«ناهد يوسف» وشهادة نابضة عن قيام وتراجع صناعة الدواء فى مصر
تاريخ النشر: 5th, July 2023 GMT
على ثلاثة مسارات متقاطعة أو متوازية تمضى الصيدلانية خبيرة الإدارة الصناعية والجودة، ناهد يوسف، فى كتابها «دواء وعلل.. قصتى مع صناعة الأدوية من الازدهار إلى الأزمة»، إصدار دار الطنانى للنشر.. المسار الأول هو صناعة الدواء وأهميتها الاقتصادية والاجتماعية والحضارية للدولة والفرد، وما الذى حدث مع هذه الصناعة قبل وبعد التأميم، وصولا إلى زمن الانفتاح ثم الخصخصة.
أخبار متعلقة
د. أسامة أبو طالب يكتب: «الكُحكُح».. رواية العزم على مغالبة الزمن
نجلاء أحمد حسن تكتب: زيف المجتمع فى رواية «تدريبات على القسوة»
د. صادق السلمى يكتب: في رواية الغربى عمران «بر الدناكل» المبدع شيطان لا يهدأ إلا بالرجم
والثانى هو العمل العام للمؤلفة وسط الصناع والمهنيين وعاملات وعمال مصانع الأدوية، وفى أوساط نخبة العلم والإدارة من أهل اليسار وغيرهم. والمسار الثالث هو حياة الزوجة والأم والعناية بالقراءة والثقافة والفن والأصدقاء والأهل داخل الأسرة وخارجها، ويظل كل ذلك احتفاءً عارمًا بالصعود الصناعى ومشاركتها فيه من بداية حياتها العملية تحت مظلة قيادات فذة مدنية وعسكرية، وأسى مرير على ما آلت إليه الأوضاع.. لكنها أبدا لا تقدم لنا مرثية.
انتهت ناهد يوسف من كتابها فى أكتوبر ٢٠١٧، ورحلت أبريل الماضى، لكن كتابها سيظل يؤثر لعقود، فى تقديرى، فى كل من يقرؤه، ويسم بدن البعض من اتباع مدرسة التوكيلات واستيراد كل شىء.
الكتاب مكتوب بلغة هادئة وعلمية عميقة، ليقول لنا إن البلد الذى وصل إلى تحقيق اكتفاء ذاتى حقيقى من الدواء بلغ ٨٥ % بنهاية الخطة الخمسية الأولى؛ أى فى ١٩٦٥، وأصبح الآن إنتاجه من الدواء المصرى الأصل يكاد يكون صفرا.. هذا البلد يملك قدرات وكفاءات وكوادر، لو تم توظيفها بشكل صحيح لاستعاد مكانته فى وقت قصير.
مبكرًا، تركت زيارة مدرسية لمصانع ياسين فى التلميذة ناهد يوسف، ورؤيتها للعمال وهم يشكلون الزجاج إلى منتجات مختلفة مبدعة، أثرا لم ينمحِ من حياتها. رسخ من الأثر تلقيها العلوم الصيدلية على أيدى علماء عظماء عملوا بشرف وأمانة ونزاهة بلا حدود، منهم الدكتور محمد الشحات الذى كان يناهض الاستعمار وهيمنة الشركات الأجنبية على سوق الدواء المصرية، هو ومن معه ممن سمتهم هى «رد سجون الملك فاروق» الذين قادوا مع ثورة يوليو نهضة صناعة الدواء بشكل شامل ووفق أعلى معايير عالمية.
فازت ناهد بلقب الطالبة المثالية ١٩٥٥، وصافحت عبدالناصر شخصيا بفستان من تصميمها وحياكتها هى، وتكلف وقتها واحد جنيه فقط. بعد التخرج ١٩٦٥، عملت بأشهر صيدلية وأقسمت بعدها ألا تفتح صيدلية بعد أن رأت استغلال الفقراء سعريا وعدم قدرتهم على شراء الأدوية. عملت فى مصنع أدوية يملكه يهودى، ثم جاء التأميم، وكان من بين أسبابه تواطؤ شركات الدواء الأجنبية لإحراج النظام وحالات فساد ورشى واستغلال بلا عدد. التحقت بشركة النيل للأدوية وعملت فيها بمنطق صاحبة البالطو الأبيض تارة والأزرق تارة أخرى؛ إذ كانت تحرص على أن تتجول بين العمال والفنيين فى المصانع للتشجيع والمتابعة والتعلم.. وخلافا لممارسات الحقبة السابقة، حدثت قفزة فى ظروف وشروط العمل مع نشأة المؤسسة الاقتصادية، وفى شركة النيل تم تشكيل لجنة علمية من شباب وكبار أساتذة علوم وطب وصيدلية وهندسة، وجرى ابتكار تصميمات ومنتجات جديدة، وتضاعف الإنتاج.
ومن اللفتات العجيبة إشارتها إلى أن تطبيق نشرات الأدوية كان يقوم به مكفوفون. وثمة قصص عن أعمال لا تصدق بسبب الحماس، ووجود القدرات العلمية وكيف تم تصنيع أنواع من الأدوية والمستحضرات والكيماويات والعبوات والمحاليل والقطرات وتطوير التحاليل وطرق العمل.. وطال الابتكار أعمال الورش.. وهنا تشير إلى أن مدير الورشة جميل طوسون كان سليل العائلة الملكية، وقدم أعمالا مجيدة كعاشق للميكانيكا.. ولا يقل أهمية انفتاح العهد على كل ما هو جديد فى أمريكا وبريطانيا وغيرهما وإيفاد بعثات باستمرار، وقيام المبعوث- ومنهم المؤلفة- بجهد مهموم لنقل كل الخبرات المحصلة إلى شركات بلده.
تحتفى ناهد بدورها وزملائها فى كيفية إنشاء حضانة وتعيين أول مسئولة شؤون عامة بالشركة، وكانت سيدة من عائلة رومانوف (زوجة أستاذ مصرى، وكيف حصلت على أجر مثل أجر رئيس مجلس الإدارة، ولكنها أبدعت فى تقديم الوجبات وتوفير زى العاملات والعناية بالحدائق).. وهكذا، أينما حلت ناهد يوسف عنيت بإقامة مكتبة علمية وتزويدها بأحدث المراجع، وأن يقرأ الجميع الصحف ويتابعوا ما يجرى فى العالم.
تحكى قصص إنشاء باقى شركات الأدوية العامة فى العهد الناصرى، والتى قام معظمها ارتكازا على مصانع صغيرة مؤممة، ثم حدوث نقلة كبرى فيها. بعد ١٩٧٣ تبنت الجامعة العربية مشروعا متكاملا لصناعة دواء عربية قوية، لكن كامب ديفيد أوقفت المسار.. وإن كنا ربحنا من التجربة قيام الشركة العربية للأدوية.
بالكتاب إشارات مؤلمة عن تدخلات أمنية من وقت إلى آخر، لكنها تطورت فى السبعينيات إلى أعمال فجة، خاصة فى ظل تحالف الأمن مع أعضاء الحزب الوطنى فى المصانع والدور السيئ لقيادات الإخوان التى ظهرت فى المشهد باستثناءات نادرة.
تحدثت عن دور جمال غالى، الذى رحل منذ عام، فى إدخال صناعات مرتبطة بالدواء لم تكن موجودة، وعصرنة صناعة التعبئة والتغليف وإضافة لمسات جمالية لتصميم العبوات وتحسين وتمصير خاماتها. تروى كيف قاومت الشركات الغربية إنشاء شركة النصر للكيماويات الدوائية، فتمت الاستعانة بالخبرة الفنية السوفيتية ومراكز بحوث مصرية، وكيف بزغ مركز بحوث الدواء على يدى العالم الكبير الدكتور عصام جلال، والأعمال الكبرى للهيئة العليا للأدوية بقيادة المايسترو عزيز بندارى ومساعده القدير مصطفى السماع. ورصدت أن من علامات التحول الفجة فى عهد السادات خلع بندارى من صناعة الدواء؛ برفعه إلى أعلى وتعيينه رئيس جهاز تنظيم الأسرة. جرت طوال فترة الازدهار معارك صغيرة وحاسمة، فى كل يوم تقريبا للدفاع عن الصناعة المصرية الدوائية.
ذكرت أن «النيل» أنتجت دواء كبد، فقامت شركة أجنبية منافسة بشراء كل المنتج ولوثته، لتشويه سمعتنا، وتم اكتشاف الملعوب وكانت فضيحة لهم. بعد ٦٧ تمت الموافقة على ٣ مصانع أجنبية، أولها سويسرى، واكتشفنا أنه جلب ماكينات قديمة، ورفضنا أن يصنّعواأى دواء إلا بكيماويات مستوردها شركة مصرية متخصصة. وأكدت أن مناضلًا سوريًا قال لها إن ناصر كان يرى صناعة الدواء أهم من البترول. بعد ١٩٧٣ بدأ وضع خطة عمليات شاملة لتشويه التجربة، والتشكيك فى الدواء المصرى بالباطل، ومنع الاستثمارات الجديدة، وقد هرب الكوادر مع الجو الخانق والعروض المغرية، ومَن تمسك كوطنى بالبقاء إيمانا بالقطاع العام، واجه مشكلات وتعقيدات ليرحل ويبق فقط المنافقون والمتربحون. أقرت الحكومة بمبدأ إبرام اتفاقيات تصنيع بالقطاع العام لحساب الأجنبى بشروط ليست فى مصلحتنا، وتم فتح الإنفاق على الدعاية للأجنبى، ما فتح مجالا لإفساد أطباء وصيادلة. شكت ناهد يوسف لعبده سلام وزير الصحة وقتذاك من ممارسات الأجانب وكونهم لم يفتحوا مصانع جديدة ولم يقيموا خطوط توسعات، ولا سجلوا براءات، ولم يضيفوا عمالة، ولم يدخلوا مجالا ينقصنا مثل أدوية السرطان وألبان الأطفال.. فلم يعلق الوزير وغيّر الموضوع. وكشفت أنه يتم اليوم إنتاج ٤٠ % من الأدوية بتراخيص لأدوية انتهت مدة حمايتها أصلا.
بعد «النيل»، عملت «ناهد» فى النصر للزجاج بمسطرد بعد أن استدعاها رئيسها الجديد هى والدكتور جمال غالى، وقدم غالى خطة لتطوير مصانع الزجاج، وقدمت هى خطة لتطوير مصنع الأمبولات.. ومن ثقة جمال غالى فى خطته تعهد بأن يدفع ثمن القوالب التى سيتم استيرادها من جيبه لو فشلت خطته. قبلت العمل فى الشركة بشروط موضوعية وبدأت بإثارة غيرة وحماس العمال، وأبرمنا عقدا مع اليابان لاستيراد الزجاج المتعادل اللازم للأمبولات بنصف الثمن الأوروبى، لكن الشركة اليابانية لم تتقدم بعد ذلك لأى مناقصة!.
عنيت ناهد يوسف بالتدريب دائما، وتم تشكيل لجنة استشارية للأمبولات. تحدثت فى أكثر من موضع عن جهد وكفاءة وقدرة محمد هلال الذى قفز بالمواصفات القياسية المصرية لترتقى إلى المستوى العالمى، وكيف أن اسمه أزيل من أى ترشيح كوزير للصناعة، حيث الجهات التى تختار لم تكن تفضل صاحب الرأى والمكانة والاستقلالية، تم تصنيع قطع غيار بالتعاون مع القوات المسلحة وورش عامة وخاصة بـ ١٠ % من تكلفة المستورد.
ذكرت حالات تمييز بغيضة ضد أقباط كان لهم عطاء نادر. أسست نظاما متكاملا لمراقبة الجودة فى مسطرد، وساعدها بقوة المهندس عادل عبدالكريم، أكفأ من ترأس النصر للزجاج. عاشت عمرها وإيقاعها منسجم بالسليقة مع إيقاع الصناعة.. لذا كان يصعب عليها أن تستكين إلى المعاش، فعملت بعده مستشارة تصدير لعادل عبدالكريم حين تولى القابضة للحراريات.. وقد أبعدوه بعد فترة لأنه كان يطور القطاع العام.. وهذا لم يكن مطلوبا.
وعملت مع جمال غالى فى الجمعية المصرية للتعبئة والتغليف. بكت يوم الإعلان عن بيع مصانع مسطرد للأمبولات والزجاج للقطاع الخاص.. وبطلب من السفير محمد إسماعيل (ابن المشير أحمد إسماعيل)، رئيس الشركة بعد خصخصتها، عملت مستشارة لفترة لإصلاح ما جرى من تدهور، لكن تبين أن المشترى لم يكن همّه أبدا الصناعة بل حلب أقصى ربح وبأى وسيلة، واستغلال العمال بقسوة تفوق ما كان فى العصر الملكى، واستقالت هى وأخرى. رفضت العمل فى مصنع يصدر ضمن الكويز. تمنت قبل أن تموت تعميم التأمين الصحى الشامل وإنتاج أدوية مصرية للسرطان.
ناهد يوسف زوجة الكاتب الصحفى الراحل عادل حسين ووالدة الزميلة سلمى حسين.
ثقافة سور الأزبكية ناهد يوسفالمصدر: المصري اليوم
كلمات دلالية: ثقافة
إقرأ أيضاً:
???? يوسف عبدالمنان: الغرق في الدموع
غرقت كردفان في دموع الموت والخوف والجوع والعطش، ومليشيات الدعم السريع تستبيحها في رابعة النهار، بعد عودتها وخروج القوات المسلحة من مدن الدبيبات والحمادي وقرى محلية القوز، التي تشهد الآن أسوأ حملة انتقام من المواطنين، تتمثل في القتل والسحل ونهب وحرق بيوت المساكين، وحرق القطاطي المشيدة بالعشب الجاف.
منذ تحرير مناطق كردفان حتى مشارف الدلنج، هرع الأهالي فرحين إلى القوات المسلحة، مبتهجين بتحررهم من عبودية الدعم السريع، من غلظته ونهبه وإذلاله للإنسان واحتقاره. عبّر الناس عما في دواخلهم بصدق وفرح، لكن لم تمضِ إلا أيام قليلة حتى عادت المليشيا، وأحكمت سيطرتها على محليات القوز بجنوب كردفان، وعلى النهود وقرى السعاتات، وبدأت حملات الانتقام.
تسأل عن فلان، فيأتيك النبأ المفزع: قُتل بدم بارد. تسأل عن علان، فيقال لك: تم اختطافه وترحيله إلى سجون المليشيا في الفولة وأبوزبد. وتحت وهج الشمس الحارقة، ومع شح الماء، سار الناس رجالًا وأطفالًا ونساءً وشيوخًا، حملهم البعض على عربات الكارو، وهام المواطنون على وجوههم، فاتجه أغلبهم إلى الأبيض بشمال كردفان.
ويوم أمس الأحد، وصل الآلاف سيرًا على الأقدام، في حالة إنهاك وتعب وجوع وعطش. بعضهم لجأ إلى أهله، وآخرون افترشوا الأرض والتحفوا السماء، وتتهددهم دولة الإمارات بمسيّراتها التي تضرب بلا رحمة تجمعات المدنيين والمستشفيات.
هؤلاء لا يجدون سوى الخبز اليابس، وعصيدة الفتريتة، وملاح اللوبيا. ولا يزال السيل متدفقًا على الأبيض وأبوحراز، والناس في جزع وخوف. نساء تعرضن للإجهاض من شدة الإجهاد، وشيوخ دُفنوا في الطريق بين الدبيبات والأبيض. وقتلت المليشيا معلمًا ضريرًا في أحد الحواجز، ومزقت أحشاء آخر، واختطفت ماكن الصادق، منسق الدفاع الشعبي عام 1996، والذي كان حينها جنديًا.
لو علمت قيادة الجيش بما حلّ بالناس بعد سقوط الدبيبات، لجردت كل قوتها اليوم قبل الغد، وثارت لدماء الأبرياء، ومسحت دموع الباكيات بالكاكي الأخضر، الذي أحبه الشعب وهتف باسمه، وسيظل متمسكًا بجيشه وداعمًا له.
لكن المواطنين اليوم ينادون البرهان في الطرقات، تحت وطأة السياط والرصاص: “يا برهان، فاض الكيل، وسُفك الدم، وتشرد الناس!”
هجمات التتار وعرب الشتات على قرى كنانة وخزام والبديرية اتخذت أبعادًا عرقية. حتى بيت الناظر “البوكو الهادي أسوسه”، الذي توسل لعبدالرحيم دقلو لتجريد قوة الموت التي هاجمت الدبيبات وتسليحها، لم تنجُ أسرته من شر الجنجويد. اقتادوهم مصفدين من الحمادي، خمسة رجال إلى أبوزبد، وأشبعوهم ضربًا، حتى تدخل عبدالرحيم دقلو وأمر بإطلاق سراحهم فورًا، وقال: “إنها نيران صديقة.”
المليشيا، في الحقيقة، لا تفرّق بين صديق وعدو، وإلا لما اعتقلت أسرة الناظر بقادي، الذي بات اليوم يحرض ضد القوات المسلحة، ويصدر البيانات مع عمدٍ ويتوعد الجيش بالويل والثبور.
الجيش صامت، والرجال صدورهم تغلي غضبًا مما يحدث وسيحدث في كردفان، التي اتخذتها المليشيا أرضًا للمعركة والقتل، بعيدًا عن مسرح دارفور.
لقد قضت معارك الأسبوع الماضي على الحياة في قرى كردفان، وكتبت المليشيا، منذ الآن، فشلًا للموسم الزراعي، إذا لم تُحرر الدبيبات والحمادي، ويُفتح طريق الدلنج – الأبيض، ويُرفع الحصار عن جبال النوبة، قبل حلول شهر يوليو، حيث تتساقط الأمطار.
????يوسف عبدالمنان
إنضم لقناة النيلين على واتساب