صلاح جاهين.. أحلام وردية في نوتة زرقا
تاريخ النشر: 21st, April 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
"لكل إنسان تاريخ ميلاد وآخر للموت، وصلاح جاهين من القلة الاستثنائية التى ولدت وعاشت مرتين، وفقا للأوراق الرسمية فقد ولد فى الخامس والعشرين من ديسمبر سنة 1930، ورحل فى الواحد والعشرين من إبريل سنة 1986، وبالنظر إلى الحقائق التى تتجاوز السجلات والوثائق، فقد ولد فى الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952، وغيبه الموت فى طوفان الهزيمة الذى اجتاح الوطن فى الخامس من يونيه سنة 1967.
كان ميلاده الحقيقى مع الثورة التى جسدت أحلامه فأبدع فى التعبير عنها والتهليل لإنجازاتها، أما موته النفسى فقد اقترن بالكارثة التى زلزلت الأحلام الوردية وصنعت الكوابيس السوداء، إذ أدرك يومها أنه أنفق عمره فى الغناء على الناس وليس الغناء لهم!"
هكذا وصف الكاتب والناقد الكبير مصطفى بيومي العملاق متعدد المواهب صلاح جاهين؛ والذي كان يتنقل بين الشعر والرسم والتمثيل والصحافة ببساطة، وكأن كلٌ منها كانت موهبته الوحيدة التي برع فيها، فشاهد الناس رسومه، وسمعوا أشعاره، وشاهدوا أفلامه؛ وكان هو نموذجًا لمن سجلت مواهبه، تجربة أمة بكل حالاتها.
يرى بيومي "صلاح الدين بهجت أحمد حلمى"، الشهير بـ "صلاح جاهين"، كان "صاحب سبع صنايع، ونموذج عبقري للمبدع الشامل الذى يقدم رؤى بالغة العمق والبساطة والعذوبة".
جاهين سليل عائلة عريقة، فلا يكاد أحد من المصريين يجهل اسم جده الذى يحمله أحد أهم شوارع القاهرة «أحمد حلمى»، أما الأب بهجت فكان رئيسًا لمحكمة استئناف المنصورة.
ويؤكد بيومي أن عظمة الابن صلاح تختلف عن أبيه وجده "فهو جملة من المواهب النادرة فى جسد واحد، شاعر ورسام وصحفى وكاتب سيناريو وممثل، فضلًا عن أنه فيلسوف شعبى على طريقته الفريدة، ذلك أنه فيلسوف «أولاد البلد» فى المصريين الأصلاء، أولئك الذين يتوارثون الحكمة وينتجون الحضارة ويجمعون فى عبارة واحدة بين المرح والشجن، يقدسون الموت، ويعشقون الحياة، يدمنون الحب والتسامح، ولا يعرفون الكراهية والتعصب".
بدأ صلاح حياته العملية في جريدة بنت النيل، ثم جريدة التحرير، حيث أصدر أول دواوينه "كلمة سلام" عام 1955، وبدأت شهرته في منتصف الخمسينيات كرسام كاريكاتير في مجلة روز اليوسف، ثم في مجلة صباح الخير التي كان واحدًا من مؤسسيها، ولفت انتباه الجميع بشخصياته رسومه التي تُعبر عن حال المصريين، مثل قهوة النشاط، والفهامة، وغيرها من الشخصيات؛ وكانت رسومه مؤثرة، لدرجة أنها تسببت أكثر من أزمة مثل استباحة طلاب الأزهر دمه وتظاهرهم أمام جريدة الأهرام بسبب خلافه مع الشيخ الغزالي لإحدى رسومه عند مناقشة مشروع الميثاق، كما أجرى معه المدعى العام الاشتراكى تحقيقًا بسبب كاريكاتير، انتقد فيه تقريرا لأداء إحدى جهات الدولة.
تألقت أشعار جاهين فأصدر ديوانه الأشهر "الرباعيات"، ثُم "قصاقيص ورق"، كذلك العديد من الأشعار الوطنية التي تغنى بها كثيرون، منهم عبد الحليم حافظ "صورة، بالأحضان، والله زمان يا سلاحي"؛ كذلك قدّم العديد من المسرحيات مثل "القاهرة في ألف عام"، وكتب أغانى وأشعار العديد من المسرحيات والأعمال التليفزيونية والإذاعية؛ ولا يزال أوبريته الأشهر "الليلة الكبيرة" الذي قام بتلحينه سيد مكاوي، وقدمه المخرج صلاح السقا على مسرح العرائس، أهم أعمال مسرح العرائس في مصر حتى الآن.
بالعاميةتأتى عامية صلاح جاهين باعتبارها مستوى من مستويات اللغة العربية الخمسة التى تحدث عنها العالم اللغوى الراحل الدكتور السعيد بدوى فى كتابه «مستويات العربية المعاصرة»؛ لكن فى تقديمه لديوان جاهين الأول «كلمة سلام» عام 1955 حاول الكاتب الكبير رجاء النقاش أن يقيم رؤيته للعالم على أساس وجود ثنائية يتصارع طرفاها، وهما الشعر الرسمى والشعر الشعبي، هكذا اعترف بعبقريته مع تصنيفه باعتباره «شاعر شعبي»، رافضًا للمصطلح الذى قدم به جاهين ورفاقه أنفسهم وهو «أشعار بالعامية بالمصرية». لكن، تجسدت عبقرية صلاح جاهين الشعرية، خاصة فى رباعياته، فى القدرة على التعبير عن قضايا فلسفية بالعامية، لذا، بينما اعترف الكاتب الكبير يحيى حقى بعبقرية الشاعر جاهين، كان فى الوقت نفسه يتمنى أن تكون رباعياته «عاقرًا» حتى لا يستمر فى تهديد الفصحى فى عقر دارها.
في عام 2006، أصدرت لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة كتابا عن صلاح جاهين بعنوان «صلاح جاهين رؤى ودراسات» يحوى دراستين تعكسان استمرار محاولات الاحتواء لصلاح جاهين والرفض لشعر العامية على مستوى الوعى النقدى بالشعر؛ الدراسة الأولى «فصاحة العامية فى رباعيات صلاح جاهين» للناقد الدكتور محمد عبدالمطلب، أستاذ النقد والبلاغة بجامعة عين شمس، الذى قام بإحصاء عدد كلمات الرباعيات، مُميزًا منها بين الفصيح والعامي. قد يُفاجأ البعض بأن 82% من كلمات الرباعيات فصحي، وأن نسبتها للعامية يأتي، حسب عبدالمطلب، من الظواهر اللغوية المصاحبة لعملية التحولات اللغوية صوتيًا وتركيبيًا ودلاليا من الفصحى للعامية. تبدو غاية الدراسة وكأنها متمثلة فى إثبات فصاحة العامية فى الرباعيات، ما يكشف عن محاولة لاحتواء عبقرية الرباعيات بالتشكيك فى نسبتها للعامية على مستوى التحليل اللغوى الإحصائي، لتصبح هذه المعالجة اللغوية البحتة للنص الشعرى آلية من آليات رفض شعر العامية واحتواء الشاعر العبقرى جاهين فى لحظة الاحتفاء به.
أما الدراسة الثانية فهى «صلاح جاهين ليس مجرد شاعر عامية» للشاعر أحمد عبد المعطى حجازى الذى كتب عن جاهين «ليس مجرد شاعر عامية، والعامية وحدها لا تعرفنا به، وإنما الشعر هو الذى يعرفنا به، إنه شاعر»، ليظهر أن حجازى لا يريد أن يعترف بالرجل شاعرًا إلا بعد أن يسلب من العامية التى دومًا ما وصف بها جاهين أشعاره حقها فى أن تكون أبرز ملامحه الشاعرية؛ لذا يبدو فى الدراسة أنها تشمل كل عناصر الشعرية إلا اللغة، بينما مفهوم صلاح جاهين نفسه عن الشعر أنه ضمير لا يتجزأ، فلا حركات إعرابية يمنح وجودها قداسة للمفردات ويمنع غيابها عن مفردات أخرى هذه القيمة المسبقة المحفوظة للكلمات خارج دائرة الشعر، فى الوقت نفسه لا يكون الشعر عند جاهين دون اللغة.
وبعيدًا عن التصنيفات اللغوية، وبعيد عن الرباعيات، جاء الكثير من أشعار صلاح جاهين ليعكس مفردات عصره، خاصة الحقبة الناصرية، فتناول شعار الاشتراكية ومطالب الشعب فى ثورته الحديثة آنذاك، حين يرفع شعارات محاربة الفساد والرشوة ومحاكمة مصاصى جهد الشعب، كذلك رفع رواتب العمال والموظفين وتوفير فرص العمل للشباب؛ كذلك كان واحدًا ممن رسّخوا صورة جمال عبدالناصر القائد المحبوب والرئيس «ابن البلد» الذى يصبو لتحقيق آمال شعبه.
أما أغنيات صلاح جاهين، فقد صنعت حالة من البهجة والحماسة منذ النصف الثانى من القرن العشرين، عشرات الأغانى التى تنوعت حالاتها بين العشق والوطنية والحياة؛ لكن واحدة من هذه القصائد وهى «ولد وبنت» مُنعت من لجنة النصوص فى الإذاعة التى لم تسمح بتسجيلها، وعندما سأل جاهين وقتها عن السبب، كان الرد أنها قصيدة مباشرة، وقال عنها فى لقاء تليفزيونى عام 1977 «لما سألت عن السبب.. قالوا إنها صريحة ولازم تبقى ورا الستار لكن متتقالش على البلاطة كده»، لكنها فيما بعد خرجت للنور بصوت على الحجار.
الممثللأعوام طويلة كان جاهين يُردد لمن حوله أنه «مُمثل بالسليقة»، رغم أنه طوال تلك الأعوام «لم أكن قد وضعت قدمى في بلاتوه، أو أحرقت وجهى لمبة واحدة أو ذقت مرارة شاى الاستديوهات»؛ كما حكى هو نفسه.
ورغم أن فرصته الأولى كانت تجربة أداء لدور صغير في واحد من الأفلام التي تدعم ثورة يوليو، وكانت تلك واحدة من أهداف الإنتاج السينمائي تلك الفترة؛ وقتها، قال إنه حين علم بترشيحه للدور، تجاهل جسده الضخم قوانين الفيزياء، حتى أنه ذهب إلى بيته راقصًا وهو يُردد «ح أمثل قدام فاتن حمامة ورشدى أباظة بحالهم». وبالفعل وقف أمام الكاميرا لأول مرة في وجود مخرج عملاق هو صلاح أبوسيف -وكان واحدًا من أساطير الشاشة الساحرة- لكنه انهمك في تجربة الأداء وكأنه كان مرشحًا لدور البطولة. كان يُمثّل، ولم يشعر سوى بالمخرج الذى كان يُتابعه بإعجاب وهو يقول فور انتهائه من المشهد: «ستوب.. هايل يا أستاذ.. رائع يا أستاذ.. عظيم يا أستاذ». بهذه الكلمات البسيطة عرف جاهين أنه قد حصل على دوره الأول في فيلم «لا وقت للحب».
فتح هذا الدور البسيط بوابة لعلاقة قوية بين جاهين والسينما، حيث استعان به المخرج كمال الشيخ مرة أخرى، عندما قرر مع الأديب العالمى نجيب محفوظ تحويل رائعته «اللص والكلاب» إلى فيلم من بطولة شكرى سرحان وشادية. كان صلاح جاهين هذه المرة يتقمص أحد كبار الحارة التى كان يعيش فيها البطل «سعيد مهران». وظلت في ذهن الجمهور طريقته في الحديث بعد سقوط أحد الأبرياء برصاص طائش وهو يقول: «دنيا لها العجب، خردواتى لا له في الطور ولا في الطحين يموت عشان نبوية اتجوزت عليش».
قام جاهين بعد ذلك بأدوار في أفلام «من غير ميعاد، وشهيدة العشق الإلهي، القاهرة، المماليك»؛ ورغم نجاحه في التمثيل، إلا أنه توقف عنه مدة قاربت الخمسة عشر عامًا، حتى عاد إليه من جديد في دور صغير في فيلم «موت أميرة» وهو فيلم وثائقى بريطانى وكانت آخر أدواره مع يوسف شاهين في فيلم «وداعًا بونابرت».
السيناريستكما حقق جاهين حلمه في أن يكون ممثلًا، فلا ننسى كذلك أنه كان سيناريست بارع، نافس بدوره جزء الممثل في شخصيته؛ بل وربما كان حظه أفضل أيضًا، حيث أطلق يده في أن يمسك مصائر كافة شخصياته، وأن يتقمص كل منهم على الورق، بدلًا من أن يؤدي شخصية واحدة منهم أمام الشاشة.
صنع جاهين حالة مُبهجة في السينما شاركته إياها السندريلا الراحلة سعاد حسني؛ بدأت عندما كتب بعض اسكتشات "الأراجوز" في فيلمها «الزوجة الثانية» الذي شاركها فيه البطولة شكري سرحان والممثل الكبير صلاح منصور، وقام بإخراجه صلاح أبوسيف -الذى منح جاهين خطوة التمثيل الأولى- لكنه برز بقوة عندما كتب السيناريو والحوار والأغانى لأشهر أفلام السبعينيات «خلى بالك من زوزو»، والذى أخرجه حسن الإمام، وتألقت فيه سعاد بقوة وهى تمثل وتغنى بصوتها الشقى «الفتاة المثالية، خلى بالك من زوز، يا واد يا تقيل»، والاستعراض الأخير «استنى استنى» على ألحان كمال الطويل، وسيد مكاوي، وإبراهيم رجب؛ وكان من المقرر أن يتضمن الفيلم أغنية «البوسة» التى لحنها بالفعل بليغ حمدي، وتم تصويرها ضمن مشاهد الفيلم، لكن بعد تصويرها اعترضت الرقابة على مضمونها، بحجة خدش الحياء العام، والخروج عن تقاليد المجتمع؛ وأصرت الرقابة على تزمتها وموقفها، ليتم حذف الأغنية. بعد ذلك بثلاثة أعوام اجتمع جاهين والسندريلا ليقدما المرح والحركة والسعادة مرة أخرج عبر فيلم «أميرة حبى أنا»، والذي كتب له جاهين السيناريو والحوار وظهرت لأول مرة الأغنية الشهيرة «الدنيا ربيع» التى لا تزال أيقونة للفرحة حتى الآن.
ومن الكوميديا وأجواء الفرح إلى الدراما، حيث صنع جاهين من عبقريته واكتئابه مزيجا صار أحد أبرز الأفلام في مشواره الفني، فقدم مع سعاد حسني أيضًا فيلم «شفيقة ومتولي»، من إخراج على بدرخان، والذى قامت ببطولته أمام عبقرى آخر هو الراحل أحمد زكي، وشاركهم البطولة الكبار أحمد مظهر وجميل راتب ومحمود عبدالعزيز، ولا تزال أغنيته «بانوا بانوا» واحدة من أروع الأغنيات الدرامية في تاريخ السينما المصرية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: صلاح جاهين جاهين الثورة رسوم اشعار صلاح جاهین واحدة من فی فیلم
إقرأ أيضاً:
أحمد مطر شاعر عراقي ولد ولم يعش ومع ذلك سيموت
شاعر عراقي معاصر ولد عام 1954. اشتهر بالشعر السياسي الساخر، وقدم من خلاله الواقع العربي السياسي والاجتماعي بكل عيوبه بصورة هزلية ناقدة. ابتكر مدرسة شعرية فريدة، أطلق عليها "اللافتات"، وباتت ظاهرة مميزة، لاقت إقبالا شعبيا عربيا منقطع النظير، وتصدرت الصفحات الأولى للصحف والمجلات العربية سنوات عدة.
تعرض للقمع والاضطهاد بسبب نضاله الأدبي وشعره المحرض للشعوب على الوقوف ضد السلطات الظالمة، ومُنعت قصائده في بعض الدول العربية، ونفي إلى الخارج، فأصبح بذلك رمزا نضاليا، ومصدر إلهام للمثقفين والثوريين العرب.
المولد والنشأةولد أحمد بن حسن بن مطر في الأول من يناير/كانون الثاني 1954، في قرية التنومة بالبصرة جنوب العراق، وهو الابن الرابع لعائلة مسلمة سنية فقيرة تتكون من 10 من البنين والبنات.
قضى طفولته في ربوع التنومة، ثم انتقل مع عائلته في سن الصبا إلى محلة الأصمعي في البصرة، وسرعان ما اضطرته الظروف المادية الصعبة، لتغيير نمط الحياة التي اعتادها، والانتقال للعيش مع شقيقه الأكبر علي في منطقة الزعفرانية بالعاصمة بغداد.
تأثر بوالدته، التي كانت شاعرة شعبية بالفطرة، ترتجل قصائد ترثي بها الموتى من الأهل والأحبة، وتؤلف مقاطع حزينة في مأساة أهل البيت.
إعلانكما تأثر بالبيئة الريفية الوادعة في قريته "التنومة" بأنهارها ونخيلها وبيوتها البسيطة المصنوعة من الطين والقصب.
وأحمد مطر متزوج، وله ابنة واحدة اسمها فاطمة، و3 أولاد هم: علي وحسن وزكي.
التحق بمدرسة "العدنانية" في المرحلة الابتدائية، ثم أتم المرحلة المتوسطة في مدرسة "الأصمعي" الإعدادية، ولم يستطع متابعة تعليمه بسبب الملاحقات الأمنية.
وعندما انتقل إلى بغداد دأب على ارتياد إحدى مكتباتها، التي ضمت عددا وافرا من كتب الأدب والشعر والروايات، فانكب على القراءة، التي شكلت ذخيرته الثقافية الأولى، ومنحته وعيا وفهما، وأثْرت رصيده اللغوي.
وكان صديقا للجميع في محيطه، ولم يعرف عنه الانغماس في صراعات فكرية أو أيديولوجية، وقد لخص مطر حياته بعبارة اختزالية، حين وصف نفسه بـ"رجل ولد ولم يعش ومع ذلك سيموت".
التجربة الشعريةبدأ أحمد مطر بنظم الشعر في الـ14 من عمره، وظهرت موهبته مع أولى قصائده، التي تكونت من 17 بيتا في الحب والغزل، وقد كشفت قصيدته الأولى نضجا أدبيا، تمثل في مخزون لغوي وفني يفوق مرحلته العمرية.
وفي بداياته كتب إلى جانب الغزل قصائد حول موضوعات دينية، مثل: المولد النبوي والإمام علي بن أبي طالب ونحوها. وبدأ بنظم القصائد العمودية، ثم انتقل لاحقا إلى الشعر الحر.
وكان للواقع السياسي المرير الذي كانت تمر به بلاده وغيرها من الأقطار العربية، أثر كبير في انقلابه نحو الشعر السياسي، فأخذ قلمه الناقد يفتح أعين الناس، وينشر الوعي بينهم حول الواقع المتردي الذي يعيشونه، والفساد السياسي وأمراض المجتمع وعيوبه، وصور الواقع في مشاهد صادمة تكشف التناقضات الحاصلة في أتون السياسة، ومظالمها في دهاليز المجتمعات العربية.
وقد بدا مطر في قصائده متأثرا بمكونات الحضارة العربية الإسلامية، فكثيرا ما ضمَّن شعره عبارات من القرآن الكريم وآياته، واقتبس من كلمات الحديث النبوي الشريف ومعانيه، واستدعى شخصيات تاريخية ودينية، مثل صلاح الدين الأيوبي والخليفة الراشد عثمان بن عفان.
كما تأثر بفحول الشعراء العرب أمثال أبي تمام وأبي فراس الحمداني وأبي العلاء المعري، وكان أشد تأثرا بأبي الطيب المتنبي.
ومن الشعراء المعاصرين تأثر بكثيرين، كمحمد مهدي الجواهري وعلي أحمد سعيد إسبر المشهور بـ"أدونيس"، وبدر شاكر السياب وأمل دنقل. ومن شعراء فلسطين تأثر بكل من إبراهيم طوقان ومحمود درويش، وغيرهم.
إعلانوكان أكثر استلهاما من الشاعر العراقي مظفر النواب في جوانب الثورة والسخط على كل ما هو فاسد. وشابه نزار قباني في تقريع الأنظمة الدكتاتورية المتعسفة وتعريتها وفضح ألاعيبها، وتأثر كذلك بقوة بالشاعر اليوناني الراحل يانيس ريتسوس، الذي كان يؤمن بقدرة الشعر السياسي على تغيير العالم.
القمع والاضطهاد
لطالما كان الشعر مصدر نقمة في حياة أحمد مطر، فقد جعله في كثير من الأحيان في مواجهة مباشرة مع القمع والاستبداد، وتعرض بسببه للسجن، وعانى لأجله آلام اللجوء والاغتراب.
فقد سجنته السلطات العراقية في مدينة الكوت، أثناء تأديته الخدمة العسكرية، حين امتنع عن الاستجابة لمحافظ المدينة آنذاك محمد محجوب، ورفض إلقاء قصيدة بمناسبة احتفالات ثورة تموز، وفي غضون ذلك، قُتل شقيقه الأصغر، زكي في حادث سيارة قيل إنه مدبر، بينما قُتل شقيقه خالد شنقا.
وبعد أن أنهى مطر الخدمة العسكرية، أخذ يشارك في الاحتفالات والمناسبات الدينية في البصرة والمعقل ومحلة الهادي، ويلقي قصائده المحرضة ضد القمع والظلم وانتفاء العدالة، ويكتب لافتاته الثورية لمواكب الطلبة ومسيراتهم، فتنبهت إليه الأجهزة الأمنية، وبدأت تتبع خطواته وتضيق عليه الخناق.
امتزجت تجربته الشخصية التي عاشها في وسط مشبع بالفقر والظلم والاضطهاد، مع التجربة العامة للأمة، فجعلت منه شاعرا ثائرا، ترجمت قصائده خيبات الأمل والظلم والاستبداد، واشتملت على نقد لاذع جعله عرضة لصدام مستمر وملاحقة دائمة من السلطات الحاكمة.
الفرار إلى الكويتوفي منتصف العشرينيات من عمره، وصلت المضايقات الأمنية أوجها، فلم يجد أحمد مطر مناصا من الفرار من الوطن، والتجأ إلى الكويت، حيث بدأ العمل في حقل التدريس، أستاذا للمرحلة الابتدائية في القطاع الخاص، كما عمل في صحيفة الخليج العربي محررا ورساما وكاتبا وشاعرا، وكانت الجريدة هي موضع عمله ومسكنه.
إعلانولاحقا، انضم إلى صحيفة القبس الكويتية، وعمل فيها محررا ثقافيا، وفي الوقت نفسه، مضى في نسج قصائده وتدوينها، وعزم على ألا تضم كل واحدة منها سوى موضوعا واحدا، مهما قصرت، وذلك على عكس قصائده الأولى، التي جاءت طويلة، وتتعدى أحيانا 100 بيت.
وفي عام 1980 نشر أولى لافتاته في صحيفة القبس، ثم بدأت قصائده تبصر النور تباعا، وانغمس في كتابة الشعر السياسي مُعْرضا عما سواه، وجسّده بصورته الشاملة همّا كاملا وإبداعا فنيا، كما لم يتهيأ لغيره من الشعراء.
بنى أحمد مطر قصائده على مناهضة السلطات الظالمة وهاجم الحكام والأجهزة الأمنية والإعلامية والنفوذ الأجنبي وفضح مخازيها، وجدَّ في إيقاظ العقل العربي من سباته، وأخذ يستنهض الهمم للتخلص من حالة الخنوع، والثورة على الظلم ورفض كبت الحريات.
ولم يتسامح كذلك مع تقاعس الشعوب واعوجاجها، وطال نقده المجتمع وكشف المتناقضات التي غرقت فيها حياة الإنسان العربي، وجاءت العديد من لافتاته مرآة تعكس عيوب ونقائص المجتمع، ولم تسلم من نقده الشرائح المتواطئة مع الأنظمة الفاسدة، وهجا كذلك فقهاء الأنظمة والثوريين المزيفين.
برز إبداعه الفني في هذا الجانب، وأخذت كلماته الثائرة على الواقع المعيش في المجتمعات العربية طريقها إلى قلوب العرب في كافة الأقطار، ولامست كلماته آلام الناس ومعاناتهم، ولاقت إقبالا شعبيا في الشارع العربي واكتسبت صدى واسعا وتأثيرا بيّنا، لا سيما لدى جيل الشباب.
أصبح شعره ظاهرة مميزة، حركت حالة الركود في الوطن العربي، وباتت لافتاته ينشدها التلاميذ في الطوابير الصباحية، ويصدح بها الخطباء في المهرجانات الصاخبة، ويضمنها الكتاب مؤلفاتهم، وأضحت قصائده تزين الصفحات الأولى لجريدة القبس وغيرها من الصحف والمجلات العربية، التي كانت تبحث عن سعة الانتشار وزيادة المبيعات.
إعلانوفي هذه الأثناء تعرف أحمد مطر إلى الفنان ورسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، وأصبحا صديقين مقربين، وتقاسما الرسالة والرؤية الفنية، ووجد كل منهما في الآخر انسجاما تاما وتكاملا في التعبير عن قضايا الأمة، فقد كانت لافتات أحمد مطر تفتتح صحيفة القبس، بينما تختتمها لوحة ناجي العلي الكاريكاتيرية.
اللافتاتابتدع مطر فنا شعريا فريدا، أدخله إلى الشعر العربي، وأطلق عليه "اللافتات"، وهي عبارة عن قصائد قصيرة تشبه الإعلانات وبيانات الاتهام، ويندرج هذا النمط الشعري تحت ما يسمى بـ "قصيدة الومضة"، التي تقوم على فكرة واحدة أو موضوع معين، وتتميز بالاختزال والاقتصار على مفردات قليلة، مع كثافة في الدلالة واشتمالها على المفارقة والتلميح، وتتضمن نهاية مفتوحة مدهشة.
وينتمي شعره إلى الشعر الحر أو "شعر التفعيلة"، فلم يلتزم بالشعر العمودي العربي في عموم نظمه، مع تمسكه بالقافية وحرصه على تنويعها، الأمر الذي أبرز ما لديه من قدرة شعرية عظيمة، وأضفى طابعا جماليا ونغمة موسيقية على قصائده. وكثيرا ما استخدم أسلوب التكرار الذي عزز البنية الإيقاعية وقوّى دلالة الألفاظ.
وقد أثَّرت تجربته في كتابة القصة القصيرة وموهبته في الرسم الكاريكاتيري، الذي كان يمارسه في سنينه الأولى في الصحافة، في أسلوبه الشعري، إذ ظهر السرد القصصي والحوار بشكل بارز في شعره، وكانت السخرية أسلوبا سائدا في نظمه.
وتميزت الجملة الشعرية عند أحمد مطر بالغنى اللفظي والبساطة والوضوح وسلاسة التركيب، والبعد عن التعقيدات، وارتكز على لغة قابلة للفهم من عموم الناس، كما تفنن في استخدام الأساليب البلاغية، وتوسع في الاعتماد على الصناعات البيانية والبديعية في قصائده، وأثراها بالصور الشعرية المبتكرة.
وقد طبع ديوانه الأول ‘لافتات 1" في الكويت، ولاقى قبولا واسعا بين القرّاء، فأعيد طبعه مرة أخرى في تونس والمغرب، ونال توزيعا عاليا وإقبالا كبيرا في أنحاء الوطن العربي.
إعلانولم يكن الأمر كذلك لدى السلطات الحاكمة، إذ مُنع ديوانه الثاني من التوزيع، وغدا شعره محظورا في دولة عربية عدة، وكانت قصائده توزع في العالم العربي سرا.
كان قلمه الصارم في مواجهة الحكام، وثورته العاصفة على الفساد الاجتماعي والسياسي، سببا في اضطهاده وتعرضه للمضايقات الأمنية وتقييد مساره الصحفي، وكانت ريشة صديقه ناجي العلي محل سخط السلطات العربية، وهو الأمر الذي أدى إلى نفيهما، فاضطرا إلى اللجوء السياسي سنة 1986 إلى المملكة المتحدة.
وفي صيف 1987 تم اغتيال ناجي العلي، الأمر الذي أثر في مطر تأثيرا بالغا، وكسر نمطه الشعري السائد، ورثاه بقصيدة عمودية من 118 بيتا، وبقي مصرع العلي جرحا غائرا لديه، ولعل هذا الفقد كان من الأسباب التي أثرت فيما بعد في قراره اعتزال الناس والأضواء والإعلام.
ومن العاصمة البريطانية لندن استمر في العمل مع صحيفة القبس عبر مكاتبها الدولية، حتى ساءت علاقته بها جرَّاء بعض قصائده مثل "أعد عيني" وقصيدة "الراحلة"، فانفصل عنها، وأخذ ينشر قصائده وبعض المقالات عبر صحيفة "الراية" القطرية، في زاوية "لافتات" و"حديقة الإنسان" و"استراحة الجمعة".
ولاحقا اعتزل أحمد مطر الدنيا وتجاهل وسائل الإعلام وقاطعها تماما، وعاش بعيدا عن عيون الصحفيين والإعلاميين والشعراء، وبقي في لندن مكتفيا بأسرته، ومعاناته مع مرض السرطان، الذي ابتلي به.
وفي بلد اللجوء بقي في حنين دائم إلى الوطن، وكتب يصف غربته "لست سعيدا؛ لأني بعيد عن صدى آهات المعذبين؛ لأني أحمل آهاتهم في دمي، فالوطن الذي أخرجني منه، لم يستطع أن يخرج مني، ولا أحب أن أخرجه، ولن أخرجه".
كتب أحمد مطر 9 دواوين شعرية، إضافة إلى مجموعة من القصائد المتفرقة، التي لم يجمعها عنوان واحد، مثل "العشاء الأخير لصاحب الجلالة إبليس الأول"، و"ما أصعب الكلام"، التي كتبها في رثاء ناجي العلي، وقصائد أخرى نشرها على صفحات جريدة "الراية" القطرية.
إعلانواقتصر في جميعها على الشعر السياسي الثائر، وخلت تماما من قصائد الغزل وغيره من الأغراض الشعرية، وقد تم نشر الدواوين مفرقة، كما تم نشر الأعمال الشعرية كاملة في مجلد واحد.
ودواوينه المنشورة هي:
لافتات 1، نشر عام 1984. لافتات 2، نشر عام 1987. لافتات 3، نشر عام 1989. ديوان الساعة، نشر عام 1989. ديوان إني المشنوق أعلاه، نشر عام 1989. لافتات 4، نشر عام 1993. لافتات 5، نشر عام 1994. لافتات 6، نشر عام 1997. لافتات 7، نشر عام 1998.وإلى جانب الشعر، كتب أحمد مطر القصة القصيرة، غير أنه فقد ما كتبه في بداياته، ولم يجمع ما كتبه لاحقا، ولم يتم نشره في كتاب مستقل.