محافظة كِرمان في الجمهورية الإسلامية الإيرانية محافظة عريقة يعود تأسيسها إلى القرون الميلادية الأولى، عاصمتها مدينة كِرمان. وتعد من بين أكبر المحافظات مساحة، ولها موقع جغرافي إستراتيجي مهم ومؤهلات طبيعية وسياحية متميزة.

أغلب سكانها من الشيعة، لكن بعض التقارير تشير إلى أن المحافظة كانت إلى عهد غير بعيد تؤوي أقليات غير مسلمة.

ورغم أن قاطني كِرمان من الفرس ويتحدثون اللغة الفارسية، فإن لهجتهم الكرمانية الخاصة تجعلهم يتميزون عن سكان باقي المحافظات الـ31 الموجودة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية.

تتميز المحافظة بخصوصيات تاريخية واقتصادية جعلت منها قبلة للهجرة، وقد قدم إليها كثيرون من مناطق مجاورة من داخل وخارج إيران، وهو ما زادها تنوعا في اللهجات وغنى في العادات والتقاليد.

تشتهر كِرمان بإنتاج الفستق وبصناعة النحاس ونسج الزرابي والأقمشة وغيرها من الصناعات التقليدية والمهنية التي تميزها عن غيرها من باقي المحافظات الإيرانية. ومنحها تنوعها الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي مكانة خاصة اقتصاديا وسياحيا وصناعيا.

آثار في مدينة بم إحدى المدن التاريخية العريقة في محافظة كرمان الإيرانية (غيتي) الموقع

تقع محافظة كِرمان في الجنوب الشرقي لإيران. تحدها شمالا المنطقة الجنوبية لخراسان وغربا محافظتا فارس ويزد، وشرقا محافظة سيستان وبلوشستان، وجنوبا هرمزكان.

تعد الثانية بعد أكبر محافظة في إيران من حيث المساحة التي تصل نحو 182 ألف كيلومتر مربع، تضم عددا من المدن، في مقدمتها كِرمان (البعيدة عن طهران نحو 450 كيلومترا)، وهي التي كانت في وقت سابق عاصمة البلاد برمتها.

جميع الأطراف الشمالية والشمالية الشرقية لمحافظة كِرمان متاخمة لجبال صاحب الزمان، فيما تقترب أطرافها الجنوبية والغربية من الصحراء، مما يجعل مناخها معتدلا، ويتميز بشتاء بارد وصيف دافئ غير حار، خلافا لباقي المدن الصحراوية الأخرى.

كما أن موقعها الجغرافي يجعل منها محافظة صحراوية وأعلى منطقة في إيران بارتفاع يقارب نحو 1755 مترا فوق مستوى سطح البحر، مع وجود عدد من الجبال العالية، أشهرها جبل "هزار"، الذي يفوق علوه 4400 متر، والمشهور بأنه غني بالنباتات الطبية، وفي المقابل، تحتضن كِرمان سهولا منخفضة مثل سهل "لوط".

تُعرف كِرمان بكونها منطقة زلزالية، شهدت عبر سنوات زلازل مأساوية، أخطرها "زلزال بام" القوي، الذي ضرب هذه المدينة التاريخية نهاية سنة 2003، وخلّف خسائر ضخمة في الأرواح والبنايات.

قلعة تاريخية في مدينة بم بمحافظة كرمان الإيرانية (شترستوك) السكان

تفيد عدة تقارير إخبارية بأن اسم كِرمان مشتق من اسم أحد الفروع العشرة الرئيسية للفرس الذين أتوا إلى جنوب إيران، من أمثال ماردي وداي وباسارجادي ومعرفي.. ويقال إن هذه المحافظة كانت خلال الفترة الأخمينية جزءا من مدينة "مرزبانية" ببلاد فارس.

وفي السبعينيات من القرن الـ20، أشارت بعض الدراسات إلى وجود أقليات غير مسلمة في محافظة كِرمان. وذكرت أن عددا من الذين يعتنقون الديانة المجوسية الزرادشتية يقطنون مدنا إيرانية عديدة، وأن عددهم حسب إحصاء السكان لعام 1966، في كِرمان وحدها تجاوز 2500 شخص.

وعموما حسب الإحصاء العام للسكان للجمهورية الإسلامية الإيرانية لعام 2016، بلغ عدد سكان محافظة كِرمان نحو 3 ملايين نسمة، يتوزعون على 23 مدينة توجد في المحافظة ذاتها، لكن العاصمة كرمان تبقى أكثر اكتظاظا وكثافة سكانية، مقارنة مع باقي مدن المحافظة.

التاريخ

تعتبر محافظة كِرمان من أقدم المحافظات في إيران، وما وجود حفريات في بعض المناطق إلا دليل على أن الوُجود البشري فيها يعود إلى آلاف السنين، ويجعل جذورها ضاربة في التاريخ.

تشير بعض التقارير التاريخية إلى أن كِرمان أسسها الإمبراطور الساساني، واتخذها موقعا دفاعيا في القرن الثالث الميلادي، وما زالت أطلال قلعتي دوختر وأردشير في كِرمان شاهدتين على العصر الساساني، ثم بعد ذلك، وقعت تحت حكم الأكاسرة إلى أن فتح المسلمون بلاد فارس. وتوالت النزاعات وتمت إقامة عدة دول في المنطقة.

ولم يكن غريبا أن مرّ من المنطقة عدد من الحكام والمسؤولين، وأنها خضعت لتغير في التسمية، فكان من أطلق عليها اسم كرمانيا وهناك من عرّفها بالجواشير أو غشير.

ومن بين أشهر الروايات التي تم تداولها أن هذه المنطقة تعرضت لهجوم محمد آغا خان قاجار، الذي كان له الفضل في توحيد بلاد فارس، إلا أن حكمه انتهى سنة 1925م، وسقطت المنطقة في يد الحكم البريطاني، وبقيام الثورة الإسلامية، أصبحت محافظة كِرمان تابعة لإيران.

الاقتصاد

تزخر محافظة كِرمان بثروة طبيعية متنوعة، وتشتهر بتوفرها على مناجم غنية، وبها أكبر منجم للنحاس في العالم، فضلا عن أن قربها من موانئ جنوبية للبلاد، أهلها لتصبح مركزا اقتصاديا وسياحيا.

كما ساعدها في ذلك توفرها على مطار دولي، وعلى بنيات أساسية للنقل البري والسككي تسهل تنقل المسافرين وعبور البضائع، وشجعت عددا من الشركات التجارية على التوطين والاستقرار فوق ترابها.

جميع المؤشرات التي تُعرف بها كِرمان من موقع جغرافي متميز ومؤهلات طبيعية متنوعة تجعل منها منطقة ذات حظوة اقتصادية. وقد ساعد الطقس المناسب وتعدد الثروات الزراعية ووفرة المعادن في بروز عدد من الصناعات والحرف التقليدية التي انعكست إيجابا على الصورة السياحية للمنطقة.

وتشتهر كِرمان بإنتاج الفستق، خصوصا بمدينة رفسنجان، وبزارعة الكمون والجوز والتمور، وحياكة الزرابي ونسج الحصير والصناعة اليدوية للسجاد، إضافة إلى تطريز الأقمشة والصناعات النحاسية.

وشكلت هذه العوامل قوة جذب للمستثمرين الذين فضلوا إقامة شركاتهم، واختاروا المحافطة مركزا لأنشطتهم التجارية والاقتصادية.

محافظة كرمان تتميز بمعالمها التاريخية ومبانيها المعمارية الجميلة (غيتي) معالم

تشتهر محافظة كِرمان بأنها قبلة للسياح وللباحثين عن التراث القديم. وبعد الثورة الإسلامية في إيران، تم تسليط الضوء على المحافظة باعتبارها من بين أهم المناطق في البلاد، فكان لها نصيب كبير في تشييد المساجد، أشهرها المسجد الجامع ومسجد الإمام.

وقد صُنفت عدد من مدنها ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، لما تزخر به من تراث غير مادي، خصوصا مدينتي "بام" (هناك من يطلق عليها اسم "بم") و"ميمند"، لقِدَم تاريخهما الذي يعود إلى ما بين القرنين الرابع والسادس قبل الميلاد، ولمحافظتهما على خصوصية المساكن القديمة التي تعتمد في بنائها على الطوب الطيني.

كما أُدرج ضمن التراث العالمي عدد من الحدائق الجميلة مثل حديقة الأمير بمدينة ماهان، وحديقة فتح أباد الكائنة في قرية، اختار أباد المجاورة لمدينة كِرمان، إضافة إلى وجود معالم سياحية أخرى مثل المجمع التاريخي كنج علي خان، الذي يتكون من بازار وحمام، ومكتبة كِرمان الوطنية الجذابة للسياح بسحر جمال هندستها المعمارية.

وهناك معالم تاريخية أخرى تم تحويلها لتصبح قبلة للزوار مثل حمام وكيل، الذي خضع للترميم ليلبس حُلة مقهى تقليدي ومطعم، ودار سك عملة جانج علي خان التي أصبحت متحفا للعملات المعدنية.

مشهد ليلي من مدينة كرمان الإيرانية (غيتي) أعلام

ارتبط اسم الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني -أحد مهندسي الثورة الإسلامية- بمحافظة كرمان حيث مسقط رأسه، وبالتحديد "برهمان"، إحدى القرى القديمة في منطقة رفسنجان.

ويقول رفسنجاني في كتاب "رفسنجاني، حياتي"، الذي حكى فيه سيرته الذاتية، إن جذور قريته "برهمان" تعود إلى ما قبل الإسلام، وإن معناها "الياقوت الأحمر"، وأن سبب تسميتها بهذا الاسم راجع إلى الامتيازات الطبيعية التي تزخر بها المنطقة من كثرة الماء العذب.

ومن بين أسماء الشخصيات الأخرى التي تنتمي إلى منطقة كِرمان قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الذي اغتيل في بغداد منذ 4 سنوات، ونقل جثمانه ليدفن في مسقط رأسه كِرمان.

طبخ وأطعمة

بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية لمحافظة كِرمان، يشكل لحم الماعز عددا من الأطباق التقليدية التي تشتهر بها المنطقة. فهناك جورمي الماعز الذي يحضر بلحم الماعز والبصل والثوم، إضافة إلى اللبن الرائب. ويوجد طبق تقليدي آخر يعرف باسم الباذنجان الحليم، علما أن جميع الأطباق المعروفة بكِرمان تتخذ من اللبن الرائب مادة أساسية لها، ولا تكاد تخلو منه.

أما الكولومبي، فتعد من أشهر الحلويات التي تعرف بها كِرمان، إلى جانب القفوت، مسحوق الشكل، و"قواتو" وغيرها من الأطعمة المحلية بالمنطقة.

وخلال شهر رمضان، تتزين موائد الصائمين في كِرمان بعدد من الأطعمة في مقدمتها شوربة القمح واللبن، ومرق البرقوق، ووجبات تقليدية خفيفة مثل القتيق.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: محافظة کرمان فی إیران عددا من من بین عدد من

إقرأ أيضاً:

حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه

في 19 مارس/ آذار 2024، ألقى وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش خطابًا في العاصمة الفرنسية باريس، ظهر فيه على منصة دعائية خُصصت لفعالية تحمل خريطة مثيرة للجدل، تضم فلسطين، والأردن تحت مسمى واحد: "إسرائيل".

الخريطة التي كانت تحمل شعار إحدى المنظمات الصهيونية، تعكس تصورًا أيديولوجيًا توسعيًا يقوم على أن "إسرائيل الكبرى" تمتد لتشمل كامل الأراضي بين البحر والنهر، بل وتمتد أيضًا لتشمل الضفة الشرقية لنهر الأردن.

وجاء هذا المشهد متقاطعًا مع خطاب آخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب في 15 أغسطس/ آب 2024، أعرب فيه عن دهشته من ضآلة مساحة "إسرائيل"، مقارنة باتساع المنطقة المحيطة، متسائلًا: "هل من طريقة يمكن أن تحصل بها إسرائيل على مزيد من الأراضي؟".

هذه التساؤلات وإن جاءت مغلّفة بلغة سياسية معاصرة، إلا أنها تعكس امتدادًا لخطاب استيطاني إحلالي قديم، لطالما استهدف شرق الأردن كجزء من الطموحات التوسعية الصهيونية.

البدايات الاستعمارية للفكرة: من لينش إلى أوليفانت

منذ منتصف القرن التاسع عشر، استهدفت المشاريع الاستعمارية الغربية -وفي مقدمتها المشروع الصهيوني- الأراضي الأردنية باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لفلسطين التوراتية.

فقد أرسلت الحكومة الأميركية عام 1848 بعثة بحرية بقيادة الضابط وليم فرانسيس لينش إلى نهر الأردن والبحر الميت، في أول مهمة رسمية ذات أهداف تتجاوز الجانب العلمي، وصولًا إلى البحث في إمكانية إنشاء وطن قومي لليهود في شرق الأردن، بما يشمل "ترحيل السكان المحليين إلى محميات بشرية"، على حد تعبير الوثائق المعاصرة.

إعلان

لينش، في تقاريره، لم يُخفِ انحيازه الأيديولوجي. فقد شبّه السكان المحليين بـ"الهنود الحمر" في أميركا، وعقد مقارنة مثيرة بينهم وبين السكان الأصليين في أميركا "الهنود الحمر"، الذين رأى أنهم كانوا متوحشين وتحولوا إلى متمدّنين بفضل الاستيطان الأوروبي.

وبهذا المنطق الاستعماري، استنتج لينش أن سكان شرق الأردن "عكسوا" تلك المسيرة، وأن استبدالهم ضروري لتحقيق التقدم. في تقريره، تنبأ لينش بأن "تفكك الإمبراطورية العثمانية"، سيُمهد لعودة اليهود إلى فلسطين، وصرح عقب رفع العلم الأميركي في المنطقة بأن ذلك "قد يبشّر بإحياء الشعب اليهودي".

لم تكن أفكار لينش استثناءً. في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت دعوات مماثلة. فقد دعا يهوشع يلين، أحد مؤسسي مستوطنة "نحلات شيفع" في القدس، إلى توسيع الاستيطان نحو شرق الأردن.

وفي عام 1871، أسس شركة بالتعاون مع رجال أعمال يهود، وادعى أنهم توصلوا إلى اتفاق مع بعض شيوخ عشيرة "عرب النمر" لفلاحة أراضي غور النِّمرين شمال شرقي البحر الميت.

وفي السياق نفسه، قدّم الضابط البريطاني في سلاح الهندسة السير تشارلز وارن، وهو أحد الباحثين المرتبطين بـ"صندوق استكشاف فلسطين"، مقترحًا صريحًا لتوسيع الاستيطان اليهودي شرقي نهر الأردن.

دعا وارن إلى تأسيس شركة استيطان تستأجر الأراضي من الدولة العثمانية مقابل سداد جزء من ديونها الخارجية، وذلك ضمن إطار رؤية استعمارية تجمع بين الطموح الصهيوني، والمصالح الإمبريالية البريطانية.

ومن أبرز الشخصيات الأوروبية التي قدمت دعمًا نظريًا وميدانيًا للمشروع الاستيطاني الصهيوني في شرق الأردن كان لورانس أوليفانت. ففي عام 1889، نشر الطبعة الأولى من كتابه النادر: "أرض جلعاد"، والذي دوّن فيه مشاهداته وآراءه عقب رحلته إلى لبنان، وسوريا، وفلسطين، وشرق الأردن في عام 1880.

إعلان

رأى أوليفانت في أراضي شرق الأردن "مساحات خصبة صالحة لأقصى درجات التطوير الزراعي"، مؤكدًا أن توفر الموارد الطبيعية والظروف المناخية، يجعل من هذه المنطقة هدفًا استثماريًا جذابًا للمهاجرين اليهود.

في تحليله للسكان المحليين، أشار أوليفانت إلى أن العشائر الأردنية المتجولة "لا تملك سندًا قانونيًا للأرض"، مما يجردهم -من وجهة نظره- من أي شرعية في الوجود.

بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين وصفهم بأنهم نشروا "الخراب والفوضى"، وأن تهجيرهم إلى الصحراء التي جاؤُوا منها هو "الحل المنطقي"، على حد تعبيره.

أما المنطقة التي اقترحها للاستيطان اليهودي، فشملت كامل إقليم البلقاء من وادي الموجب جنوبًا إلى نهر الزرقاء شمالًا، وتمتد شرقًا إلى درب الحاج، وحتى أجزاء من عجلون شمال نهر يبوق (الزرقاء)، بمساحة تقارب مليونًا ونصف المليون هكتار، بحدود غربية تصل إلى نهر الأردن وساحل البحر الميت.

مشروع أرض مدين

لم تكن المحاولات الصهيونية للتمدد شرق نهر الأردن حكرًا على لورانس أوليفانت، بل مثّلت جزءًا من توجّه استعماريّ أوسع تجاوز الشخصيات الفردية وتحول إلى مشاريع متكاملة تقودها شخصيات، وجمعيات، ومؤسسات.

في مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر، حاول الثري اليهودي الألماني الأصل، بول فريدمان، تنفيذ مشروع استيطاني استعماري مشابه، ولكن هذه المرّة في منطقة مدين جنوب شرق الأردن، بدلًا من "جلعاد" التي كان أوليفانت يركز عليها.

نشر فريدمان في عام 1891 كُتيبًا من 18 صفحة بعنوان: "أرض مدين" في برلين، عارضًا فيه تصورات جغرافية واقتصادية وسكانية عن المنطقة، مدعومة بإحصاءات تفيد بأن عدد سكانها الأصليين حينها بلغ نحو 23 ألف نسمة.

وقد وُجّه هذا الكتيب إلى شخصيات يهودية نافذة في بريطانيا، والنمسا، وألمانيا بهدف كسب الدعم السياسي والمالي للمشروع. حاول فريدمان إقناع المهاجرين اليهود بأن السكان المحليين سيرحبون بهم، زاعمًا أن سكان العقبة ينحدرون من عشيرة يهودية تُدعى "بني سبت" احتفظت ببعض التقاليد الدينية اليهودية، واستنتج أن مدين كانت في الماضي جزءًا من الكيان اليهودي القديم.

إعلان

قام فريدمان بتجنيد خمسين متطوعًا من علماء ومهندسين وجغرافيين، إضافة إلى ثلاثين عائلة يهودية مهاجرة. تلقى هؤلاء تدريبات عسكرية في معسكرات خاصة بهنغاريا، والنمسا، بإشراف ضابط ألماني يُدعى لوثر فون سيباخ، بمشاركة ضباط يهود من النمسا.

وخصص فريدمان يختًا تجاريًا أطلق عليه اسم "إسرائيل"، حمّله بالمتطوعين، وكميات كبيرة من الذخائر والأسلحة وفّرها له الجيش النمساوي، ثم أبحر من ميناء ساوثهامبتون البريطاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1891، تحت العلم النمساوي. انضمّ إلى الحملة خلال توقفها في الإسكندرية عدد من اليهود المصريين الناطقين بالعربية، وتوجهت السفينة إلى منطقة "الطور" قرب مدين، حيث نُصبت الخيام وأُنشئ معسكر في وادٍ قريب.

نجح فريدمان في شراء قطعة أرض قرب قلعة المويلح، وشرع بمحاولات إضافية لشراء مزيد من الأراضي في المنطقة. ومع أن المشروع انهار في نهاية المطاف، بعد أن كلّفه ما يعادل 170 ألف مارك ألماني، إلا أن فريدمان أصر على "إنقاذ الشرف اليهودي"، وفقًا لتعبيره، ورفع دعوى ضد الحكومة المصرية مطالبًا بتعويض قدره 25 ألف جنيه إسترليني، كما حاول إعادة تمويل المشروع لاحقًا.

مشاريع استيطانية

في ذات العام (1891)، أعلن إلياهو شيد، المسؤول عن مستوطنات البارون روتشيلد، نية البارون شراء أراضٍ شرقَ الأردن لتوطين ألف مستوطن، يليهم لاحقًا آلاف آخرون. أُثيرت تساؤلات حول البنية التحتية، فأكد شيد أن خططًا قائمة لتعبيد الطرق، بل وتُدرس مشاريع مثل مدّ خط سكة حديد أو قناة مائية تربط البحر الأبيض المتوسط ببحيرة طبريا.

وفي السياق ذاته، قام الحاخام شموئيل موهيلبر، أحد مؤسسي حركة "أحباء صهيون" في روسيا، بجولة ميدانية شرق الأردن، وأعد تقريرًا خلص فيه إلى أن الاستيطان هناك أفضل من الجليل، من حيث جودة الأرض وتكلفة شرائها، شرط وجود "مائة عائلة قادرة على مواجهة أخطار البدو".

إعلان

ومن روسيا أيضًا، كتب يهوشع سيركن، أحد زعماء الجماعات اليهودية في مينسك، تقريرًا يؤكد فيه خصوبة الأراضي ورخصها شرق الأردن، معتبرًا أن مخاوف الاعتداءات البدوية لا أساس لها من الصحة، وداعيًا إلى توطين عشرات الآلاف من الصهاينة فيها.

وقد أبدت جماعة يهودية من مدينة فيلنه السوفياتية اهتمامًا مباشرًا بالاستيطان، إذ قررت إرسال ممثل لدراسة شروط الإقامة في شرق الأردن. وفي مايو/ أيار 1891، قدمت عشرون عائلة يهودية ميسورة من باكو طلبًا إلى أ. زافشتاين، تستفسر فيه عن إمكانية شراء أراضٍ للاستيطان في المنطقة.

تكررت هذه المحاولات لاحقًا. ففي عام 1893، حاول هنري دي أفيغدور شراء أراضٍ في منطقة حوران لتأسيس قاعدة استيطانية، إلا أن المشروع فشل نتيجة رفض الدولة العثمانية، وغياب الدعم اليهودي الكافي.

وفي العام نفسه، قدم أفيغدور، بالتعاون مع صموئيل مونتاغو وباسم جمعية "أحباء صهيون"، التماسًا إلى السلطان عبدالحميد الثاني للسماح بالاستيطان شرق الأردن، بعد أن فُرضت قيود على شراء الأراضي داخل فلسطين.

كما طرح الدكتور بوهلندورف خطة لجمع عدد كبير من اليهود في شرق الأردن، وتنظيم عمليات مقاومة مسلحة ضد السكان البدو، بهدف تهجيرهم وتأسيس قاعدة لما وصفه بـ"الدولة اليهودية".

في خضم هذه التحركات، برزت قضية الأراضي السلطانية (الجفالك) التي نُقلت ملكيتها من السلطان عبدالحميد إلى الخزينة العامة عقب عزله عام 1909. وقد طلب نجيب إبراهيم الأصفر – إحدى الشخصيات اللبنانية النافذة- امتيازًا لاستئجار هذه الأراضي مقابل قرض بمائة مليون فرنك، شريطة استصلاحها وبيعها لاحقًا للزراع. لاحقًا، تبيّن أن شركة بلجيكية ذات صبغة صهيونية كانت المستأجر الفعلي، في محاولة للالتفاف على التشريعات العثمانية.

كشفت صحف سورية وفلسطينية، على رأسها جريدة الكرمل، هذه الصفقة، محذّرة من خطورة المشروع على الوجود العربي في جنوب سوريا، وفلسطين، وشرق الأردن، ومسلّطة الضوء على دور جمعية "فلسطين اليهودية" خلف الكواليس.

إعلان خطة روتنبرغ (1936): الترحيل الممنهج

في عام 1936، قدّم بنحاس روتنبرغ، أحد أبرز رموز المشروع الصهيوني الاقتصادي، خطة استيطانية طموحة تستهدف جانبي وادي نهر الزرقاء في شرق الأردن. قامت الخطة على تقسيم استيطاني دقيق، حيث تُخصّص الضفة الجنوبية للفلاحين العرب، فيما تُخصّص الضفة الشمالية للمستوطنين اليهود.

جاء هذا المشروع ضمن سياق أوسع يسعى لخلق تواصل جغرافي بين المستوطنات اليهودية في غور بيسان والباقورة، من جهة، والمناطق المستهدفة شرقي نهر الأردن، من جهة أخرى، بما يعزز السيطرة الصهيونية على مفاصل زراعية ومائية حيوية.

واقترحت الخطة إنشاء شركة خاصة برأس مال يصل إلى مليوني جنيه فلسطيني، يُخصص نصف هذا المبلغ لتمويل عملية إعادة توطين الفلاحين الفلسطينيين المُرحّلين من أراضيهم داخل فلسطين إلى أراضٍ جديدة في شرق الأردن، بينما يُخصص النصف الآخر لتوطين المستوطنين الصهاينة في المنطقة نفسها.

تُظهر خطة روتنبرغ هذا المزج الدقيق بين الطابع الاستيطاني الإحلالي والآليات الاقتصادية الحديثة، التي تسعى لإضفاء مشروعية إدارية واستثمارية على مشروع جغرافي- سياسي قائم على الترحيل الطوعي للعرب والتوطين المنظم لليهود.

كما تعكس الخطة انخراطًا صهيونيًا متقدمًا في معادلة شرق الأردن، في وقت كان يُفترض فيه أن هذا الإقليم خارج حدود "وعد بلفور" المعلن رسميًا عام 1922.

أخيرًا، رغم فشل تلك المخططات المتعددة والمتتالية، فإن الأطماع الصهيونية في شرق الأردن لم تنتهِ، بل ظلت كامنة وتظهر كلما توفرت الفرصة، كما في التصريحات العلنية الأخيرة لرموز سياسية إسرائيلية، والتي تؤكد أن الأردن، بموقعه وحدوده، لا يزال في "عين العاصفة" ضمن التصور التوسعي للمشروع الصهيوني.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الحرس الثوري: يدنا على الزناد ومستعدون لأي عمل عدائي
  • إيران ترد بحزم.. تهديد مدمر من الحرس الثوري إلى إسرائيل بعد العقوبات الأمريكية
  • إيران: أي مغامرة أمريكية في المنطقة ستنتهي بما شهدته أفغانستان وفيتنام
  • مدير عام «الإمارات للدراسات» يلتقي مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية
  • الحرس الثوري الإيراني: سنرد بقوة مدمرة على أي حماقة للعدو الصهيوني
  • وزير الدفاع ورئيس الأركان يجتمعان بقيادة المنطقة الرابعة ومحاورها
  • الحرس الثوري يهدد إسرائيل برد حاسم إن هاجمت إيران
  • الحديث عن “تحرير الخرطوم” وكأنها مجرد مدينة فيها مطار وقصر جمهوري هو خطأ كبير
  • الحرس الثوري الإيراني يلوّح برد مدمّر على أي هجوم إسرائيلي
  • حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه