جريدة الوطن:
2025-05-22@19:17:14 GMT

الذكاء الاصطناعي.. والعلم!

تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT

الذكاء الاصطناعي.. والعلم!

يعي الجميع أنَّ هنالك تحوُّلًا جليًّا وأوسع في العلوم في عصرنا، إضافة إلى الجوانب الإنسانيَّة الأخرى، وخصوصًا مع التحوُّل الكبير الَّذي نلمسُه في التكنولوجيا ودخول الذَّكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة، وأشهرها القليلة الماضية. وهنا سنلاحظ كيف أنَّه قلَب الطريقة الَّتي يعمل بها النَّاس ويتعلَّمون ويتواصلون اجتماعيًّا.

بل وقَدْ عمل على تسريع وإعادة تشكيل بعض العناصر الأساسيَّة للعلوم. ولعلَّ العِلم باتَ أسرع ممَّا هو عَلَيْه اليوم.
بطبيعة الحال، كانت معرفة العالَم متجذرة في مراقبته وتفسيره. ولكن سنلاحظ الآن أنَّ نماذج الذَّكاء الاصطناعي اليوم تحرف هذا المسعى، وتقدِّم إجابات دُونَ مبرِّرات، حتَّى أنَّها تقُودُ العلماء إلى دراسة خوارزميَّاتهم الخاصَّة بقدر ما يدرسون الطبيعة، والأسباب الصحيحة لتطوُّرها. وهنا قَدْ نتساءل صدقًا إذا ما باتَ الذَّكاء الاصطناعي يتحدَّى طبيعة الاكتشاف تلك؟ وهنا وبعُمق أكبر للمعنى، هل إدخال الذَّكاء الاصطناعي جعل العِلم، في بعض النواحي، أقلَّ إنسانيَّة؟!
كيف لا؟ ونحن نتابع أهمِّية الذَّكاء الاصطناعي لاستخلاص أنماط معقَّدة بشكلٍ مستحيل من مجموعات البيانات الكبيرة بحيث لا يستطيع أيُّ شخص فهمها. وهذه الظاهرة المحيّرة، في الواقع أصبحت مألوفة أكثر منذ إصدار منظومة (الشات- جبت) السنة الماضية، حيث غير برنامج الدردشة الآلي ذلك، وأصبح فجأة في متناول الجميع. وربَّما سترى كيف يقوم ـ إن استطعت القول ـ بتجميع الإنترنت بالكامل. ولكن في ذات الوقت ستعي كيف أنَّه شوّه الكثير من تفكيرنا. نحن لا نفهم بالضبط كيف تحدِّد روبوتات الدردشة المولِّدة للذَّكاء الاصطناعي استجاباتها، فقط أنَّها تبدو إنسانيَّة، ممَّا يجعل من الصَّعب تحليل ما هو منطقي أو جدير بالثِّقة، وما إذا كانت الكتابة، حتَّى كتابتنا، بَشَريَّة بالكامل!
صحيح أنَّ التكنولوجيا أصبحت تعمل حاليًّا على دفع التقدُّم في العديد من التخصُّصات الأخرى، ليس فقط تحسين السُّرعة والنطاق، ولكن تغيير نَوْع البحث الَّذي يعتقد أنَّه ممكن، خصوصًا وأنَّه ـ على سبيل المثال ـ باتَ الباحثون في علِم الأحياء يستخدمون الذَّكاء الاصطناعي المدرّب على البيانات الجينيَّة لدراسة الأمراض النَّادرة، وتحسين العلاجات المناعيَّة بشكلٍ أفضل. بمعنى أنَّ هؤلاء أصبح لدَيْهم الآن فرضيَّات قابلة للتطبيق، حيث كانت ألغازًا في السَّابق!
وهذا حقيقةً يأخذنا إلى منعطف آخر، أجزم أنَّه أكثر حساسيَّة! نحن نعي جميعًا وخلال مراحل تعليمنا، أنَّه لكَيْ تكُونَ قادرًا على فَهْم ظاهرة ما، سواء كانت سلوك خليَّة أو أيَّ نظام آخر، فإنَّ ذلك يتطلب القدرة على تحديد الأسباب والتأثيرات. لكن نماذج الذَّكاء الاصطناعي سنلاحظ أنَّها مبهمة. إنَّهم يكتشفون الأنماط المستندة إلى مجموعات بيانات ضخمة عَبْرَ برمجيَّة تربك أعمالها الداخليَّة التفكير البَشَري. والسؤال الَّذي أطرحه هنا: هل عَلَيْنا أن نفهمَ ما يجري في ذلك الصندوق الأسود لتلك النماذج أو الأنماط بالذَّكاء الاصطناعي حتَّى نتمكَّنَ من معرفة من أين يأتي هذا الاكتشاف؟ هل نحن واقعيًّا مع نَوْع مختلف من العلوم، حيث لا تَكُونُ المعرفة والأفعال الناتجة مصحوبة دائمًا بتفسير؟!
وحتَّى مع هذه البيانات، فإنَّ العالَم الحقيقي يُمكِن أن يكُونَ أكثر تعقيدًا. فمثلًا يستطيع الذَّكاء الاصطناعي أن يقترحَ أدوية جديدة بسرعة، ولكن بشكلٍ أساسي لا يزال يتعيَّن عَلَيْك إدارة عمليَّة اكتشاف الأدوية، وهي بالطبع طويلة، خصوصًا وأنَّ التجارب السريريَّة تستغرق سنوات، وكثير مِنْها لا ينجح. ثمَّ، وكمثال لذلك، تمَّ تقليص عدد كبير من الشركات الناشئة والمبادرات العاملة في مجال أدوية الذَّكاء الاصطناعي. ولعلَّه في المختبر، يُمكِن اختبار التنبؤات الجسديَّة في بيئة معزولة بشكلٍ آمن، ولكن عِند تطوير الأدوية أو العلاج ـ بلا شك ـ ستكُونُ المخاطر أعلى بكثير. لذلك قَدْ أقول بأنَّ هذه الإخفاقات هي، إلى حدٍّ ما، دليل على أهمِّية العِلم والبحث ونجاحهما.
ختامًا، قَدْ لا تغيِّر نماذج الذَّكاء الاصطناعي الطريقة الَّتي نفهم بها العالَم فحسب، بل كيف ندرك الفَهْم نَفْسه. لذلك ربَّما من المُهمِّ أن تكُونَ تلك النماذج الجديدة مبنيَّة على المعرفة بما يُمكِننا الوثوق به، ولماذا، ومتى؟ وإلَّا فإنَّ اعتمادنا على برنامج الدردشة الآلي فقط، أو حتَّى مثلًا التنبُّؤ بالأعاصير باستخدام الذَّكاء الاصطناعي قَدْ يخرج عن نطاق العِلم!

د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
dryusufalmulla@gmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: کاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

كيف يغير الذكاء الاصطناعي بيئة العمل الصحفي؟

هذا السؤال الذي تجدونه عنوانا لهذه المقالة كان يطرح خلال السنوات الثلاثين الماضية تقريبا بصيغ متعددة، وإن كان القصد واحدا تقريبا، وهو ما تأثير المستحدثات التكنولوجية على مهنة العمل الإعلامي؟ الذي ظل لسنوات طويلة يمارس عبر الورق والقلم، وكانت قمة التكنولوجيا فيه المطبعة.

هذا السؤال طرحه الصحفيون حين ظهر الحاسوب، وأصبح فاعلا أساسيا في غرف الأخبار عبر ما يعرف بالتحرير الصحفي عبر الحاسوب (Computer Assisted Reporting). ثم كانت الثورة الكبرى مع ظهور شبكة الإنترنت التي قد لا يصدق الصحفيون الذين ولجوا إلى العمل الإعلامي فيما بعد العام 2000 أن هذه المهنة كانت تمارس من دون إنترنت.

في السنوات الأخيرة التي كثر فيها الحديث عن الذكاء الاصطناعي وإمكانياته الهائلة، ظهرت العديد من الكتابات التي تحدثت عن ذلك، وشاهدنا سيلا منها صادرا عن المعاهد والمراكز المهتمة بالعمل الإعلامي، خاصة بشأن كيفية الإفادة من الإمكانيات الهائلة للذكاء الاصطناعي، وكذلك بشأن التحذير من بعض مخرجاته التي يمكن أن تسبب ضررا كبيرا.

وقد أدلى كاتب هذه السطور بدلوه في هذا المولود فدبّج ورقة عن كيفية الإفادة الآمنة من الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي سماها "الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار.. الفرص والمحاذير". نشرها على صفحته في لينكدإن، ويمكن لمن لديه الوقت والصبر على قراءة أكثر من 6 آلاف كلمة أن يطلع عليها من خلال هذا الرابط.

كتاب "الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار.. الفرص والمحاذير" للصحفي عثمان كباشي (الجزيرة) كتاب جديد

كما أوضحت، فإن الذكاء الاصطناعي، بوصفه مفهوما وبوصفه قادما جديدا في مختلف المجالات، طرح العديد من الأسئلة حول كيفية التعاطي معه، وصولا إلى تحقيق الفائدة القصوى من إمكانياته.

إعلان

وقد صدر في مارس/آذار الماضي كتاب عن دار مكفرلاند الأميركية لتوني سلفيا أستاذ الإعلام في جامعة ساوث فلوريدا حمل عنوان "Artificial Intelligence in Journalism: Changing the News".

هذا الكتاب الذي يمكن ترجمة عنوانه بتصرف إلى "الذكاء الاصطناعي في الصحافة.. كيف يغيّر صناعة الأخبار؟"، من أوائل الكتب التي تتناول التحديات الاجتماعية والثقافية والقانونية والأخلاقية والمهنية التي تواجه صناعة الأخبار في ظل الذكاء الاصطناعي.

ويجمع الكتاب بين البحوث الأكاديمية ومقابلات مع صحفيين من مؤسسات إعلامية كبرى، إضافة إلى أساتذة في مجال الإعلام، ويتأمل في موقع الذكاء الاصطناعي في حياتنا، ويطرح أسئلة جوهرية حول مستقبله.

ويصف المؤلف موضوع كتابه فيقول "إذا كان الذكاء الاصطناعي، بأشكاله المتعددة، يثير الخوف لديك، فأنت لست وحدك، فالصحفيون في الولايات المتحدة الأميركية وحول العالم يحاولون فهم كيفية استخدام سطوة الذكاء الاصطناعي بطريقة إيجابية في كتابة وتحرير، بل وحتى إنشاء قصص إخبارية كاملة لجمهور واسع ومتنوع، ومن المحتمل جدًا أنك قرأت بالفعل خبرا تمت صياغته بمساعدة نماذج ذكاء اصطناعي، لكن كيف يمكننا فهم هذه التقنية الجديدة في سياق الصحافة والديمقراطية؟".

ويطرح الكاتب أسئلة أخرى من شاكلة: هل الذكاء الاصطناعي قادر على القيام بعمليات التقييم والحكم على الأخبار والتي هي مهارة بشرية بامتياز؟

وفيما يتصل بالكفاءة وتقليل التكلفة الاقتصادية في العمل الإعلامي، يرى المؤلف أن المزاوجة بين الذكاء الاصطناعي والعمل الإعلامي تبدو من وجهة نظر إدارة المؤسسات الإعلامية عملا ممتازا، بيد أن للموضوع جوانب أخرى غير مرئية، وقد تكون سلبية، وبالتالي فثمة سؤال يجب الإجابة عليه وهو: هل يستحق الأمر الدخول في مخاطرة؟

المزاوجة بين الذكاء الاصطناعي والعمل الإعلامي تبدو من وجهة نظر إدارة المؤسسات الإعلامية عملا ممتازا، بيد أن للموضوع جوانب أخرى غير مرئية (شترستوك) حرب على التغيير

يحاول الكتاب المذكور أن يجيب على تلك الأسئلة المركزية من خلال صفحاته التي تفوق الـ200، بيد أن الثيمة الأساسية التي يركز عليها المؤلف هي التغيير الذي يمكن أن يحدثه الذكاء الاصطناعي على صناعة الصحافة، وخاصة مجريات العمل داخل غرف الأخبار، حين يتم توظيف أدواته على نحو صحيح ومفيد.

إعلان

وبحسب المؤلف، فإن التغيير في صناعة الأخبار لم يكن سهلا في يوم من الأيام، فالصحافة المطبوعة توجست من الإذاعة، وشعرت الأخيرة بالتحدي نفسه حين ظهور التلفزيون، وشن أنصار الصحافة المطبوعة حملات مكثفة على صحافة الإنترنت.

ففي الفصل الأول من الكتاب، يقدم المؤلف توني سلفيا تاريخا موجزا للذكاء الاصطناعي، وأصوله وبداياته، وكيف يعمل، ومجالات استخدامه التي من بينها مجال الصحافة الذي هو موضوع الكتاب.

ويرى المؤلف أن الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي موجودة منذ سنوات، بيد أن الظهور الأقوى له كان في العام 2022 خاصة مع ظهور ما يعرف ببرنامج "شات جي بي تي" (CHAT GPT).

وفي هذا الفصل يتطرق المؤلف أيضا إلى مظاهر الخوف التي صاحبت ظهور الذكاء الاصطناعي، خاصة ما يتصل بإمكانياته الواسعة، التي تتيح له القيام بجميع الأعمال بما فيها تلك التي تتطلب جهدا بشريا خالصا، مما يؤدي إلى فقدان الكثيرين لوظائفهم.

المؤسسات الإعلامية أدركت أهمية وجود الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار وقدمت ذلك على الاعتبارات الأخرى التي كانت تمنعها من المضي قدما في تبنيه (شترستوك) ضيف في غرفة الأخبار

في انتقاله إلى الفصل الثاني من الكتاب، يشير المؤلف إلى أن الذكاء الاصطناعي دخل إلى العديد من غرف الأخبار قبل عشر سنوات وقبل انتشار الحديث عنه في السنوات الأخيرة، حيث يستفاد منه منذ وقت في أعمال كثيرة.

ويشير المؤلف في هذا الفصل إلى تجربة وكالة أسوشيتد برس التي بدأت استخدام الذكاء الاصطناعي عام 2014 في إنتاج بعض المواد في القسم الاقتصادي مثل أخبار أرباح الشركات، وكان منطق الوكالة أن إنتاج هذا النوع من المواد الذي يقوم على تحليل الأرقام عبر الذكاء الاصطناعي يوفر الوقت والجهد لإنتاج مواد أخرى مميزة.

ويورد أن وكالة أسوشيتد برس سبقت المؤسسات الإعلامية الأخرى في مجال استخدام الذكاء الاصطناعي في جمع وتحرير الأخبار، والتي لم تبدأ في الانتباه إلى هذا القادم الجديد إلا في السنتين الماضيتين. ووفق المؤلف فإن المؤسسات الإعلامية أدركت أهمية وجود الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، وقدمت ذلك على الاعتبارات الأخرى التي كانت تمنعها من المضي قدما في تبنيه.

إعلان

ويشير المؤلف إلى أن تبني الذكاء الاصطناعي داخل غرف الأخبار يتم عبر 3 مراحل:

المرحلة الأولى: الأتمتة ويتم فيها إعفاء الصحفيين من الأعمال الروتينية والمهام المتكررة، وبالتالي يمكنهم الإفادة من الوقت في إنجاز أعمال صحفية مميزة. المرحلة الثانية: مرحلة التعزيز، التي يتم التركز فيها على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في تحليل النصوص والبيانات الضخمة. المرحلة الثالثة: وهي مرحلة التوليد، التي يتم فيها استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لكتابة النصوص، خاصة مع تطور النماذج اللغوية الضخمة القادرة على إنتاج نصوص على نطاق واسع، وهي المرحلة التي يعتقد المؤلف أنها تخيف الصحفيين من أن يتسبب الذكاء الاصطناعي وما يقدمه من مهارات وخدمات في فقدان وظائفهم.

لكنه يشير إلى ضرورة الحذر والانتباه عند تبني الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، وخاصة في المرحلة الثالثة وهي مرحلة الكتابة، فهناك إمكانية كبيرة لوقوع أخطاء في المعلومات، أو ما يتصل بالملكية الفكرية، وهنا لا بد من تدخل بشري يراجع ما ينتجه الذكاء الاصطناعي تحسبا لي خطأ.

ويورد المؤلف العديد من الأمثلة على مشاكل استخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة الموضوعات الصحفية مثل ذلك المقال الذي اقترح أن حل مشكلة المشردين في سان فرانسيسكو يكون بإطلاق النار عليهم!

المؤسسات الصحفية كثيرا ما تقاوم أي تغييرات فيما يتصل بنماذج عملها إلا أن الذكاء الاصطناعي بإمكانياته الواسعة يجعل التغيير عملا ضروريا (شترستوك) كيف تبدو غرفة الأخبار المعتمدة على الذكاء الاصطناعي؟

يوضح المؤلف في الفصل الثالث، الذي حمل العنوان أعلاه، أن عمل معظم الصحفيين عن بعد أثناء فترة وباء كورونا قد غيّر من المفهوم التقليدي لعبارة غرفة الأخبار، فهي لم تعد ذلك الفضاء الذي يضم إدارات التحرير والصحفيين ومدققي المعلومات واللغة، والفنيين وغيرهم.

ويستشهد على ذلك التغيير بآراء كثيرين من الكتاب الذين دعوا إلى نسيان ذلك المفهوم القديم، مشددين على ضرورة إحداث تغييرات في هذا المفهوم إن أردنا للصحافة أن تتطور، ومن هؤلاء مورين دود كاتبة العمود في نيويورك تايمز.

إعلان

ويشدد على ضرورة أن يلعب الذكاء الاصطناعي دورا بارزا في إحداث تحولات داخل غرف الأخبار، ليس فقط ما يتعلق بالشكل المادي لها، وإنما في طريقة العمل وخاصة مجالات: الحصول على الأخبار، وعمليات التحرير، وعمليات عرض وتقديم الأخبار والموضوعات الصحفية الأخرى للجمهور.

في الفصل الرابع، يركز المؤلف على موضوع تغيير نموذج العمل داخل المؤسسات الصحفية، ورغم أنه يشير إلى أن المؤسسات الصحفية كثيرا ما تقاوم أي تغييرات فيما يتصل بنماذج عملها، إلا أن ظهور الذكاء الاصطناعي بإمكانياته الواسعة يجعل التغيير عملا ضروريا.

وفي هذا الخصوص يشير المؤلف إلى إمكانية الإفادة من تجربة تبني صناعة الإعلان للذكاء الاصطناعي. ويدعو إلى إعادة النظر في العلاقة غير المريحة بين صناعة الإعلان وصناعة الإعلام، التي توصلت إلى العديد من الطرق التي تجعلها تستفيد من الذكاء الاصطناعي وتضعه جزءا أصيلا في إستراتيجيتها الهادفة إلى الحصول على مداخيل جديدة.

لقد ظل الصحفيون لسنوات طويلة ينظرون لصناعة الإعلان على أنها شر لابد منه، حيث الإفادة من الدعم المالي الذي يوفره هذا القطاع، بيد أنهم في الوقت ذاته يخشون أي نفوذ محتمل له على الجانب التحريري.

ليس الخوف من إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج ونشر المعلومات المضللة، وإنما من إمكانية أن يصبح الصحفيون، ومن دون وعي، أدوات لإعادة نشر المعلومات المضللة ذاتها (شترستوك) الذكاء الاصطناعي وتحرير الأخبار السياسية

في الفصل الخامس، ينقلنا المؤلف إلى الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام 2024، حيث أعرب العديد من الصحفيين والمؤسسات الصحفية عن قلقهم من التأثير السلبي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الحملات الانتخابية. وقد ازداد القلق بعد ظهور العديد من إعلانات الحملات الانتخابية، وتصريحات المرشحين التي يبدو أنها أُنتجت باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.

إعلان

ويشير إلى مؤسسة "إيه بي سي" (ABC) التي أعربت عن قلقها ومخاوفها ليس من إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج ونشر المعلومات المضللة، وإنما من إمكانية أن يصبح الصحفيون، ومن دون وعي، أدوات لإعادة نشر المعلومات المضللة ذاتها، خاصة في ظل عدم وجود قواعد وقوانين فدرالية تجرم أو تنظم استخدام المواد المنتجة عن طريق الذكاء الاصطناعي في الحملات الانتخابية الأميركية.

ويتساءل المؤلف عن الحلول لما تمت الإشارة إليه من مشاكل، وكيف نتصدى لمشكلة إمكانية إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي في تغطية الأحداث السياسية دون التقليل من فوائد الذكاء الاصطناعي داخل غرف الأخبار.

وقد أشار إلى أن معهد بروكينغز الأميركي يشدد على أن الحفاظ على نظام ديمقراطي شفاف لا يتعارض مع الذكاء الاصطناعي حين يستخدم لتحسين ذلك النظام، ويقترح المعهد الحلول التالية:

 تعزيز محو الأمية الإخبارية، والتشديد على ضرورة وجود صحافة مهنية قوية.  التعاون بين شركات التكنولوجيا والمعاهد المتخصصة في الدراسات الإعلامية، باعتبار أن ذلك التعاون يمثل الخطوة الأولى نحو مكافحة الصور والخطابات السياسية الوهمية.  بناء الثقة أفضل وسيلة لمحاربة الأخبار والمعلومات الزائفة، وهذا المجهود يقع على عاتق شركات التكنولوجيا التي يجب أن تستمر في اختراع الأدوات التي تسهل من عمليات اكتشاف المعلومات المضللة والأخبار الزائفة.

ويختتم معهد بروكينغز بالإشارة إلى أن خطر إساءة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لا يستهدف الصحافة التي تعاني حاليا من فجوة ثقة مع الجمهور، وإنما الديمقراطية والحوكمة.

الذكاء الاصطناعي يسهم بجهد وافر في الصحافة الاستقصائية ويعين على كشف ما ترغب السلطات في إبقائه طي الكتمان (شترستوك) الذكاء الاصطناعي والصحافة الاستقصائية

يخصص المؤلف الفصل السادس للحديث عن دور الذكاء الاصطناعي واستخداماته في ترقية مجال الصحافة الاستقصائية، ويشير إلى أن هذا النوع من العمل الصحفي كان في الماضي يعتمد بشكل كبير على الاطلاع على ملفات ضخمة من الوثائق، سواء كانت ورقية أو عبر أجهزة الحاسوب، بحثا عما يمكن أن يعين في الخروج بمادة صحفية مهمة.

إعلان

ويوضح أن استخدام الذكاء الاصطناعي يفيد على نحو خاص في مجال الصحافة الاستقصائية لقدرته الفائقة على استخراج المعلومات المهمة من مجموعة من البيانات الضخمة، وتحديد المفيد منها الذي يمكن أن يساهم بدور كبير في الخروج بقصة استقصائية شديدة الأهمية.

ويستشهد بتحقيقات أوراق بنما التي تمت فيها الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي بشكل جزئي، وهي التحقيقات التي أنجزت في إطار ما تعرف بالصحافة التكاملية، حيث شاركت فيها عدة مؤسسات إعلامية، وكانت مظهرا للتعاون الوثيق بين الإنسان والآلة، التي تمت الاستعانة بها لاستخراج الكنوز من بين 12 مليون وثيقة مالية وقانونية.

ومن الأمثلة الحديثة التي يوردها المؤلف تغطية صحيفة نيويورك تايمز الأميركية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي اعتمدت فيها الصحيفة على الذكاء الاصطناعي بهدف تعزيز تغطيتها الشاملة لما يجري هناك.

وبحسب المؤلف، استخدم صحفيو نيويورك تايمز أدوات الذكاء الاصطناعي لمتابعة صور الأقمار الاصطناعية التي كشفت عن وجود 200 حفرة ضخمة في المناطق المدنية ذات الكثافة السكانية العالية، والتي رجح خبراء أن تكون نتيجة لاستخدام الجيش الإسرائيلي لقنابل تزن 897 كيلوغراما.

هذه المعلومات عن القنابل الضخمة ووزنها والأمكنة التي ألقيت عليها، لم تكشف عنها السلطات الإسرائيلية أو الأميركية، وإنما كشفتها التحليلات التي تمت بواسطة الذكاء الاصطناعي لمجموعات ضخمة من البيانات.

ويؤكد المؤلف أن الذكاء الاصطناعي يسهم بجهد وافر في الصحافة الاستقصائية، ويعين على كشف ما ترغب السلطات في إبقائه طي الكتمان، وهو بهذا المنحى يسهم في كشف السرية عما يراد إخفاؤه، وفي مكافحة الفساد.

كيف نستخدم الذكاء الاصطناعي في مواقع التواصل؟

في الفصل السابع، يتطرق مؤلف الكتاب إلى العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والسوشال ميديا، ويتناول كيفية الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي في إنتاج محتوى هذه المنصات. ومنذ ظهور منصات التواصل الاجتماعي، أصبح ترويج مواد المؤسسات الإعلامية عبرها جزءا أساسيا من عمل الصحفيين، يضاف إلى أعمالهم المتعارف عليها الأخرى.

إعلان

ومع شيوع الحديث عن الذكاء الاصطناعي وأدواته العجيبة، برزت العديد من النقاشات حول الطريقة التي يمكن بواسطتها الاستعانة بهذه التقنية الجديدة في إنشاء منشورات لوسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي تخفيف العبء على الصحفيين.

وبينما أيد الكثير هذا التوجه، حث آخرون على ضرورة الانتباه لمسائل الدقة على وجه الخصوص حين الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الذي سينشر في وسائل التواصل الاجتماعي.

ويقول المؤلف إن عام 2024 شهد ارتفاعا في عدد منشورات مواقع التواصل التي أنشئت بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي، مما خفف عبء العمل على كثير من الصحفيين.

بالمقابل هناك بعض الصحفيين الذين يرون في ذاك التوجه جانبا سلبيا، ويشيرون إلى أن ثمة إمكانية لانتشار المعلومات المضللة والمنحازة من خلال محتوى منشورات وسائل التواصل المنشأ بواسطة الذكاء الاصطناعي. ويشدد مؤلف الكتاب على ضرورة وجود عناصر بشرية تشرف على محتوى وسائل التواصل المنتج بواسطة الذكاء الاصطناعي لضمان أن يكون حقيقيا وملتزما بالجوانب الأخلاقية.

الذكاء الاصطناعي.. هل ثمة ضرورة لحراسة البوابة؟

ثمة مخاوف كثيرة من الآثار السالبة لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الصحافة، وهي مخاوف تركز على أي خرق محتمل لأخلاقيات المهنة ينجم عن ذلك الاستخدام، خاصة عند إنتاج المحتوى الصحفي، سواء كان استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي كاملا أم جزئيا.

ويشير المؤلف في الفصل الثامن إلى بعض الدراسات التي أجريت في شأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي مثل الدراسة التي أجراها مشروع "الذكاء الاصطناعي والصحافة" التابع لكلية لندن للاقتصاد عام 2023.

ففي هذه الدراسة أعرب قرابة 60% من المستطلعين عن قلقهم من الآثار الأخلاقية السالبة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة. وأوضح المؤلف أن تلك الإجابات تعكس جانبا واضحا من عدم الثقة الذي يبديه العديد من الصحفيين في المحتوى الصحفي المنتج بمساعدة الآلة.

ويشدد المؤلف على ضرورة أن تعيد المؤسسات الصحفية التفكير في موضوع الأخلاقيات الخاصة بممارسة المهنة، وأن تعيد كتابة أدلتها وموجهاتها التحريرية حتى تتضمن قواعد استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.

إعلان

ويشير إلى مجهود جمعية "صحفيون بلا حدود" الذي أسمته "ميثاق باريس للصحافة والذكاء الاصطناعي" ورأى النور في 2023، وهو الأول من نوعه في هذا المجال.

ويحدد ميثاق "صحفيون بلا حدود" الأخلاقيات والمبادئ المهمة التي يجب أن تتبناها غرف الأخبار ووسائل الإعلام العالمية عند استعانتها بأدوات الذكاء الاصطناعي في أعمالها.

والميثاق المشار إليه هو نتاج عمل شارك فيه نحو 32 من الخبراء والمختصين يمثلون 20 بلدا.

ثمة إجماع على ضرورة ألا يدفع استخدام الذكاء الاصطناعي للتضحية بمفاهيم الدقة والحقيقة والمسؤولية وأخلاقيات المهنة (غيتي) كيف تستفيد المؤسسات الإعلامية من إمكانيات الذكاء الاصطناعي؟

ويختتم المؤلف كتابه بالفصل التاسع والأخير، ويبدو أنه تلخيص لما ذكره في الفصول الثمانية السابقة، ويعنونه بما يشبه السؤال: كيف تستفيد المؤسسات الإعلامية من إمكانيات الذكاء الاصطناعي؟

ويقول: لا أحد يمكنه تحديد الوجهة التي سيكون عليها مستقبل استخدام الذكاء الاصطناعي في المؤسسات الإعلامية، ولكنْ ثمة إجماع على ضرورة ألا يدفع استخدام الذكاء الاصطناعي إلى التضحية بمفاهيم الدقة والحقيقة والمسؤولية وأخلاقيات المهنة.

ويضيف أنه حتى مع كل هذه التطورات التكنولوجية التي عاشها ويعيشها المشهد الصحفي، فإن القيم الأساسية للصحافة ظلت صامدة، بل ازدهرت.

ويورد المؤلف في هذا الفصل الأخير من كتابه بعض المقابلات التي أجراها مع خبراء وأساتذة جامعات درسوا الذكاء الاصطناعي ويدرسونه للطلاب في الجامعات والمعاهد المتخصصة، ومع صحفيين استخدموا أدوات الذكاء الاصطناعي في تغطياتهم، وآخرين يكتبون عنه لجمهور المؤسسات الإعلامية التي يعملون بها.

وفي الختام أذكر أن كتاب توني سلفيا هذا جهد من بين جهود كثيرة تسعى لفهم الذكاء الاصطناعي وتأثيراته على صناعة الإعلام، إذ إن تاريخ وسائل الاتصال والإعلام علّم البشرية أن تعطي لكل وسيلة جديدة وقتها الكافي لكي تستفيد من إمكانياتها وإيجابياتها، وتتدارك سلبياتها.

إعلان

————————————————————————————–

* عثمان كباشي: مشرف غرفة الأخبار بالجزيرة نت، ومدرب الصحافة الرقمية في معهد الجزيرة للأعلام.

مقالات مشابهة

  • كيف يغير الذكاء الاصطناعي بيئة العمل الصحفي؟
  • غذاء القابضة تستخدم الذكاء الاصطناعي في التحول الرقمي
  • الذكاء الاصطناعي يدخل على خط كأس العالم 2026
  • مختص: لن نستطيع الاستغناء عن الذكاء الاصطناعي.. فيديو
  • دور الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة في الصراعات العسكرية
  • حمدان وسلطان الشحي.. «رحلة توأم في عصر الذكاء الاصطناعي»
  • الذكاء الاصطناعي كمرآة للإنسان: هل نحن فعلًا بهذا القبح؟
  • هل يكتب الذكاء الاصطناعي فصلاً جديداً في قصة لبنان؟
  • بيل غيتس يكشف عن 3 وظائف لن يهزمها الذكاء الاصطناعي
  • مميزات جديدة لواتساب من خلال الذكــاء الاصطناعي ..فيديو