ألقى الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، الضوءَ، على جسر الأصالة والمعاصرة الذي يربطنا بعظماء العلماء المصريين، أجدادنا الروَّاد الذين أسَّسوا علوم الفتوى المعاصرة، وشقُّوا طريق العلم والاجتهاد، بفكر متجدد منضبط.

وقال فضيلة المفتي خلال الندوة التي أقيمت اليوم، والتي حاوره فيها الإعلامي حمدي رزق ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 55 تحت عنوان "الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر الأسبق وأثره في تجديد الخطاب الديني": في هذا العام، اخترنا الشيخ محمد بخيت المطيعي كعنوان ومحور لندوتنا السنوية في معرض القاهرة الدولي للكتاب؛ تكريمًا لمسيرته العلمية الرائدة في الإفتاء ولإسهاماته الجليلة في تجديد الخطاب الديني ودعم قضايا الوطن.

واستعرض فضيلة المفتي مسيرة الشيخ المطيعي بدايةً من نشأته، ومرورًا باجتهاده في طلب العلم من قنواته الشرعية، عن المشايخ المتخصصين بالأزهر الشريف، مشيرًا إلى عدة مواقف تؤكد شدة صبره في طلب العلم، تكللت بحصوله على أكبر الشهادات العلمية في عصره، فضلًا عن تقلُّده عدة مناصب من أرفع المناصب الشرعية في عهده، منها منصب الإفتاء.

وأضاف فضيلته: لقد كان الشيخ المطيعي مثالًا للعالِم الجامع بين الأصالة والمعاصرة، الذي استطاع أن يقدم رؤى فقهية وإفتائية مستنيرة تتجاوز حدود زمانه ومكانه، ولذا وصفه مؤرخو العصر الحديث بالمفتي العالمي، ويمكن القول إن إنشاء الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء جاءت اتساقًا مع أفكاره في صورة متطورة، فضلًا عن تقيُّده بالقوانين باعتبار أن حكم الحاكم يرفع الخلاف في أي مسألة، وخاصة الأحوال الشخصية.

وأكد مفتي الجمهورية أن الشيخ المطيعي كان ذا ثقافة موسوعية اتَّسمت بالعمق وبالجمع بين الماضي والحاضر، والتنوع والمتابعة لكل جديد، مشيرًا إلى تقديمه العديد من المؤلفات الموسوعية الشاملة والمتكاملة، فضلًا عن أكثر من 2000 فتوى.

وأشار فضيلته إلى أن الشيخ المطيعي بفهمه العميق واجتهاده البارع، كان سباقًا لعصره، مقدمًا حلولًا فقهية وفتاوى لقضايا عدة، منها فتوى جواز التصوير الفوتوغرافي، وحكم السبرتو، مشيرًا إلى أن مَن جاء بعده من المفتين قد استفاد كثيرًا من تراثه الإفتائي؛ مما يدل على رؤيته الثاقبة وفهمه المتجدد الذي تجاوز حدود زمانه.

وثمَّن فضيلة مفتي الجمهورية نبذ الشيخ المطيعي للتشدد والتعصب مستدلًّا بتحديده ضوابط مفهوم البدعة عنده على أنه ليس كلُّ مُحدَث في العبادات أو المعاملات منهيًّا عنه؛ بل الأمور المحدثة تعتريها الأحكامُ التكليفيةُ الخمسة بحسب ما تدل عليه الأصول الشرعية، وهو ما يتسق تمامًا مع رؤية دار الإفتاء المصرية حاليًّا، كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأشار فضيلة المفتي إلى أن الشيخ المطيعي قدم نظرة عميقة لمفهوم الدولة المدنية في الإسلام، وكذلك التأكيد على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام دولةً في المدينة على أساس المساواة والمواطنة.

وعن رؤية الشيخ المطيعي لمشاركة علماء الدين في القضايا الوطنية قال فضيلة المفتي: إن الشيخ المطيعي قدَّم نموذجًا راقيًا وإيجابيًّا يُحتذى به؛ فقد دعا إلى ضرورة مساندة العالِم الشرعي للوطن وقضاياه قولًا وفعلًا، فقد شارك في وضع دستور 1923م، حيث كان أحد أعضاء لجنة الثلاثين التي وضعت هذا الدستور برئاسة عبد الخالق ثروت باشا، فضلًا عن اعتزازه بمصريته ووطنيته أثناء ثورة 1919م.

وأشار فضيلة مفتي الجمهورية إلى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاء للبناء والعمران، ولم يأتِ لإقصاء أحد ولا للصراع مع أحد، ومن حادَ عن هذه الأفكار أو حاول هدم التراث الإنساني فهو يحيد عن سيرته العطرة.

وأردف قائلًا: إن الإسلام لم يهدُف أبدًا إلى صراع الحضارات أو العيش في عزلة وانغلاق عن الآخرين، بل هدف إلى إيجاد قدر كبير من الطمأنينة في العلاقات الإنسانية والتواصل والتعارف؛ فالتعارف الإنساني صيغة إلهية لتحقيق التعايش البشري ونبذ الخلاف والشقاق، بل إنَّ الإسلام أرسى قواعدَ وأسسًا للتعايش مع الآخر في جميع الأحوال والأزمان والأماكن.

وأكد فضيلة المفتي على عدم تحيز الشيخ المطيعي لمذهبه الفقهي أو الإفتائي في فتاويه، بل لم يتحيز أيُّ مُفْتٍ من المفتين على مر العصور داخل دار الإفتاء المصرية لمذهبه الفقهي، بل إن مذهب المفتي لم يؤثر في حركة الفتوى.

واستعرض فضيلة المفتي جهود دار الإفتاء في الحفاظ على الأسرة المصرية من خلال تدريب المقبلين على الزواج، فضلًا عن تقديم الدعم المتكامل للزوجين للتقليل من حالات الطلاق، مشيدًا بما قدمه المستشار عمر مروان وزير العدل من اهتمامٍ بدورات تأهيل المأذونين، داعيًا إلى ضرورة توقف الأزواج عن التلفظ بألفاظ الطلاق.

وفي رده على سؤال لأحد الحضور عن حرب غزة، شدَّد فضيلته على أن الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة يحتاج إلى أن يتكاتف العالم كله في سبيل وقف هذه الحرب وضرورة حل القضية الفلسطينية حلًّا عادلًا بما يعطي للفلسطينيين حقوقهم.

وأشار إلى أن الدولة المصرية ترفض تهجير سكان غزة إلى مصر، وهو الموقف الرسمي والشعبي للدولة المصرية، والذي سيظل فخرًا لها، فضلًا عن أن الشعب الفلسطيني متمسك بالأرض ولا يقبل التهجير.

وأشاد فضيلته بموقف مؤسسات الدولة المصرية تجاه مشكلة غزة، مثنيًا على موقف الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر الشجاع نحو القضية الفلسطينية.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: مفتی الجمهوریة فضیلة المفتی فضل ا عن إلى أن

إقرأ أيضاً:

فضيلة الشك

لعل من الآمن القول إن فضولنا المعرفي هو أحد أقوى المحركات للبحث للعلمي، وأن ثمة تجاذبا دائما بين اللهفة للتفسير، وتعجل لحظة الآها، وبين الشك المستمر في الفرضيات وفي الاستنتاجات أيضا.

يعجبني حين أعمل أن أضع السماعات، أشغل موسيقى الدراسة أو التركيز، وأنهمك في ما علي فعله. لست وحيدة في ذلك، إذ يبلغ عدد المشتركين في القناة الأشهر لهذا الغرض lofi girl أكثر من 14 مليون مشترك، هذا غير المستمعين المتلصصين من أمثالي الذين يستمعون دون اشتراك.

وأنا أُحرر هذا العدد من الملحق، وحين تعرضت للمقال الذي ينشر هنا بعنوان «الحرب على المخدرات الرقمية يبدأ من رصدها»، تخوفت من أن تكون الموسيقى التي استمع إليها تنتمي لنوع «النغمات الثنائية» التي يُحذر الكاتب من خطرها.

حتى بعد أن اتضح أن موسيقى اللو-فاي لا تندرج بالضرورة تحت النغمات الثنائية واصلت البحث في مدى موثوقية الافتراض القائل بضرر هذه النغمات.

يكشف لنا تاريخ العلوم أن تحيزاتنا تؤثر في طريقة إنجازنا للأبحاث العلمية، وبالتالي في النتائج التي نخرج بها. كيف أن ورقة تأسيسية أو مصدرا ما يأخذ مسار البحث لاتجاه منحرف لعقود، عندما لا ينجح العلماء في مساءلة فرضياته أو نقده كما يجب.

أحد الأمثلة يُنشر في هذا العدد حول تاريخ التوحد، وفكرة أنه مرض لا يصيب النساء، إلا فيما ندر. هذه الفرضية جعلت الأبحاث تهمل أو تستبعد نصف المرضى المحتملين. وعند تتبع المسألة يُكشف التالي: «زُرع الاعتقاد بأن التوحد هو حالة مرتبطة بالذكور في وقت مبكر جدًا. وذلك عندما أشار هانز أسبرجر - أحد من يطلق عليهم «آباء التوحد»- خصيصا إلى نوع من الذكاء الذكوري المفرط في دراساته للحالات التي اقتصرت على الفتيان. بحلول ستينيات القرن العشرين، كانت دراسات التفشي المبكرة تشير إلى أن نسبة الذكور إلى الإناث تبلغ 1:4، وهو رقم غالبًا ما يُستشهد به اليوم على مواقع التوحد وفي كتيبات الإرشاد، بل وفي الأوراق البحثية». ومن هنا مضت هذه الفرضية دون مساءلة.

مثال آخر، يكشفه لنا فرانسيسكا مِزينزانا وغابرييل شايدكر في مقالهما المطول حول «رعاية الطفولة والهيمنة»، إذ يقولان إن سياسات التدخل المبكر، بما في ذلك التدخل المتطرف بانتزاع الأطفال من عوائلهم وإلحاقهم بمدارس أو مؤسسات عامة بحجة توفير ما يضمن لهم النمو الذهني الأمثل. ويكشفان أن الأساس الذي تبنى عليه الأوراق العلمية وواضعو السياسات هو في الأصل نموذج متطرف من الحرمان. يقولان: «تستند معظم الأبحاث حول تأثير الحرمان على الدماغ في مرحلة النموّ إلى دراسات أُجريت على الأطفال الذين تم تبنيهم من دور الأيتام الرومانية بعد سقوط نظام تشاوشيسكو عام 1989، والذين عرفوا الحدّ الأدنى من التواصل البشري، وهو أمرٌ لن تعيشه الغالبية العظمى من أطفال العالم». أي أن الباحثين وصناع القرار باعتمادهم على هذه الدراسات يُسقطون استنتاجات جاءت في سياق خاص على حالات «طبيعية» من الفقر والحرمان.

ما الذي أرمي إليه من خلال هذه المقدمة الطويلة؟

بعد الاطلاع على الأوراق العلمية التي تبحث الموضوع، لا يُوجد -كما أرى- أساس مقنع «بعد» للحسم بأن للنغمات الثنائية التأثير الإدماني الخطير الذي يدعيه المقال. وأن الاسم

الإيحائي لها «مخدرات رقمية» هو ما يوحي بالشبه بينها وبين المخدرات التقليدية، وأن أثر هذه الموسيقى أشبه بالتأثير السحري للموسيقى العادية منه بتجارب التعاطي. يحدث كثيرا أن يقع العلماء في فخ الاستعارات. وهذا بالنسبة لي واحد من الأمثلة على ذلك.

والآن، ماذا تقول لنا الدراسات المتوفرة عن النغمات الثنائية؟

ثمة اعتراف لدى الباحثين بأثر النغمات الثنائية على الدماغ. حققت كل من سوزان أ. ريديك، وآن بولدرز وبرنهارد هوميل في 2013 في تأثير هذه النغمات على الإبداع في سياق دراستهم للتحسين المعرفي عبر المحفزات الإدراكية (النغمات الثنائية في هذه الحالة)، وخلصوا إلى أن لها تأثيرا إيجابيا على مهام تستلزم أنماط تفكير من نوع محدد لدى بعض الأشخاص.

دراسات أخرى حاولت البحث في أثر النغمات الثنائية على الذاكرة، معالجة القلق، وغيرها. لكن الدراسة الأكثر شمولية ربما هي التي أجرتها روث ماريا إنجيندوه، إيلا س. بوسني، وأنجيلا هاينه مؤخرا (2023) مراجعة للأدبيات التي تبحث في أثر النغمات وإمكانيات التدخل النفسي التي تمنحها. خلصت المراجعة إلى أن النتائج متضاربة، وفوق هذا فإن تصميم التجارب، منهجيات التنفيذ، وتحليل النتائج متباينة من دراسة لأخرى للحد الذي يجعل مقارنتها غير ممكنة أساسا. وتؤكد الدراسة في النهاية على الحاجة إلى وضع مقاربة معيارية تضمن أساسا مشتركا للدراسات المستقبلية في مجال التحفيز بالموجات الدماغية لأجل الخروج بتبصرات موثوقة.

أظن أن هذا الاستعراض كافٍ للخروج بخلاصة أن موضوع الأثر -سواء الإيجابي أو السلبي- غير محسوم إلى اليوم، فما بالك بالإجماع على أضرار النغمات الثنائية، أو الاتفاق على شكل الإدمان الذي تسببه.

ثمة أسئلة كثيرة لا بد من الانتباه إليها قبل القفز إلى رصد النغمات. إذا ما كان الكاتب مؤمن بأن للنغمات الثنائية آثارا حميدة، فلا بد من توضيح الآلية التي تتحول بها الموسيقى التي تساعد الكثيرين على تهدئة أنفسهم أو التركيز إلى شيء ضار. فكرة أن «الإفراط» في الاستماع إليها هو ما يسبب «الإدمان» قادم من معاملة هذا الشيء غير المادي «موجات الصوت» كشيء مادي «مخدر». سؤال آخر، أين يكمن الحد الفاصل بين تأثير الموسيقى العادية، التي تُعرف بأثرها على المزاج كما يحدث لأي شخص يستمع إليها، والأثر الخاص للنغمات الثنائية، بل وكيف يكون لها أثر خاص، أعني ما هو مكمن هذه الخصوصية؟ لا يكفي القول بأن خصيصتها (أنها ذات ترددين مختلفين، كل منهما يُسمع عبر إحدى الأذنين) مؤذية دون إقامة دليل. وإلا مال الناس (كما يحق لهم، وأنا منهم) إلا الاعتقاد بأن هذه القفزة هي ناتجة من معاداة كل جديد، وليس من الفحص المدروس والمتأني لأثرها.

من دون إعطاء فضاء لهذه الشكوك، لا تُصبح الأوراق العلمية -مهما بلغت مكانة المجلات التي تنشر عليها أو المؤتمرات التي تحتفي بها- أكثر موثوقية من رأي شخصي.

وإن كانت كثير من الأنشطة الإنسانية تقوم على إظهار الثقة ومحاولة الإقناع، فإن ما يميز الممارسة العلمية هو الشك والمساءلة وإعادة التفكير.

نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم

مقالات مشابهة

  • مفتي الجمهورية يعزي المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية السابق في وفاة شقيقه
  • مفتي الجمهورية يدين استهداف وفد دبلوماسي بنيران الاحتلال في جنين
  • الرئيس السيسي يثمن موقف بريطانيا تجاه القضية الفلسطينية ومستجدات الأوضاع في غزة
  • مفتي الجمهورية يُدين استهداف وفد دبلوماسي دولي بنيران قوات الاحتلال خلال زيارته إلى جنين
  • مسير مسلّح في مديرية الوحدة بالأمانة يجسّد الجهوزية ويعلن البراءة من الخونة والعملاء
  • مدبولي: كلمة الرئيس بقمة بغداد عبّرت عن موقف مصر تجاه حرب غزة
  • الصحة: أكثر من 120 مليار جنيه خصصتها الدولة المصرية لتطوير البنية التحتية الطبية في كافة أنحاء الجمهورية
  • فضيلة الشك
  • عضو بحزب النهضة الفرنسي: موقف باريس يعكس تحولًا إنسانيًا أوروبيًا تجاه القضية الفلسطينية|فيديو
  • برلماني: لقاء الرئيس السيسي بنظيره اللبناني يعكس موقف مصر المشرّف تجاه القضايا العربية