مشاعر حزينة موثقة في وداع الفقيد السفير خالد راجح اليافعي
تاريخ النشر: 28th, March 2024 GMT
انتقل الفقيد الصديق السفير الدكتور / خالد راجح شيخ اليافعي إلى جوار ربه يوم الأربعاء الموافق 14 فبراير 2024م، في دولة الكويت، بعد حياةٍ حافلة بالعطاء والجهد والاجتهاد والمثابرة .
تعيدني الذاكرة في التعرف عليه وعلى سجاياه الجميلة الرائعة مُنذ أن كُنا طلاباً يافعين في ثانوية / باجدار لدراسة المرحلة الثانوية في مدينة زنجبار في العام 1975م، كنا يوم ذاك مجموعة من طلاب أبناء محافظة شبوة، انتقلنا إلى مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين لاستكمال الدراسة الثانوية فيها، حيث انتقلنا من إحدى محافظات اليمن الجنوبية البدوية القاسية، وانتقلنا إلى حاضرة أبين الخضراء الجميلة زنجبار حيث الماء والخُضرة والوجه الحسن، وكنا نردد كزملاء فيما بيننا بأننا كنا محظوظين حينما اتخذ القرار بمواصلة دراستنا في هذه المدينة الجميلة ذائعة الصيت والشهرة يوم ذاك، وذات التاريخ والشأن السياسي اللافت في صنع الأحداث الراديكالية في تاريخ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، كيف لا وهي المدينة الفضلية الأبينية التي تزخر بالأحداث والمواقف النضالية، والرموز الثورية الكفاحية والإبداعية .
فكان اسم الرئيس / سالمين يتردد صداه بقوة وسحر وجاذبية في أرجاء اليمن باعتباره زعيم الكادحين والفقراء والمعوزين، واسم الرفيق/ علي صالح عباد (مقبل) باعتباره المنظر الروحي والتنظيمي للتنظيم السياسي للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل من بريطانيا (العظمي)، واسم الأخ / جاعم صالح اليافعي الذي شغل منصب سكرتير أول للتنظيم السياسي للجبهة القومية في محافظة أبين، وكان الرفيق / محمد علي أحمد العوذلي المحافظ الحديدي الصلب لأبين، وكان الفنان المثقف الأنيق / محمد محسن عطروش الذي ملأ سماء وأثير اليمن كلها بالأغاني والأناشيد الوطنية والعاطفية، وكان الرفيق / ناصر صالح جعسوس يُعدُّ الأب الروحي للشباب اليمني في اليمن الديمقراطية، والكابتن / فيصل محمد سعيد الحوثري كان يومها قائداً لمنتخب كرة القدم لنادي حسان الشهير بالمحافظة، هؤلاء الكوكبة اللامعة من الرموز الإنسانية الوطنية اليمنية لهذه المدينة / المحافظة الصاخبة الراقية في أزهى عصرها الذهبي، قد شكلوا رموزاً وقناديلاً مشعة ومنيرة لمحافظة أبين.
جئنا من محافظة شبوة لنلتقي كشباب متوثب ومتحفز، منطلقين في الحياة بعنفوانها وحيويتها وتفاؤلها بعالم زنجباري أبيني طلابي جديد مليءٍ برونق الحياة العصرية الزاهية، مقرونة بالتفاؤل والأمل والحيوية المشرقة.
في هذه الأجواء الطلابية الشبابية التقينا وتعارفنا بزميلنا وصديقنا الفقيد المرحوم السفير الدكتور / خالد راجح، وكان يوم ذاك يتبوأ منصب قيادي نقابي طلابي في الحركة الطلابية اليمنية في محافظة أبين، تعارفنا به وكان شديد الاهتمام بنا كوننا ضيوفاً على المدرسة والمدينة، وكان يُقدم لنا النصائح والتوجيهات اللازمة في كيفية التعامل مع الحياة الطلابية الجديدة في ثانوية زنجبار، علما بأنها كانت الوحيدة في محافظتي أبين وشبوة معاً.
أتذكر من زملائي في الدفعة القادمة من م/ شبوة، والبعض منهم لا زالوا بصحة وعافية ممتازة بإذن الله، وهم : ـــ
الأستاذ/أحمد سالم الجرباء البابكري (بروفسور كبير في جامعة عدن)، والأستاذ/ أحمد محمد ثابت العولقي (بروفسور لامع في جامعة شبوة)، والأستاذ/ ناصر محسن باعوم الخليفي (بروفسور في جامعة عدن وقيادي سابق في الدولة اليمنية)، والأستاذ/ حسين أحمد لقور بن عيدان الهلالي (طبيب استشاري يعيش في السعودية، وهو معارض جنوبي سياسي انفصالي عنيد لم يحقق بعد شيئاً من أحلامه)، والأستاذ/ حسين الباكري البيحاني (طبيب اختصاصي كبير في مجال الأدوية)، والأستاذ/ عبدالله حسن بن فهيد (أخصائي تربوي مرموق ومحترم في مجال التربية والتعليم)، والأستاذ/ علي سعيد نصيب (ضابط أمني كبير وتطور حتى أصبح داعية إسلامي سلفي)، والأستاذ/ محمد سالم العاض الهلالي (خريج جامعي من جمهورية رومانيا، واستشهد في أحداث 13 يناير الحزينة)، والأخ / سالم ناصر النقيب بن فهيد (كابتن طيار على طائرة الهيلوكبتر العسكرية)، والأخ /محمد حسين باعينين بن فهيد (تخرج من ألمانيا، واستشهد في أحداث 13 يناير الحزينة)، والأخ / سعيد محمد باعوضه الحِميري (هاجر إلى إحدى دول الخليج وانقطعت عنا أخباره)، وهكذا هي مسيرة الدنيا الطبيعية في هذه الحياة المؤقتة والعابرة، تضمنا وتجمعنا صفوف الدراسة بمراحلها المختلفة وتفرقنا دروب الحياة العملية الوعرة.
جميع هؤلاء الزملاء أعلاه قد احتفظوا بعلاقات أخوية زمالية طيبة مع فقيدنا العزيز الدكتور / خالد راجح اليافعي حتى آخر حياته الزاخرة بالعطاء والنجاحات المهنية القيادية.
بعد الانتهاء من دراسة المرحلة الثانوية اتجه كل واحد منا في تلك الدروب التي تؤدي به إلى تحقيق أحلامه ورغباته وطموحاته في هذه الحياة، فقد اتجه زميلنا الفقيد للدراسة خارج الوطن تحديداً إلى جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية واستمر حتى أكمل الدراسة هناك وحصل على شهادة الدكتوراه العليا في تخصص الاقتصاد، وأعد وأنجز في اختصاصه مجموعة وازنة من الأبحاث العلمية والكتب الاختصاصية التي تزين عدداً من المكتبات اليمنية والعربية.
لقد أبدع كثيرا في عمله القيادي كوزير للتجارة والصناعة في حكومة الأستاذ / عبدالقادر باجمال وطوّر من آليات عمل الوزارة متكئاً علي دراساته البحثية الجادة، وأبدع كذلك في مهمته القيادية كسفير في دولة الكويت الشقيقة في حكومة البروفسور / علي محمد مجور، وطور يوم ذاك علاقات بلدينا الجمهورية اليمنية ودولة الكويت.
وأتذكر أنني في إحدى زياراتي الأكاديمية لدولة الكويت الشقيقة وكان حينها يشغل منصب سفير بلادنا هناك، قد قام بمهامه البروتوكولية الدبلوماسية بنجاح لافت، وأظهر مهارات نوعية وكفاءات عالية أثناء الزيارة، في سير المحادثات والتوقيع على الاتفاقيات الأكاديمية والعلمية والثقافية مع المؤسسات ذات العلاقة.
واختتم حياته الزاخرة بالنشاط والعطاء والمثابرة في أن يعمل كخبيرٍ دولي في صندوق النقد العربي ومقره دولة الكويت .
ماهي الخصال الحميدة التي يتميز بها صديقنا الفقيد السفير الدكتور / خالد الذكر والمروءة والقيم الإنسانية السامية : ـــ
أولاً: مَن تعايش وعرف صديقنا الفقيد/ خالد سيلمس عن قرب، وسيعرف حجم اهتمامه الشديد بالعلاقات الأخوية والزمالات الرفاقية مع زملاء الدراسة وزملاء العمل السابقين، ويحترم كثيراً العشرة السابقة ويحافظ عليها وعلى تلك العلاقات السابقة من أي موقع قيادي كان يشغله، وأنه قد ساهم كثيراً في دعم أصدقائه وزملائه بما تمكنه ظروفه وإمكاناته، وهذه ميزة من أهم مميزاته، وهي نادرة الحدوث في أيامنا هذه.
ثانياً: يتصف صديقي/ خالد بن راجح بصفة التسامح الجم والذي يفتقده الكثيرون، وبحكم ما حدث من صراعات سياسية وحزبية ومناطقية وقبلية بين منطقته يافع وعدد من المناطق الأخرى في جنوب الوطن، تجده يبحث دائماً عن قواسم مشتركة مع الغير للحث والعمل على تجاوز سنوات الكراهية المناطقية التي حدثت وربما لازالت آثارها باقية حتى يومنا هذا، فبحكم قربنا وزمالتنا كنت أحس وألمس حجم التسامح الذي كان يشغل ذهنه ونفسيته وطبيعته الإيجابية جداً تجاه خصومه السابقين.
وما أكثر الحوادث الدموية المرعبة التي حدثت في جنوب الوطن من ظواهر الكراهية والبغضاء والقتل بالبطاقة والهوية الشخصية بين الإخوة الأعداء.
ثالثاً: امتاز صديقي / الخالد بالقراءة الدائمة وتطوير الذات، وتحدثنا وإياه كثيراً في شؤون الثقافة والمثقفين ومستوى التطور أو التأثر أو التأخر في هذا المجال، فهو مثقف نوعي مطلع وسياسي ذكي ورجل حوار ماهر.
رابعاً: كان شغوفاً بالحوارات السياسية والفكرية والثقافية العامة والشاملة، ولديه عمق وغزارة في مفاهيم الفكر السياسي، وكان في جميع حواراته يحترم كثيراً الرأي والرأي الآخر، مع أننا تتلمذنا – أنا وهو – على التربية الحزبية أحادية الفكرة، وشمولية الموقف من الآخر، وهي طبيعة التربية الثقافية الحزبية الاشتراكية التوتاليتارية، ومع ذلك فصديقي/ خالد تميّز عن الآخرين بروحه الإيجابية القابلة للغير في الفكر والثقافة والأيديولوجيا .
خامساً: عُرف عن الدكتور/ خالد راجح مثابرته في تطوير قدراته الوظيفية والمهنية والثقافية والنظرية من خلال الاطلاع على آخر الأفكار والكتابات والأبحاث النظرية الإدارية والاقتصادية والفكرية، وتطوير قدراته تعتمد على الاطلاع على آخر العلوم والمعارف والخبرات في مجال اختصاصه.
سادساً: له موقف إيجابي ثابت من الصراعات الحزبية السلبية التي دارت في جنوب اليمن ونتائجها في المؤسسات السياسية والحزبية والإدارية، وذلك الموقف له أثر إيجابي جداً على جميع الزملاء المتخاصمين حد العداوة المقيتة.
سابعاً: كان صديقي السفير الدكتور / خالد راجح شيخ اليافعي محباً للثقافة والمثقفين من جميع الشرائح الاجتماعية ومن جميع محافظات اليمن بشطريها، وكارهاً بوضوحٍ لجميع الشلل المناطقية والانفصالية والقروية المريضة، وللعلم فإن ظاهرة المناطقية القروية التي تستلهم تغذيتها من قِبَل عدد من مطابخ في قيادة المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني للأسف يوم كان قابضاً بكلتا يديه وأسنانه ونواجذه على تلابيب ومفاصل سُلطة (العمال والفلاحين والبروليتاريا الرثة) في جنوب الوطن قبل تحقيق الوحدة اليمنية المباركة.
الخلاصة:
لقد خسرت الجمهورية اليمنية كادراً قيادياً سياسياً مثقفاً موهوباً في وقت احتياجنا الشديد له ونحن نعيش الفصول الأخيرة لحرب العدوان الأَعْراَبِي الرجعي وحصاره على اليمن السعيد، وخسرت أنا شخصياً صديقاً صدوقاً جمعتنا وأياه زمالة مراحل الدراسة والعمل معاً في إطار أجهزة الدولة اليمنية القيادية، تقبل الله روح ابن راجح بواسع الرحمة والمغفرة وقبوله مع الصديقين والشهداء الأبرار، وألهم الله أهله وذويه وأصدقاءه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفوق كل ذي علم عليم
رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
مقال «الأسبوع» يزلزل الاحتلال.. مرصد إسرائيلي يتهم الدكتور محمد عمارة بالتحريض ضد إسرائيل
اتهم المرصد والمعهد البحثي الإسرائيلي الشهير (Palestinian Media Watch) الدكتور محمد عمارة تقي الدين بمعاداة السامية والتحريض على كراهية إسرائيل والدعوة لزوالها.
حيث قام المرصد بترجمة مقال الدكتور عمارة والمنشور بجريدة الأسبوع وهو بعنوان ( نهاية إسرائيل.. هل ذلك ممكن؟)
أحدث المقال زلزالا هز دولة الاحتلال، حيث تم التعقيب عليه بأنه معاد للسامية ويحرض على كراهية إسرائيل ويدعو لزوالها.
والحقيقة أن المقال، وكما أكد لنا الدكتور عمارة، هو جزء من دراسة علمية موثقة بالمراجع الأصيلة والتي أغلبها إسرائيلية، وأن كل ما ورد بالمقال هو شهادات من يهود وصهاينة من داخل الكيان الصهيوني وخارجه، وكلهم يؤكدون حتمية نهاية الكيان الصهيوني إذا ما ظل متبعاً سياساته الإجرامية بحق الفلسطينيين.
وإن كان بالمقال ثمة تحريض فهو ضد جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها هذا الكيان الغاصب ضد شعب أعزل يكافح من أجل تحرير أرضه وحقه في تقرير مصيره.
جدير بالذكر أن للدكتور محمد عمارة تقي الدين عددا من المؤلفات والأبحاث العلمية المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني لعل أبرزها " موسوعة الصراع العربي الصهيوني.. .نحو خريطة إدراكية جديدة ".
وها هو نص المقال الذي كانت قد نشرته الأسبوع:
نهاية إسرائيل.. هل ذلك ممكن؟
الدكتور محمد عمارة تقي الدين
"الاحتلال جُملة اعتراضية في حياة الشعوب"، هكذا يؤكد مفكرنا الكبير جمال حمدان على حتمية نهاية كل فِعل احتلال، مادامت قلوب الشعوب تنبض بالحرية، ولا تُسقِط من ذاكرتها قضيتها.
كما أن مُغتصِب الحق دائمًا ما يشعر أن الحق حتمًا سيعود لأصحابه، وأن المجرم يطارده جُرمه، لذا دائماً ما تنهشه هواجس النهاية المأساوية.
ومن ثم دعنا نحاول الإجابة عن السؤال الذي لا يكٌفُّ عن طرح نفسه المَرّة تلِو الأخرى: متى يدخُل الكيان الصهيوني متحف الفصل العنصري، والتطهير العرقي، ليصبح جزءًا أو حفريّة من الماضي؟
متى نصادف شاهد مقبرة مكتوباً عليه: هنا يرقد الكيان الصهيوني؟ أي متى يزول هذا الكيان الغاصب بصيغته الحالية، لينتهي هذا الصراع الوحشي من الوجود؟
إن الغوص في أكثر مستويات التحليل عمقاً هو أمر من شأنه أن يخبرنا أن زوال الكيان الصهيوني بشكله الحالي هو أمر حتمي، هو ضرورة وجودية قبل أن يكون ضرورة أخلاقية.
إن لم يجر تفكيك هذا الكيان الغاصب، ولو جبراً، ومن ثم إعادة تركيبه بشكل وصيغة إنسانية بما يسمح باستعادة الحق الفلسطيني كاملاً، إن لم يتّخذ هذا الطريق، فحتمًا ستكون نهايات الحد الأقصى مصيره بانخراطه مع كل جيرانه في حروب مُميتة له قبل غيره.
وتدفع الكثير من المعطيات الحالية بحقيقة أن هناك أملًا يلوح في الأفق، فيما يتعلق بنهاية هذا الكيان بصيغته الحالية، يقول الكاتب الإسرائيلي المتخصص في دراسات الشرق الأوسط زيفي بارئيل:" الأجيال الجديدة في العالم كله بدأت في رفض العجرفة الإسرائيلية، وتصرفها بوقاحة، واستخفافها بالقانون الدولي، ومن ثم أدركت حقيقة كون إسرائيل باعتبارها آخر كيان استعماري في العالم.. ها هو جبل الجليد الضخم يتبدى في الأفق، والذي ينتظر إسرائيل كسفينة تايتنك، في حين يرقص القبطان، والملاحون، ويلهون على ظهر السفينة".
وفي هذا الاتجاه يدفع كثيرون، وعلى رأسهم عبد الوهاب المسيرى، رحمه الله، بأن هاجس نهاية إسرائيل هو شعور يضرب بجذوره عميقًا في الوجدان الصهيوني، فالصهاينة - وكما يؤكد المسيري - يتخوفون من تكرار ما حدث للممالك الصليبية التي زالت جميعًا، إذ باعتقادهم أنه قانون صارم من شأنه أن يسري على كل الكيانات الاستيطانية، ومن ثم يتملكهم شعور بأنهم يَسبَحون ضد حركة التاريخ وقوانينه الصارمة.
والحقيقة أن هذا الهاجس ـ هاجس النهاية ــــ هو هاجس مركزي وناشب بمخالبه في الوجدان الصهيوني منذ البدايات الأولى لهذا الكيان الغاصب، فقد كان ديفيد بن جوريون يردد:"ستسقط إسرائيل بعد أول هزيمة تتلقاها".
بل إن كثيراً من الصهاينة لديهم قناعة تامة بحتمية النهاية، مؤكدين أن أكبر عمر لمملكة يهودية، وهي مملكة الحشمو نائيم، لم يتجاوز الثمانين عاماً، فهي عقدة أو لعنة العقد الثامن والتي أشار إليها بنيامين نتنياهو نفسه.
وفي الوقت الراهن تزايد هذا الإحساس، في تحدٍ لما اعتقدت الحركة الصهيونية أنه سيزول بمرور الوقت، وأن إسرائيل ستندمج شيئاً فشيئاً في محيطها الإقليمي ليصبح هذا المحيط غير قادر على العيش بدونها.
فقد أعرب السياسي الإسرائيلي يوسي ساريد عن تشاؤمه إزاء مستقبل دولة الكيان الصهيوني، مؤكدًا أنه إذا استمرت الأوضاع هكذا فضمان استمرارية الدولة في المستقبل هو أمر من المشكوك فيه، لذا لابد أن ينتهي الاحتلال عاجلًا أم آجلًا.
وإذا كان الفن هو انعكاس صادق لقضايا وهموم أي مجتمع، فالمتتبع للسينما الإسرائيلية، يري كيف وأن هاجس النهاية لا يكُفّ عن مطاردة الإسرائيليين، فحديثًا تم إنتاج فيلم سينمائي بعنوان "عام 2048"، يتناول نهاية إسرائيل وزوالها من الوجود بعد مئة عام من إنشائها، أي عام 2048م، وقد علَّق مخرج الفيلم قائلًا:"نحن نندفع في الاتجاه الخاطئ بشكل يمكنه أن يدمر الدولة.. فالخطر كل الخطر ليس من التهديد الخارجي، بل من الداخل، فإسرائيل مُقسَّمة، وتضم مجموعات متنافرة من البشر ومتصارعة، ومن ثم يجب إيجاد حل جذري لتلك المشكلة".
وهناك رواية إسرائيلية كانت قد لاقت صدا كبيرًا بعنوان "الآن ينتهي إرسالنا"، والتي تذهب إلى أن نهاية الكيان الصهيوني ستكون بيد العرب بعد توحدهم مستقبلًا.
كما يذهب المفكر الفرنسي جاك آتالي إلى أن "إسرائيل تواجه تهديداً كبيراً بالزوال في الوقت الحاضر أكثر مما واجهته في الماضي".
ومن ثم استشرت ظاهرة البحث عن وطن بديل غير إسرائيل، فحسب استطلاع رأي أجراه معهد القدس للصهيونية، أفصح شاب من بين كل 3 شباب إسرائيليين عن رغبتهم في الهجرة خارج الكيان الصهيوني.
وهو ما يؤكد حقيقة الكيان الصهيوني ككيان قلق، إذ لم يستطع حتى الآن ترسيخ وجوده في الشرق الأوسط، بل تزداد هشاشته بمرور الوقت.
أحد المتغيرات الجديدة التي يمكن رصْدُها وتدفع بهذا الاتجاه هو، وكما يذهب صالح النعامي، تَشَكُّل وعي جديد داخل إسرائيل، إذ أصبح الصهيوني هو الخائف من العربي والفلسطيني على وجه التحديد، وهو تغيُّر جذري وعميق، فقد كانت الصورة الذهنية القديمة لدى الصهاينة عن العرب أن شخصيتهم تتسم بالجبن والخوف والتردد، وما يؤكد هذا المتغير هو لجوء المستوطنين اليهود إلى الشعوذة وشراء التمائم لحمايتهم من العمليات الاستشهادية الفلسطينية وصواريخ المقاومة.
وعليه نعتقد أن الحياة داخل الكيان الصهيوني سوف تصبح أكثر قلقًا خاصة مع تطور قدرات تلك الصواريخ، وهو أمر من شأنه أن يُعظِّم من تزايد أعداد المهاجرين هجرة عكسية لخارج إسرائيل.
أضف إلى ذلك عوامل أخرى، مثل الزواج المُختلَط بين يهود وغير يهود، وتهديده يهودية الدولة، حتى أنهم يسمونه الهولوكوست الثاني أو الهولوكوست الصامت، أو(المحرقة الصامتة)( Silent Holocaust) التي تبيد اليهود، وتقضي على وجودهم في صمت ومن دون حروب أو أوبئة.
كذلك أثَر العامل الديموجرافي، وهو زيادة أعداد غير اليهود، وبخاصة من المسلمين داخل الدولة نتيجة كثرة الإنجاب بينهم في مقابل تقلص أعداد اليهود، مع مطالبات اللاجئين الفلسطينيين بالعودة لأرضهم، فالتخوف مستقبلًا أن تصبح الدولة ذات أغلبية عربية.
فهي كلها عوامل ضاغطة، لكنها لم تجد المناخات المواتية لتؤتي أُكُلها، أو لجعل هذا الكيان ينخرط مُجبراً ولضمان استمرارية وجوده في عملية سلمية شاملة تُعيد للفلسطينيين حقوقهم المسلوبة.
أضف إلى ذلك الصراعات الداخلية بين مكونات الكيان الصهيوني، وتصاعد اليمين الديني، وهو ما جعل البعض يذهب إلى أن الدولة الصهيونية ستتجه حتمًا نحو حكم ثيوقراطي متشدد يعصف بكل ما تبقَّى من ملامح ديمقراطية، ومن ثم بداية العد التنازلي لانهيارها.
والحقيقة أن هذا الأمر يُذكِّرنا بنظرية (السرطان الزجاجي)، فالحشد الشديد لأى مجتمع سيقود حتمًا لانفجاره.
وها هو رئيس إسرائيل السابق رؤوفين ريفلين يقول:"إسرائيل مكونة من 4 قبائل متباعدة"، وتلك القبائل في صراع دائم مع بعضها البعض.
ويقول الحاخام الرافض للصهيونية إلياهو كاوفمان:"لقد تأسست إسرائيل على السلب والنهب، ومن الطبيعي أن تشهد تفاقُمًا في عدوانية الإسرائيليين تجاه بعضهم البعض، ونهايتها الانهيار بعد عقود قليلة مثلما انهارت الممالك الصليبية".
كما يرى المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي، الذي يصفه الصهاينة بأنه اليهودي الأكثر كُرهًا لذاته اليهودية، يرى أن إسرائيل تتجه إلى دمار نهائي، مؤكدًا أن إسرائيل "تنتهج سياسات يترتب عليها قدر هائل من التهديدات والمخاطر الأمنية المحدقة، فهي سياسات تنحاز للتوسع على حساب الأمن، وتهوي بها إلى قاع الانحطاط القيمي والأخلاقي، وتؤدي إلى عُزلتها ونزع الشرعية الدولية عنها".
ومن ثم يُسلِّط تشومسكي الضوء على المأزق الحقوقي الذي تتعرض له إسرائيل، وهو أن قطاعات الرأي العالمي المهتمة بحقوق الإنسان بدأت في الامتعاض الشديد منها، ومن ثم التخلي عنها.
وهو ما دعا السياسية الإسرائيلية وسيدة الموساد تسيفي ليفني لأن تُبدي انزعاجها من تغيُّر المزاج العالمي وانقلابه على إسرائيل، وبخاصة في أوروبا التي بدأت قطاعات واسعة داخلها تضيق ذرعًا بالممارسات الإجرامية لهذا الكيان الغاصب، ومن ثم اتهمت ليفني أوروبا بتبنيها خطاباً ذو صبغة أيديولوجية معادية لليهود.
فالكيان الصهيوني يمر بحالة ضمور تدريجي على مستويات عدة، تلك الحالة التي لاحظها كثيرون منذ وقت ليس بالقصير، فها هو الشاعر الصهيوني ناتان زاخ يرى أن إسرائيل تلك المحطمة إلى شظايا لن تصمد طويلًا أمام المتغيرات التاريخية، معرباً عن أسفه لهروبه من دولة نازية ليجد نفسه في دولة أخرى فاشية، مؤكداً أن إسرائيل تتشابه كثيراً مع الإمبراطورية الرومانية في أيامها الأخيرة.
ومن أجل الإفلات من هذا المصير الكارثي يدعو الرئيس السابق للوكالة اليهودية إبراهام بورج اليهود في كتابه (لننتصر على هتلر)( Defeating Hitler)، إلى دولة متحررة من الصهيونية بإرثها اللاإنساني، وهيمنة ذكرى المحرقة النازية على عقل وسلوك سكانها، كما يدعوهم إلى التبرؤ من اليهودية التقليدية شديدة التعصب والكراهية للآخر.
يقول بورج:" البلدان التي سبق احتلالها قد تحررت وهو ما يقلق الصهاينة، إذ يوقنون أنهم يتحركون ضد حركة التاريخ، وأن حتمية النهاية لكل المستعمرين هي سنن تاريخية من شأنها أن تسري على الجميع.. .لقد أصبحت إسرائيل جسدًا بلا روح، واتخذت طريقًا واحدًا مدمرًا دون أن تحاول رسم طريق بديل".
وفي هذا الشأن يؤكد الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي أن الإسرائيليين قد استولوا على أراضي الآخرين وذبحوهم، وأنه إذا نال الفلسطينيون حقهم، فإنه عند ذلك وفي تلك اللحظة يمكن التأسيس لعلاقة مختلفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أما الاستمرار في سياستها الحالية هو تدشين لنهاية الدولة الصهيونية.
وكان الكاتب الإسرائيلي أوري أفينيرى قد صرّح لأسو شيتد برس في مقابلة له عام 2013م قائلًا:" لدي شعور قوي بأن دولة إسرائيل هي السفينة تيتانيك، حيث نتجه بقوة نحو جبل الجليد، وحتى الآن لدينا فرصة ذهبية لتغيير مسار السفينة، غير أننا لو بقينا أغبياء سنصطدم بجل الجليد لتكون النهاية".
وفي ذات السياق يحذرنا عالم الاجتماع اليهودي البولندي زيجمونت باومان من مصير كارثي ينتظر إسرائيل، وأنه داخل تلك القلعة المحاصرة، يقصد إسرائيل، يجرى الاعتقاد والنظر للاختلاف في الرأي على أنه جرمًا وخيانة، وأن الحروب مصير محتوم لا مفر منه ولا خيار آخر، فهو مجتمع الحشد وتلك لحظة مثالية للانفجار.
وهناك التيار الديني اليهودي الرافض للصهيونية مثل حركة ناطوري كارتا والذي يؤمن بحتمية زوال إسرائيل الحالية وفقاً لوعد إلهي يقضي بزوال أي دولة يهودية قبل قدوم مسيحهم المخلص.
وهناك نبوءة يهودية قديمة يؤمن بها كثير من اليهود وقد أوردها الحاخام الشهير(شمعون بن يوحاي) والذي عاش في القرن الثاني الميلادي، وهي تتحدث عن تجمع الإسرائيليين في فلسطين ثم يأتي أحفاد أشور فيدمرونهم فيقتل من يقتل ويهرب من يستطيع الهرب.
وها هو آري شبيط، وهو كاتب صحفي إسرائيلي، يذهب إلى أن الكيان الصهيوني:" يلفظ أنفاسه الأخيرة ويسير في طريق مسدود بل واجتاز نقطة اللاعودة"، ومن ثم دعا الجميع لمغادرة البلاد.
وكذلك الكاتب الإسرائيلي روغل ألفر الذي يؤكد أن الكيان الصهيوني أوشك على النهاية فقد وقعّ على (شهادة وفاته) وما علينا سوى الانتظار لمعرفة التوقيت، فهي دولة فاشية ونظام عنصري، فهي لا تعدو كونها مقلب نفايات للتعصب والشيفونية والعنصرية والكراهية.
وفي عام 2021م صرح يوفال ديسكين، الرئيس السابق لجهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك)، بأن: "إسرائيل لن تبقى للجيل القادم لأسباب وعوامل داخلية"، حيث تزايد الانقسام بين الإسرائيليين عمقاً، كذلك انعدام الثقة في أنظمة الحكم وهو الشعور الآخذ في الاتساع مع انتشار الفساد، وفقدان قوتها العسكرية للسيطرة على كثير من المناطق.
وفي التحليل الأخير، فإننا نريد أن نُضيء حقيقة مركزية مفادها أن الكيان الصهيوني بصيغته الحالية لن يصمد كثيراً أمام دوامة العدم التي تحاول ابتلاعه، إذ أنه محشور بين مطرقة الزمن، وقوانينه الصارمة، وبين سندان الكبرياء الفلسطيني المؤيد عربياً ودولياً من التيار الإنساني العريض والآخذ في التنامي.
كما أن علينا أن نعي حقيقة أن التحليلات والتصريحات حول قرب نهاية الكيان الصهيوني والصادرة من داخل هذا الكيان ذاته بعضها صادق غير أن بعضها الآخر لايعدو كونه محاولات لتخدير الوعي العربي (أو هكذا يجري توظيفها)، ومن ثم علينا ألا نركن للموقف السلبي الداعي للمشاهدة فقط في انتظار الانهيار الذاتي للكيان الصهيوني كما تذهب التصريحات المتواترة بكثرة في الخطابين العربي والصهيوني.
فذلك فخٌ لا يصح أن نتورط فيه بعد تلك الخبرات الطويلة التي راكمناها حول هذا الصراع وآليات تحركه ومسارات تمدده.
نعم علينا أن نتفاءل حين نطالع تلك النتائج، غير أنه يجب أن يكون مقترناً بالعمل وفقاً لخطط مدروسة جيداً، دون التفاؤل الساذج الأحمق الذي يتعاطاه الكسالى كمخدر حيث يحلمون بمستقبل فردوسي وهم نائمون في سرير التواكل.
فلنتمسك بموقفنا الداعم للقضية الفلسطينية ولنعضّ عليه بالنواجذ، فكل أسباب وعوامل الانهيار تلك لن تتفاقم وتؤتي أُكُلها إلا بضغوط متصاعدة منا على كافة المستويات:سياسياً واقتصادياً وثقافياً ونفسياً واجتماعياً.
فالقاعدة التي علينا أن نعيها جيداً أن هناك علاقة طردية بين تزايد الضغط على الكيان الصهيوني وبين تفاقم تلك العوامل المؤذنة بانهياره.
ومن ناحية أخرى فهذا الكيان الغاصب ومن أجل أن يتجنب هذا المصير لا حل يلوح في الأفق أمامه ولن يكون، إلا أن يصبح الصهاينة جزءًا عضويًا من البشرية بكل ما تحمله الفكرة من مضمون، أو أن يُجبروا على ذلك، وكل الوسائل الأخلاقية متاحة.
فبدلًا من أن يطالب الصهاينة الجميع بالتطبيع معهم عليهم هم أن يُطبِّعوا مع البشرية، أن يعودوا ليكونوا بشراً بحق، بأن ينسفوا أطروحاتهم العنصرية ويتخلوا عن ممارساتهم الإجرامية ضد الفلسطينيين، ويعترفوا بالسابق منها ويعتذروا عنها في آن.
ومن ثم ينظروا لأنفسهم باعتبارهم جزءاً من مجتمع إنساني عام، الكل فيه متساوون، لهم ذات الحقوق وعليهم ذات الواجبات، وأن الفلسطينيين شعب له حق تقرير مصيره وحق ممارسة قوميته على أرضه التي من رحمها خرج منذ آلاف السنين.
حين تتجذّر تلك القناعة في الوجدان اليهودي يمكن الحديث عن تسوية إنسانية وعادلة للصراع العربي الصهيوني بما يسمح بقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، تلك التسوية التي هي في عمقها خير ضمانة لاستمرارية الوجود اليهودي(وليس الصهيوني) في هذا العالم، إن أرادوا ذلك.
ومن دون شك فالبديل أمامهم سيكون مُؤلماً بقدر ألم الشعور بانغراس أنياب الفناء المدببة في لحم هذا الكيان الغاصب، ومن ثم السقوط في هوّة العدم.
ولمتابعة المقال (اضغط هنا)
اقرأ أيضاًإسرائيل تحترق.. النيران تشتعل في وادي القدس وتمتد إلى المنازل
صحة بغزة: 150 شهيدًا جراء القصف الإسرائيلي منذ فجر الخميس
ارتفاع عدد شهداء ومصابي الغارات الإسرائيلية على شمال غزة