الثقافة العُمانية.. هوية أصيلة
تاريخ النشر: 22nd, April 2024 GMT
محمد عبدالسميع (الشارقة)
حين نقول الثقافة العُمانية، فإنّ أول ما يتبادر إلينا هو هذا الثراء الكبير في المفردة التراثية الأصيلة، وهذا التنوع الرائع في كل المفردات المصاحبة والمعبرة عن هوية أصيلة، والانطلاقة الواثقة نحو العلم والمعرفة والتأسيس الثقافيّ للأجيال. ويحمل الشعب العُماني ثقافته إلى كلّ البلاد التي يسافر إليها للدراسة والعمل ومشاركات التبادل الثقافي مع البلدان الخليجية في مجلس التعاون الخليجي، والبلدان العربية الشقيقة، وكلّ دول العالم الصديق، حيث تعبّر المشاركات الثقافية والفلوكلورية العُمانية عن الذائقة الأصيلة، ليس فقط في التراث العريق وتطوّره بين الأمس واليوم، وإنما أيضاً في وعي الأجيال وحفاظهم على هذا الرابط ومراكمتهم عليه.
وترتبط الثقافتان العُمانية والإماراتية برابطٍ قوي ومتين، نظراً للقرب الجغرافيّ أولاً بين البلدين، وكلاهما من أعضاء مجلس التعاون الخليجيّ العربي، وأيضاً للقرب التاريخي والتراثي على أكثر من صعيد، وللعلاقة الوطيدة تاريخيّاً بين قيادتي البلدين، من حيث الرؤى العميقة لكلّ القضايا الثابتة والمستجدة في المنطقة والإقليم والعالم ككُل.
تبادل ثقافي
وعملت الدولتان على الإعلاء من شأن الثقافة بين الأمس واليوم، من خلال الاتفاقيات والتعاون والتبادل الثقافي على المستوى الوزاري، لوزارتي الثقافة الإماراتية والعمانية، وعلى مستوى المهرجانات ووسائل التعبير الثقافي والأسابيع الثقافية، والاحتفاليات والجامعات وأنشطة الطلبة المعبّرة عن الاعتزاز بالهوية والتراث، وهذا الرابط الأصيل والمتجدد بين البلدين.
وحيث التراث العُماني، في الأزياء والشعر الشعبي وطرق إلقائه، وحيث سباقات الهجن، والمواقع الأثرية العديدة، والصناعات الحرفية، وحضور الدولة على قائمة الدول العربية والعالمية ذات التراث العريق، ظلّت الثقافة الإماراتية تمزج ما بين الماضي والحاضر، فتعطي المساحة التراثية حقّها من الاحتفاء والإشهار على المستوى الخليجي والعربي، والعالمي في منظمة اليونسكو وسواها من المنظمات ذات الاهتمام، وفي الوقت ذاته تولي إبداعات الشباب والأجيال الأدبية والفكرية كلّ الاهتمام.
واعتمدت الثقافة العمانية الرؤية المشتركة ذاتها في احترام تراثها وتشجيع شبابها على العطاء الفكري والثقافي، فكان أنّ اللوحات التراثية في الفرق الشعبية تتجلى بين البلدين بشكل متكامل يحمل التنوع الجميل، لاسيما وأنّ الإمارات وعُمان تشتركان في اللهجة الخليجية المتقاربة ذاتها، وفي الأزياء التراثية، مع وجود خصوصيات معينة، وكذلك لأنّ ألوان الغناء الشعبي تتقارب بشكل كبير، كما في فنون «الرزحة» و«العازي» الشعبيينِ، كما أن مساحة الشعر الشعبي والنبطي تنساب بروعة لافتة، ومن فترات قديمة، وهذا ما أعطى الثقافتين الإماراتية والعُمانية رونقاً جميلاً وقرباً يحمله الشعبان في هذا الالتقاء الروحي العميق، والأخوّة الصادقة المبنية على علاقات الأصالة والتطلع إلى المستقبل المشرق بعين الثقة والاعتزاز.
وتشترك كلٌّ من الثقافتين العُمانية والإماراتية في كثير من طبيعة المناسبات التراثية والأزياء والعادات والتقاليد، وكذلك في كون البلدين بارزينِ على صعيد الاحتفاليات الثقافية العربية، كما في فوز الشارقة بلقب عاصمة الثقافة العربية، وكذلك في فوز العاصمة العُمانية مسقط عاصمةً للثقافة العربيّة، وفوزها أيضاً عاصمة للتراث والثقافة الإسلامية.
وهكذا، فإنّ الشعور العربي الراسخ تجاه عُمان ذات التاريخ العميق والموقع الاستراتيجي من الحضارات القديمة والدول والشعوب الأخرى، يقابله أيضاً شعور عربي راسخ بمكانة دولة الإمارات العربية المتحدة، وصلتها بهذا العالم، من واقع الآثار الدالة والحصون والمواقع القديمة، ولذلك تُعتبر الحصون والقلاع والآثار التي يتم اكتشافها في الدولتين، دليلاً كبيراً ونوعيّاً على حضورهما، وقراءة الحضور العُماني والإماراتي وتأثيرهما في المنطقة منذ القدم، كتراث إنساني جدير بالاهتمام والترويج والتعريف به لكلّ الأجيال.
في الإمارات، هناك شعر «العازي» و«الرزحة» و«الطارج» وفن «الشلّة»، و«التغرودة»، و«العيّالة»، وغيرها من الفنون والألوان التراثية، والتي جاء بعضها نتيجة احتكاك الشعوب وبفعل السفر وتبادل الثقافات، وبخاصة عبر البحر، إلى بلدان عديدة في كلٍّ من آسيا وأفريقيا.
وفي عُمان، تنتشر فنون شعريّة، مثل شعر «الميدان»، و«الرزحة»، وفن «العازي»، وفن «الطارق»، وفن «النهمة»، وفنّ «التغرودة»، وإذا بحث المهتمّ والمتخصص في هذه الألوان، فسيحظى بألق المفردة وجمال تعبيرها ورونقها بين التراث الشعبي العُماني والإماراتي، حيث تشترك هذه الألوان في الروح والمضمون والآلة الموسيقية وطريقة الأداء، وتتميز بخصائص لكلّ دولة، وهو ما جعل من هاتين الثقافتين مميزتين، لدرجة أنّ الانسجام سريعاً ما يتمّ في التعبير الشعبي في المهرجانات والاحتفاليات وكل المناسبات الحاملة لهذا التراث أو لهذا التعبير الأصيل.
موروث عريق
وفي جانب التراث أيضاً، فإنّ سباق «الهجن»، كموروث عريق يدل على أصالة الإمارات وعُمان، وهو مفردة رائجة وحاضرة، ولنا أن نقيس على ذلك العديد من الأفكار التراثية ذات الاهتمام المشترك في كل أوجه الحياة ومناسباتها في الأفراح والزواج والأعياد الدينية والوطنيّة، وفي عالم الحرف اليدوية، وغيرها من المجالات والمفردات.
وفي معارض الكتاب يُعدّ معرض مسقط الدولي للكتاب ذا حضور ومتابعة للمثقفين والأدباء العرب، وتحديداً المثقف والأديب الإماراتي الذي تحتضن بلاده معرضين كبيرينِ للكتاب، هما معرض أبوظبي الدولي للكتاب، ومعرض الشارقة الدولي للكتاب، ولذلك كانت ولا تزال الإبداعات المشتركة لدور النشر العُمانية والإماراتية حاضرةً وبشكل جميل على منصات وأنشطة وأجنحة هذه المعارض.
وفي مجال الكتابة والأدب تقوم الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء بدور كبير في التشاركية العربية والخليجية في الاستضافات واللقاءات والبروتوكولات الثقافية، ونظراً للعلاقة المتميزة التي تربط الإمارات وعُمان، فإنّ اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وكلّ الجمعيات الأدبية والفنية ذات العلاقة، على تواصل وتبادل ثقافي وفني في المهرجانات والتباحث حول الأدب والإبداع في مجالات كثيرة، منها على سبيل المثال، فوز الكاتب العُماني زهران القاسمي بجائزة البوكر العربية للرواية، عن روايته «تغريبة القافر»، وسط احتفال كبير بالفوز في العاصمة الإماراتية أبوظبي.
والأمثلة على حضور المثقف العُماني على منصات الشعر كثيرة، كما في برنامج «شاعر المليون،» بأبوظبي، وكذلك في العديد من مهرجانات الشعر النبطي والشعر الفصيح في الشارقة. ومن أمثلة ذلك، فوز الشاعرة العُمانية عائشة السيفي التي تُوّجت قبل فترة أميرةً للشعراء في برنامج «أمير الشعراء» الإماراتي في موسمه العاشر، وسط حفاوة عُمانية وإماراتية وعربية لافتة. ومثلما يزدهر الأدب والشعر وفنون التشكيل والمسرح والموسيقى التراثية وأدواتها القديمة والحديثة في كلٍّ من عُمان والإمارات، فإن للثقافة وأساليب الحياة وأعمال الزراعة والمباني والعمارة، اشتراكاً واضحاً بين الدولتين، حيث تتنوع بينهما البيئات السكانية ما بين البادية والحضر والزراعة، بما يجلبه هذا التنوع من ازدهار لفنون القول والتعبير الشعري الذي كان في الماضي يتنافذ على بعضه بحكم الجوار الجغرافي والتاريخي بين الإمارات وعُمان.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: عمان سلطنة عمان الثقافة التراث الإماراتي الثقافة الع الع مانیة الع مانی ع مانیة
إقرأ أيضاً:
القبيلةُ اليمنية.. درعُ الوطن وسندُ الحركات الوطنية وبُنيةٌ أصيلةٌ في عمق التاريخ العربي
يمانيون /
(قبائلُ اليمن) هي القبائلُ القاطنةُ ضمن حدود الجمهورية اليمنية. ولا توجدُ إحصائيات رسمية لعدد القبائل في اليمن، لكن بعض الدراسات تشير إلى أن: “القبائل تُشَكِّلُ حوالي 85% من تعداد السكان البالغ عددهم 25،408،288 نسمة (فبراير 2013م). وبحسب بعض الإحصائيات فإنه يتواجد ما يقارب 200 قبيلة في اليمن، وبعضُها الآخر أحصى أكثر من 400 قبيلة”، وبصفة عامة، تعد اليمن أكثر بلدان العالم العربي قبَليةً. ولمعظم القبائل اليمنية تاريخ قديم يعودُ إلى عصر الدول اليمنية القديمة كمملكة سبأ. وفي فترات مختلفة من التاريخ شكّلت القبائلُ اليمنية تحالفاتٍ قوية لبناء دول وإسقاط أُخرى. وبالرغم من أن عموم القبائل اليمنية تعودُ إلى أقسام مشتركة بطبيعة الحال، فإن تنسيبَ القبيلة بمعناه الدقيق يعد ترفاً معرفياً، وهو أمرٌ ليس بأهميّة النظر إلى طبيعة التحالفات القبلية، فالقبائل أبعد من أن تكونَ هياكل مجتمعية متجانسة بأي حال من الأحوال، إذ قد تشترك عدة قبائل في تاريخ ونسب مشترك، ولكنها تدخل في إطار تحالفات مختلفة.
ظلت اليمن عبـر فتـرات طويلة تشكل أمة موحدة على الرغم من عدم تشكل دولة مركزية تفرض سلطتها على كامل اليمن، باستثناء فترات قصيرة من تاريخ اليمن. وكانت الأمة مكونةً من عدد من القبائل. وقد استقر التقسيمُ القبلي في اليمن مع ظهور الإسلام في إطار أربعة اتّحادات قبلية (حميـر، مذحج، كندة، همدان)، حيث يتكوّن تجمع قبائل مذحج من ثلاث قبائل (عنس، مراد، الحداء) وهي تعيش في المناطق الشرقية من اليمن، أما قبائل حميـر فهي التـي تسكن المناطق الجبلية الجنوبية والهضاب الوسطى، أما همدان فتتكون من قبيلتين (حاشد وبكيل). وقد أَدَّت الظروف السياسية والاقتصادية في اليمن خلال العصور الوسطى ومطلع العصر الحديث إلى إعادة رسم الخارطة القبلية لليمن، فانضمت قبائل مذحج إلى اتّحاد قبائل بكيل، وانضمت بعض قبائل حميـر إلى اتّحاد قبائل حاشد.
بالتالي، فإن الخارطة القبلية في اليمن لم تكن جامدةً، فالبنية القبلية لم تتحدّد على أَسَاس القرابة، بل أَيْـضاً على أسس سياسية واقتصادية، فالقبيلة اليمنية في ظل غياب الدولة كانت تضطلع بجميع الوظائف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التـي يمكن للدولة أن تقوم به؛ لذلك كانت القبيلةُ اليمنية تنظيماً حربياً يضمنُ أمنَ أفراده وحماية ممتلكاتهم، وكانت تنظيماً اقتصادياً ينظم استخدام الموارد الطبيعية، وَأَيْـضاً تنظيماً اجتماعياً وقانونياً ينظم قواعد العلاقات الاجتماعية وتسوية الخلافات بين أفراد القبيلة.
أولاً: تعريف القبيلة
1- تعريف القبيلة لُغةً:
يُعرِّفُ علماءُ اللّغة العربية القبيلةَ بأنها: “جماعة من الناس تنتسب إلى أب أَو جَدٍّ واحد، كقبائل العرب وسائرهم من الناس، وأخذت قبائل العرب من قبائل الرأس لاجتماعها، وجماعتها الشعب والقبائل دونها، يقال الشعب أكبـر من القبيلة ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن”.
2- تعريف القبيلة اصطلاحاً:
تعرف القبيلة اصطلاحاً بأنها: “الشكل الاجتماعي والسياسي الذي كان سائداً قبل ظهور مفهوم المدينة أَو الدولة، إذ أن الدراسات الأنثروبولوجية تعتبر القبيلةَ نمطاً مجتمعياً ونموذجاً من نماذج التنظيم الاجتماعي، إلا أن الباحثين يؤكّـدون صعوبة إيجاد تعريف شامل لها؛ لذا برزت العديدُ من المحاولات النظرية لتقديم مفهوم أَو تعريف للقبيلة ومن بينها ذلك التعريف القائل بأنها: مجموعة بشرية مكونة من مجموعات اجتماعية، يجمع بينها رابط القرابة، وتحتل مجالاً ترابياً تمارس علية سلطتها، وتدافع عنه، وتخضع لقيم ومبادئ مشتركة”.
3- تعريف قاموس أكسفورد للقبيلة:
عرّفها القاموس بأنها: “جماعة من الناس يشكّلون مجتمعاً محلياً ويعلنون أنهم ينحدرون من جد أَو سلف مشترك”.
4- تعريفات أُخرى للقبيلة:
– هي: “أحد المؤسّسات الاجتماعية أَو منظمات المجتمع المدني والتي تقوم على رابطة الدم كعامل أَسَاسي في التأثير على آراء واتّجاهات أبنائها”.
– هي: “جماعة من الناس تنتمي في الغالب إلى نسب واحد يرجع إلى جد أعلى أَو اسم قبلي يعتبر بمثابة جد، وتتكون من عدة بطون وعشائر، وغالباً ما يسكن أفراد القبيلة إقليماً مشتركاً يعدونه وطناً لهم، ويتحدثون لهجة مميزة، ولهم ثقافة متجانسة أَو تضامن مشترك”.
ثانياً: لمحةٌ تاريخية عن الدور السياسي للقبيلة اليمنية
“هبَّ رجالُ اليمن؛ لنشرِ راية التوحيد من ديار الإسلام، وهناك في أرض الهجرة دافعوا دفاعَ الأبطال، واقتحموا الأهوالَ وصابروا وصبروا وقاتلوا حتـى ظفروا بإحدى الحسنيين”.
تاريخياً، كان للقبائل اليمنية دور كبيـر وبارز في الفتوحات الإسلامية، وفي نُصرة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في معارك الجمل وصفين. كما كان للقبائل اليمنية (الشماليةِ والشرقية) صولةٌ وجولة في مواجهة الغزو الأيّوبي لليمن منتصف القرن السادس الهجري (569هـ – 626هـ) بقيادة الإمام أحمد بن سليمان وكذلك الإمام عبدالله بن حمزة. وقد قاومت القبائل اليمنية أَيْـضاً- الغزو التركي لليمن في القرن العاشر الهجري، وقد قاد إحدى الثورات ضد ذلك الغزو الإمام القاسم محمد بن علي (1045هـ). وبالرغم من كثـرة جيش الأتراك وتطور سلاحه في مقابل بساطة عتاد وأعداد القبائل اليمنية وسلاحها، إلا أن الأتراك واجهوا مقاومة شرسة داخل اليمن، وذلك تأكيداً لمقولة أن اليمن تعد “مقبرة الغزاة”. وقد تمكّنت القبائل اليمنية بقيادة الإمام يحيى بن محمد حميد الدين من دحر الاحتلال التركي وتوحيد اليمن شمالاً وغرباً وشرقاً في العام 1917م. كما تمكّنت قبائل الجنوب اليمنـي من دحر الاحتلال البريطاني رغم مدة بقائه الكبيـرة في جنوب اليمن (139عاماً)، إذ تمكّنت بسالة وشجاعة وصبر تلك القبائل ومسانديها من القبائل الشمالية من هزيمة ودحر الاحتلال البريطاني من أرض الجنوب اليمنـي نهاية العام 1967م. وبصفة خَاصَّة، كان للقبائل اليمنية دور مؤثر في تشكل الدولة اليمنية القديمة والمعاصرة على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
على المنوال ذاته، تواجه القبائل اليمنية في الوقت الحاضر العدوانَ السعودي الأمريكي منذ أربعة أعوام بتنظيمها التقليدي وسلاحها البسيط، حيث أبهرت العالم وقهرت فخر الصناعات العسكرية الأمريكية والأوروبية، مسجلة بذلك أروع وانصع الانتصارات، ومكبدة قوى العدوان أفدح الخسائر المادية والبشرية.
ثالثاً: تركيبةُ القبيلة اليمنية
“تعد البنية القبلية من أَهَـمِّ السمات الرئيسية التـي تتميـز بها البنية الاجتماعية في المجتمع العربي عموماً، والمجتمع اليمنـي خصوصاً، حيث ظلت القبيلة عبـر التاريخ جزءاً لا يتجزأ من المفهوم العام للأمة والمجتمع اليمني، ولعبت دوراً فاعلاً في الحياة السياسية، وتمتعت في كثيـر من حقب التاريخ بنفوذ كبيـر”. وَ”تشكل القبيلة اليمنية -تاريخياً- وحدة سياسية واجتماعية واقتصادية متكاملة ومستقلة عن غيرها من الوحدات، فكانت تمثل تنظيماً لإدارة الموارد الطبيعية المملوكة ملكية جماعية، ووحدة عسكرية تضطلع بالدفاع عن أفرادها والأفراد والجماعات التابعة لها، وتنظيم اجتماعي ينظم علاقة أفراده بعضهم بالبعض الآخر”.
كما تتميـز القبيلة اليمنية بقوة ترابطها وقوة بنيتها البيولوجية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالقبيلة اليمنية تتكون من الأسرة، والأسرة مع الأسرة تشكل القرية، والقرية مع القرية تشكل القبيلة، والقبيلة مع القبيلة تشكل المِخْلاف. وتجمع القبيلة عادةً رابطة الدم، لكن أحياناً قد لا توجد رابطة دم واحدة في القبيلة. كما يوحد القبيلة -بعد الدين- عاداتها وتقاليدها وأعرافها وأسلافها ولهجتها. وللأعراف والأسلاف والعادات والتقاليد قداسة وحضور في حياة ووجدان القبيلة اليومي، حيث أن للقبيلة طقوساً اجتماعية وسياسية واقتصادية عرفت بها منذ القدم، كالوحدة في مواجهة العدوّ و”الغُرْم” والعون والتعاون في الزراعة، وكذا التكافل الاجتماعي بين أفراد القرية الواحدة والقرى معاً، ومن ثم القبائل فيما بينها، فهذه الطقوس تعتبر جامعة وموحدة لأفراد القبيلة والقرية على حَــدٍّ سواءٍ، ولا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال.
نتيجةً لهذا التركيب المعقد والطقوس الموحدة والجامعة والقوية في فاعليتها بين أفراد القبيلة، ظلت قبائل اليمن قوية ومترابطة وعصية، ولم تخضع للاستعمار أَو الغزو، ولم تقبل بالأجنبي، حتـى أنها أَحياناً كانت تثور ضد حكامها الظلمة إذَا ما دعا الأمر.
رابعاً: القبيلةُ تثورُ ضد النظام الفاسد (2011م)
خرجت قبائلُ اليمن ضمن مكونات الثورة الشعبيّة الكبيـرة التـي قامت ضد نظام صالح في مطلع العام 2011م؛ وذلك نتيجة لفساد ذلك النظام على المستويات الإدارية والمالية والسياسية والاقتصادية، وسوء توزيع الثـروة الوطنية، وكذا تهميشه لدور أبناء القبائل ومشايخها المعارضين للنظام، وافتقار مناطقهم لمشاريع التنمية والخدمات العامة، ناهيك عن نهب ثروات البلد وتمكين الشركات الأجنبية من التحكم في ثروات اليمن المعدنية والنفطية. في المقابل، سعت أمريكا جاهدةً لإبقاء “صالح” في مسرح العملية السياسية وبقاء أعوانه الفاسدين عن طريق ما عرف بالمبادرة الخليجية، حيث أعطت تلك المبادرة لصالح وأعوانه حصانه قانونية تمنع من ملاحقتهم قضائياً، فكان تمريرُ الأمريكان لتلك المبادرة بمثابة اغتيال مبكر للثورة الشعبيّة.
في 21 سبتمبر 2014م خرجت قبائل اليمن -مجدداً- بثورة عارمة ضد نظام هادي وحكومة باسندوة، وذلك في ظل تصاعد وتيرة الفساد المالي والإداري و”الجرع” التـي توالت على الشعب اليمني. ونجحت تلك الثورة -في مرحلة لاحقة- في مواجهة واجهاض مؤامرة مشروع الأقلمة بمؤازرة القبائل اليمنية، حيث رحل المارينز الأمريكي عن الأرض اليمنية، واستقل القرار السياسي لليمن، بعد أن كانت اليمن تدار من السفارات. كما تمكّنت اللجان الشعبيّة من القضاء على تنظيم القاعدة في سبع محافظات يمنية، وإلقاء القبض على عصابات الاغتيالات التابعة لحزب الإصلاح.
خامساً: القبيلةُ تواجهُه العدوانَ السعودي الأمريكي على اليمن
“لقد أثبتت الأحداث التـي شهدتها اليمن قديماً وحديثاً دور القبيلة ليس فقط في عملية التنمية بل أَيْـضاً دورها ومساهمتها في دعم الحركات الوطنية التـي دافعت عن اليمن ضد الغزو الأجنبي”. “وتمثل القبائل في اليمن أحد أَهَـمِّ المقومات الأَسَاسية المتعاقبة، وتعد المخزون الاستراتيجي لتزويد الأنظمة السياسية اليمنية المتعاقبة بالرجال المحاربين والجيوش المقاتلة. كما أن السمة التـي تميزت بها حياة القبيلة في اليمن -عبـر التاريخ- هي النزعة الحربية والقتالية لأفرادها وجماعاتها، وما زالت القبيلة اليمنية المكون الأَسَاسي للمجتمع اليمني”.
“إن هذا الدور لقبيلة اليمن ليس وليد اللحظة وإنما بنية اجتماعية قيمية أخلاقية متأصلة ضاربة في عمق التاريخ، بعكس ما لمسناه من المكونات السياسية التـي أثبتت تضعضعاً أخلاقياً يفوح عفنه من إبط تصرفات قياداتها فالقبيلة ممثلة باللجان الشعبيّة قد جمعت واحتضنت تحت راية الوطن في مواجهة العدوان كافة الأطراف والمكونات ومن كافة المناطق”.
“هذه الروح القبلية الأصيلة جزءٌ أصيلٌ من تكوينها الاجتماعي والاقتصادي إلا أن القبيلة ما زالت تحتفظ بالقيم الأصيلة التـي تعكس تكوينها الأول، والقبيلي متمسك بقبيلته رغم تحرّره الاقتصادي، فنجد الكرم والجود ووحدة الجماعة في دفاعها عن الفرد فيها وعن ساحتها”، “والقيادة في القبيلة متوارثة، ولها ترتيب هرمي يكون الشيخ في قمته، وقوة الشيخ في القبيلة غيـر مسبوقة”، “أعلنت قبائل همدان والحيمة وبني حشيش وخولان وبلاد الروس وسنحان في محافظة صنعاء، وقبائل الحداء وآنس ورداع والبيضاء والمحويت، وخيـران وعبس في حجة، ومعها حاشد وبني صريم في عمران، وقبائل يام وريمة، وأُخرى من الحديدة، انتقالها من المساندة إلى المواجهة المباشرة مع قوات التحالف، ونظمت هي الأُخرى عروضاً عسكرية كبيـرة أظهرت فيها قدراتها القتالية التـي بدا أنها توازي -مجتمعةً- قوة الدولة لجهة العتاد والرجال”.
“إن التحول الدراماتيكي في موقف القبائل من الإسناد إلى المواجهة يضعُ قوات العدوان في مواجهة مباشِرة مع الشعب اليمنـي برمته، كما يرى مراقبون الذين يؤكّـدون أن هذا التحوُّلَ سيساهمُ بعد الإنهاك الكبيـر للعدو، وفي تعزيز صمود الجيش واللجان الشعبيّة من جهة وإحباط تقدم القوات الموالية للعدوان، كما يلغي ذلك في رأيهم فرضيات التحالف في إحداث اختـراق لما يسمى (قبائل الطوق) التـي تحيط بالعاصمة من كُـلّ اتّجاه، فضلاً عن أن أسلوب العروض العسكرية يعيد تنظيم دور القبائل ويعلن مرحلة جديدة من سلوك مقاتليها”.
ينطلق أفراد القبيلة في مواجهتهم للعدوان من إيمانهم الكامل بواجبهم القبلي الوطني والديني، حيث تتجلى مظاهرُ دور القبيلة اليمنية في تلك المواجهة بما يقدمه أبناء القبائل من دعم للجبهات ورفد لها بالمقاتلين بين الحين والآخر، وكذا مساندة الجبهات بالوقفات القبلية المسلحة التـي يتخللها الكلمات الحماسية والشعر الحماسي والقوافل الغذائية.
أ-القبيلة ترفد الجبهات بالمقاتلين:
(قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِي) [النمل: 33].
حين شُنَّ العدوانُ السعودي الأمريكي حربه على اليمن كانت القبائلُ اليمنية في مقدمة صفوف مواجهته، حيث تلعب القبيلة اليمنية منذ أربع سنوات دوراً بارزاً وجوهرياً في مقاومة ذلك العدوان الغاشم، فرجال القبائل اليمنية -بطبيعتهم- يحملون السلاحَ ويُجيدون استخدامَه ويتقنون مهارات وفنون الحرب كابراً عن كابر. كما أن القبائل اليمنية تملك مختلفَ أنواع السلاح الخفيف والمتوسط وتجيد استخدامه بكفاءة عالية، وتتمتع كذلك بروح المقاومة والشجاعة والنجدة والمروءة والكرم، ما جعل تحَرُّكَها في جبهات القتال تحَرُّكاً سريعاً ومرناً ومؤثراً. كما تحتفظ القبائل اليمنية بثقافة الغُرْم، وهي مساهمة أبناء القبيلة في رفد الجبهات بالرجال المقاتلين والسلاح والمال والمواد الغذائية.
ولأبناء القبائل اليمنية قدرة عجيبة على تحمل التعب والمشقة والصبر والإصرار على تحقيق النصر. ونلاحظ أنه بعد مرور أربعة أعوام على عدوان السعودية وأمريكا على اليمن فإن قبائل اليمن لا تزال صامدة وصابرة، بل تواجه وتجابه العدوان بكل بسالة وشجاعة رغم بساطة السلاح الذي يملكه رجال القبائل، حيث أن معنوياتهم كبيـرة ويتمتعون بثقة كبيـرة بأنفسهم ويؤمنون بقناعاتهم الشخصية بالنصر منذ اليوم الأول للعدوان على اليمن. لقد أبهر أولئك الرجال العالم وهم يواجهون أحدث وأفخر الصناعات العسكرية الأمريكية والأوروبية من طائرات ودبابات ومدرعات ومدفعية متطورة، وهم يواجهون كُـلّ تلك الأسلحة الحديثة بالكلاشنكوف والـ آر بي جي، أربعة أعوام من العدوان على اليمن وقبائل اليمن تقاتل وتواجه دونما هوادة، وذلك بالرغم من تفكك الجيش اليمنـي وتعدد ولاءاته وغيابه عن جبهات القتال إلا ما ندر من أبناء الجيش الشرفاء والأوفياء لوطنهم. زد على ذلك أن اليمن أصبح بلداً محاصَراً براً وبحراً وجواً.
ب- القبيلةُ تواجهُ اقتصادياً:
“إن اليمنَ ورغم أزمته الاقتصادية الخانقة يتميـز بحيوية مجتمعه السياسي، وتعدّد الأقطاب الاجتماعية الصلبة فيه وفي طليعتها القبائل. وبالتالي فالدولة اليمنية لا يمكن أن تدارَ على المدى المنظور من دون حل جذري للمشاكل الاقتصادية والسياسية. وهذا ما يغيب عن وعي الساسة السعوديين والإماراتيين الذين يفضّلون التعامُلَ مع الظواهر وليس الجذور”.
تُمثِّلُ القبيلة مكوِّناً أَسَاسياً من مكونات رأس المال الاجتماعي، وقوة اقتصادية حية تمتد تأثيراتها على العلاقة بين الدولة والقبيلة. ولم يكن للقبيلة دور واحدٌ فحسب، وهو رفد الجبهات بالمقاتلين الشجعان، ولكنَّ لها دوراً آخر اقتصادياً محورياً متمثلاً في رفد الجبهات بالقوافل الغذائية وبالمال والسلاح من حين إلى آخر. ورغم الحصار وارتفاع الأسعار إلا أن أبناء القبائل اليمنية لديهم ثقافة العون والغرم والرفد وهو واجب قبلي وموروث اجتماعي ضارب في عمق التاريخ اليمنـي والحضارة اليمنية، فبين الحين والآخر يظهر أبناء القبائل اليمنية في وقفات مجتمعين ومعهم ما جادوا به من المال والمواد الغذائية والأبقار والأغنام رفداً للجبهات، متعهدين بالمزيد من الدعم ومن الرفد للجبهات وأن ما يقدمونه ليس إلا القليل، حتـى أن آباءَ بعض الشهداء لا يكتفي بأن قدّم ابنه شهيداً، ولكنه يقوم بتسيير قافلة غذائية باسم الشهيد. فأي شعب عظيم كالشعب اليمنـي وأبناء قبائل الشعب اليمنـي الشجعان الكرماء الأوفياء لبلدهم ولدماء شهدائهم ولدينهم؟!.
جـ- القبيلة تواجه ثقافياً:
لدى اليمنيين موروثٌ أدبي شعبي كبيـر وعريق وقديم ومتميـز متمثل بالخطابة والنثـر والشعر الفصيح والشعبي وكذا “الزوامل” الشعبيّة وهي عبارة عن الأشعار الشعبيّة والشعر الفصيح، فكثيـرة هي الأشعار تلك التـي تمدح المجاهدين اليمنيين وتتوعد العدوّ والخائن وتُعلِي من تضحيات أبناء الوطن، فالشعر يؤثر في نفوس المقاتلين فيحركهم نحو الجبهات والإنفاق، ويعلمهم الشجاعة والصبر والثبات. وتصف الزوامل الملاحم القتالية والمعارك بصور بلاغية عالية، فأبناء القبائل اليمنية يعتبرون الشعر جزءاً من ترسانتهم العسكرية، ففي كُـلّ قرية هناك شاعر، وللقبيلة أَيْـضاً شعراء يرفدون أرض المعارك بالقصائد والأشعار الحماسية والمدح والفخر والرثاء للشهداء، وكذا الهجاء للعدو والخائن والتوعد والوعيد بالتنكيل. ويرافق الزوامل عادةً البرع والرقصات الشعبيّة، فلكُلِّ قبيلة بَرْعَةٌ (رقصة) تميزها عن باقي القبائل، وعادةً ما يكون البـرع بالجنبية (السلاح الأبيض) التـي ترفع باليد اليمنى في حين تحمل اليد اليسرى السلاح (البندقية). والبـرع بالجنبية يعد علامة للقوة والشجاعة، فطبل الحرب يقرع للوعيد تجاه العدو، والتلويح بالجنبية في الهواء هو تلويح بالقوة والفخر والنصر. كذلك الوقفات القبلية المندّدة بالعدوان والمتضمنة للكلمات الثقافية والسياسية والاقتصادية والأشعار الحماسية، ووعد أبناء القبائل بالمقاومة والقتال حتـى آخر رجل منهم، فأبناء القبائل اليمنية عصية وقوية وثابتة وشامخة كجبال اليمن
المسيرة: خالد يحيى العماد ، باحث في علم الاجتماع السياسي