات الاحتلال وسط النصيرات
  • إسرائيل تستعد لاتخاذ خطوات رسمية بعد هتافات داعمة لغزة في العروض العسكرية السورية
  • سرايا القدس: تم إغلاق ملف أسرى العدو!
  • ماذا تملك المقاومة في غزة اليوم لردع الاحتلال؟
  • الاعلام الإسرائيلي يشيد بتحركات الانتقالي في اليمن ويصفها بـ”النجاحات العسكرية المتقنة”
  • زياد أبو داود.. رصاص الاحتلال ينهي حياة عامل مخلص وأب حنون