هل أصبح اقتصاد فرنسا الآن أقوى من اقتصاد ألمانيا؟
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
نادرا ما كان التناقض بين الاقتصاد الفرنسي والألماني صارخا إلى الحد الذي يبدو عليه الآن. فبينما تستمر فرنسا في الـتَـنَـعُّـم بنمو قوي إلى حد مدهش واجتذاب المستثمرين الأجانب والمحليين على نحو متزايد، تناضل ألمانيا ــ وإن كانت بعيدة كل البعد عن كونها رجل أوروبا المريض ــ بسبب أزمة سياسية حادة ألقت بظلالها الكثيفة على آفاقها الاقتصادية وتؤثر بشكل كبير على المعنويات الاقتصادية.
لكن هذا التفسير يتجاهل حقيقة أساسية: وهي أن ألمانيا وفرنسا أصبحتا أكثر اعتمادا على بعضهما بعضا من أي وقت مضى. ومن أجل الحفاظ على النمو الاقتصادي وتأكيد نفوذهما على المستوى العالمي، يتعين عليهما أن يعملا معا لتعزيز قوة الاتحاد الأوروبي.
أبدى الاقتصاد الفرنسي مرونة لافتة للنظر أثناء جائحة كوفيد-19 وأزمة الطاقة في عام 2022. وعلى مدار العامين الماضيين، نجحت فرنسا في تعزيز قدرتها التنافسية، وتحسين بيئة الأعمال، واجتذاب أكثر من ضعف ما اجتذبته ألمانيا من الاستثمار المباشر الأجنبي.
أما ألمانيا، في المقابل، فقد أجبرها تراجع قدرتها التنافسية على الاعتماد على إعانات دعم كبيرة لجذب المستثمرين الدوليين ودعم صناعتها. وعلى هذا ففي حين من المتوقع أن تسجل فرنسا نموا بنسبة 1٪ في عام 2023، فمن المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الألماني، ثم يلي ذلك نمو ضئيل في عام 2024.
من الممكن أن نعزو هذه المسارات المتباينة إلى ثلاثة عوامل رئيسية. فأولا، يسمح النظام الرئاسي الفرنسي للرئيس إيمانويل ماكرون بتحديد أولويات واضحة وتنفيذ تدابير جديدة بسرعة. وقد عمل هذا على تمكين ماكرون من ملاحقة إصلاحات كبرى لنظام التقاعد وسوق العمل في فرنسا، وتبسيط القواعد التنظيمية القائمة، ووضع أهداف جريئة للسياسة الصناعية التي بدأت الآن تدر عوائد كبيرة، بما في ذلك الانخفاض المطرد في معدل البطالة.
في الوقت ذاته، تتصارع ألمانيا مع جمود سياسي. يواجه ما يسمى ائتلاف إشارة المرور ــ الذي يضم الحزب الديمقراطي الاجتماعي بزعامة المستشار أولاف شولتز، وحزب الـخُـضر، وحزب الديمقراطيين الأحرار- الفشل المؤكد. فقد أفضت الانقسامات الإيديولوجية العميقة إلى مأزق سياسي يهدد بإصابة ألمانيا بالشلل، وهو ما انعكس في نضال الحكومة المستمر لوضع اللمسات الأخيرة على ميزانيتها لعام 2024.
كان النظام الفيدرالي المعقد في ألمانيا، والمعروف بضوابطه وتوازناته القوية، مصمما لتعزيز مبادئها الديمقراطية ومنع العودة إلى الاستبداد. وعلى هذا فإنه يعطي الأولوية للاستقرار على السرعة والمرونة، والآن يؤثر هذا التفضيل سلبا على الاقتصاد، حيث تحتاج ألمانيا على وجه السرعة إلى تنفيذ إصلاحات تنظيمية ومالية وصناعية وتجارية كبرى.
يكمن فارق حاسم آخر بين فرنسا وألمانيا في النهج المختلف الذي تتبعه كل منهما في التعامل مع الانفتاح الاقتصادي. اعتمد النموذج الاقتصادي الألماني في فترة ما بعد الحرب بشدة على الصادرات، التي تمثل الآن ما يقرب من نصف إجمالي الناتج الاقتصادي في ألمانيا. وقد صيغ هذا النموذج بفعل قوى سياسية، وتفضيلات مرتبطة بالسياسة الخارجية، وبفضل السياسات النقدية التي تمحورت حول المارك الألماني القوي (قبل اليورو). علاوة على ذلك، كانت السياسات الاقتصادية والمالية التي تنتهجها ألمانيا تاريخيا تحابي القطاع الصناعي، من السيارات إلى المواد الكيميائية والهندسة الميكانيكية. وقد دفع هذا التثبيت الساسة الألمان إلى التركيز على تعزيز حصة القطاع الصناعي في الناتج الاقتصادي، والتي تبلغ حاليا ضعف نظيرتها في فرنسا.
على الرغم من هذه الاختلافات، لا يخلو الأمر من قواسم مشتركة أكبر كثيرا مما هو معترف به في عموم الأمر بين الاقتصادين الفرنسي والألماني. في حين تفوق أداء فرنسا على ألمانيا على مدار السنوات الأربع الماضية، فإنها لا تزال تحاول اللحاق بالطفرة الاقتصادية البارزة التي شهدتها ألمانيا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. والجدير بالذكر أن ألمانيا لديها واحد من أدنى معدلات البطالة في أوروبا، وقد حافظت شركاتها على حصصها القوية في السوق العالمية.
علاوة على ذلك، في الاستجابة للجائحة، والحرب الدائرة في أوكرانيا، والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، اتبعت كل من ألمانيا وفرنسا أجندات اقتصادية تعتمد على تدابير الحماية على نحو متزايد. فقد تبنت كل منهما سياسات صناعية وطنية تشتمل على دعم الشركات المحلية من خلال خفض أسعار الكهرباء، والمساعدات المالية المباشرة، وعدد كبير من المزايا الضريبية، فأطلقتا فعليا سباق إعانات الدعم لاجتذاب المستثمرين الأجانب والشركات المتعددة الجنسيات مثل تسلا وإنتل.
الواقع أن هذه التدابير تنطوي على ظلم للشركات في الاقتصادات الأوروبية الأضعف، وتحد من المنافسة، وتهدد بتقويض السوق الموحدة، التي تُـعَـد الإنجاز الاقتصادي الأكثر أهمية الذي حققه الاتحاد الأوروبي. في كل من البلدين، تحتاج أنظمة الرعاية الاجتماعية القوية إلى إصلاح فوري. فبينما يعمل التضخم على تغذية الاستقطاب الاجتماعي والخلاف السياسي، تكتسب الحركات اليمينية المتطرفة مزيدا من الأرض. والآن تتجه إلى ألمانيا موجة الشعبوية والتطرف اليميني التي تجتاح عددا كبيرا من الديمقراطيات الغربية. فمع اقتراب حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف من الفوز بثلاثة انتخابات في ولايات رئيسية في عام 2024، قد تواجه ألمانيا أزمة سياسية أشد عمقا.
وأخيرا، تتعرض كل من ألمانيا وفرنسا للتهديد بسبب التنافس الجيوسياسي المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين. لصيانة النمو الاقتصادي، يتعين على البلدين الابتعاد عن السياسات الاقتصادية والمالية ذات التوجه الوطني والعمل معا لإصلاح وتعزيز قوة الاتحاد الأوروبي. لم يكن الإصلاح الأخير لميثاق الاستقرار والنمو كافيا لتعزيز الاستثمار وتحويل الاقتصاد الأوروبي. يفتقر الاقتصادان الفرنسي والألماني بمفردهما إلى النطاق اللازم للتنافس بفعالية ضد أكبر اقتصادين في العالم، وخاصة في القطاعات الناشئة المهمة مثل الذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية.
لذا فمن الحكمة أن تركز الحكومتان على أوجه التشابه بينهما وليس الاختلافات. وبدلا من التنافس ضد بعضهما بعضا، ينبغي لهما أن يتحدا حول قضية مشتركة. ففي نهاية المطاف، قد يكون بوسعنا إلى حد كبير أن نعزو الرخاء الذي تتمتع به كل من فرنسا وألمانيا اليوم إلى الشراكة الوثيقة بينهما على مدار السنوات السبعين الأخيرة، والتي كانت مفيدة للغاية في تعزيز مصالح أوروبا الاقتصادية.
في مواجهة معارضة قوية من جانب ألمانيا، يبدو أن ماكرون تخلى عن طموحاته لإصلاح أوروبا. وهذا خطأ واضح. إذ يتعين على الحكومتين أن تغيرا المسار وأن تعملا على تعزيز سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة، واستكمال بناء الاتحاد المصرفي، وملاحقة اتحاد سوق رأس المال، ووضع سياسة صناعية مشتركة، وتبسيط الضوابط التنظيمية والبيروقراطية. وعلى وجه الخصوص، تشكل القدرة المالية المشتركة أهمية بالغة لصياغة السياسات الاقتصادية والصناعية التي تجسد القيم والأهداف الأوروبية.
مارسيل فراتشير مدير كبير سابق في البنك المركزي الأوروبي، ورئيس معهد DIW برلين للأبحاث وأستاذ الاقتصاد الكلي والتمويل في جامعة هومبولت في برلين.
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی فی عام
إقرأ أيضاً:
الاتحاد الأوروبي يؤكد التزامه الراسخ بحقوق الإنسان في العالم
جدد الاتحاد الأوروبي اليوم الأربعاء، التزامه الراسخ بتعزيز حقوق الإنسان في العالم والدفاع عنها، بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان الذي يوافق 10 ديسمبر من كل عام.
وأكدت الممثلة العليا للشئون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس، في بيان، أن حماية الكرامة الإنسانية تبدأ من التفاصيل الصغيرة التي تحدث يوميًا حول العالم، حيث يقوم ملايين الأشخاص بأفعال بسيطة لكنها مؤثرة تُجسّد قيم حقوق الإنسان.
وقالت كالاس إن "حقوق الإنسان ليست مجرد التزامات قانونية منصوص عليها في الاتفاقيات الدولية، بل هي ممارسات حيّة تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية في المدارس وأماكن العمل والخدمات العامة وفي الفضاء الرقمي".. وأشارت إلى أن هذه الحقوق تحمي حرية التعبير والعبادة والتنظيم والحب والمشاركة في المجتمع.
وأضافت أن العالم يواجه اليوم تحديات متصاعدة، بداية من التضليل الإعلامي وتآكل الديمقراطية إلى التمييز وعدم المساواة، فضلًا عن الآثار المدمرة للحروب، مؤكدة أن ملايين المدنيين، خصوصًا في أوكرانيا ومناطق أخرى قريبة من حدود الاتحاد الأوروبي، يكافحون يوميًا للبقاء في مواجهة النزاعات.
وشددت كالاس على أن "حقوق الإنسان ليست مضمونة بذاتها"، بل تتطلب شجاعة وتضامنًا ويقظة مستمرة من الدول والمؤسسات والمجتمعات والأفراد، مؤكدة أن الاتحاد الأوروبي سيظل ثابتًا في التزامه بحمايتها داخل أراضيه وخارجها.
كما جدّدت دعم الاتحاد الأوروبي للأمم المتحدة ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، ولجميع الشركاء العالميين الذين يعملون على ضمان احترام الحقوق الأساسية.
واختتمت كالاس بيانها بالإشادة بالأفراد "الذين يجعلون حقوق الإنسان واقعًا ملموسًا من خلال مواقفهم اليومية"، مؤكدة أن التغيير لا يتحقق فقط في المحاكم والبرلمانات، بل يبدأ عندما يختار الناس التعاطف بدل اللامبالاة، والعدالة بدل الراحة، والشجاعة بدل الصمت، والكرامة بدل الانقسام.
الاتحاد الأوروبي: خفض 90% من الانبعاثات هدف مناخي لعام 2040
وافق الاتحاد الأوروبي على هدف مناخي ملزم قانونيًا يقضي بخفض صافي انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 90% بحلول عام 2040، في خطوة تُعدّ من أهم محطات التحول المناخي الأوروبي.
ورحّبت المفوضية الأوروبية بالاتفاق السياسي المبدئي الذي تم التوصل إليه الليلة الماضية بين البرلمان الأوروبي ودول الاتحاد بشأن هذا الهدف وتعديل قانون المناخ الأوروبي، كما يتضمن الاتفاق إمكانية استخدام ائتمانات دولية عالية الجودة لتحقيق جزء من هذا الخفض بنسبة تصل إلى 5% مقارنة بمستويات عام 1990.
ويمهّد الهدف الجديد -بحسب بيان صحفي نشرته المفوضية اليوم الأربعاء- الطريق نحو تحقيق اقتصاد أوروبي منزوع الكربون بالكامل بحلول عام 2050 ويعزز اليقين لدى المستثمرين والشركات لدفع عجلة التحول الأخضر وتعزيز القدرة التنافسية الصناعية وضمان أمن الطاقة واستقلاليتها.
وعلى المستوى الدولي، أكد الاتحاد الأوروبي التزامه القوي باتفاق باريس للمناخ ودوره القيادي في الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تعليقًا على الأمر: "اليوم يبرهن الاتحاد الأوروبي على التزامه القوي بالعمل المناخي وباتفاق باريس، بعد شهر واحد من مؤتمر كوب-30، حوّلنا كلماتنا إلى أفعال عبر هدف قانوني بخفض الانبعاثات بنسبة 90% بحلول عام 2040، ولدينا الآن مسار واضح نحو الحياد المناخي وخطة مرنة وواقعية تجعل التحول الأخضر أكثر تنافسية."
وقدم الاتفاق مسارًا عمليًا يأخذ في الاعتبار الظروف الاقتصادية والجيوسياسية الحالية ويضمن توفير المتطلبات اللازمة لتحقيق هدف 90%، بما في ذلك التنفيذ الكامل لمبادرة الصفقة الصناعية النظيفة.
وتضمن الاتفاق مجموعة من الآليات المرنة التي ستشكل الإطار المناخي لما بعد 2030 وتوجّه مقترحات المفوضية التشريعية المقبلة، أبرزها السماح باستخدام ائتمانات دولية عالية الجودة بدءًا من عام 2036 للمساهمة في تحقيق هدف 2040 بنسبة تصل إلى 5% من انبعاثات الاتحاد الأوروبي لعام 1990، ما يعني خفضًا محليًا صافياً بنسبة 85%، والالتزام بأن تكون هذه الإجراءات طموحة وفعّالة من حيث التكلفة، مع توفير ضمانات صارمة تتماشى مع اتفاق باريس..