محمد مندور يكتب: أبطال المناخ وسفراء الزراعة
تاريخ النشر: 8th, July 2025 GMT
في تحول نوعي نحو مستقبل زراعي أكثر استدامة بيئيًا، احتفلت مصر مؤخرًا بـ "أبطال المناخ من المزارعين المصريين". وكان بمثابة - مفاجأة لي توزيع وزيرة البيئة الدكتورة ياسمين فؤاد شهادات الكربون على هؤلاء الفلاحين.
هذا الحدث لم يكن مجرد احتفال، بل كان تأكيدًا على الدور المحوري الذي يلعبه الفلاح المصري في مواجهة التغيرات المناخية، وتسليط الضوء على مبادرة رائدة تدمج الزراعة المستدامة بآليات اقتصادية مبتكرة مثل شهادات الكربون.
لكن السؤال: لماذا شهادات الكربون بالتحديد؟ فالمعلوم لدى المتخصصين أن شهادات الكربون تعتبر بمثابة أداة تحفيزية أساسية لدعم المزارعين في التحول من الزراعة التقليدية إلى الزراعة الحيوية. وهذا التحول لا يساهم فقط في حماية البيئة والتنوع البيولوجي والمناخ، بل يفتح آفاقًا جديدة للمزارعين لتسويق منتجاتهم بأسعار تنافسية محليًا وعالميًا، وبالتالي تحسين دخولهم. فهذه الشهادات تعد بمثابة وثيقة تؤكد أن هذا المنتج له ميزة تنافسية بيئية ترفع من قيمته في الأسواق.
وتجدر الإشارة إلى أمر في بالغ الأهمية أيضاً، وهو أن ربط الزراعة بتغير المناخ في مصر ليس تحركًا نظريًا، بل أمر يتجسد في كيفية تحويل الممارسات البيئية السليمة إلى تقليل الانبعاثات الكربونية، وهي رؤية تبنتها عدة جامعات ومؤسسات مجتمعية مصرية وخاصة، بالتوجه نحو استخدام المواد الطبيعية بدلاً من المبيدات الضارة بالبيئة.
ولعل اللافت خلال السنوات الماضية أيضًا هو سعي مصر بقوة للاستفادة من نتائج مؤتمر المناخ COP27 الذي استضافته، لضمان حدوث تغيير فعلي في السلوكيات وزيادة وعي المزارعين بآليات شهادات الكربون. هذه الشهادات، التي تم طرحها لتكون طوعية، أدت إلى إطلاق أول سوق طوعي للكربون في مصر، مع ربطها بشكل خاص بالقطاع الزراعي لدعم التحول نحو الزراعة الحيوية.
الأمر الأكثر تفاؤلًا - من وجهة نظري- في هذا الموضوع ما قالته وزيرة البيئة عن أملها بالوصول إلى 50 مليون مزارع بحلول عام 2030 يطبقون الزراعة الحيوية ويحصلون على شهادات الكربون. فلا شك أن المزارعين شركاء في هذا المسعى، نظرًا لدورهم الكبير في تلك المواجهة وتأثرهم أيضًا بمخاطر التغيرات المناخية مثل ارتفاع درجات الحرارة التي تؤثر على الزرع والماء. ويبدو أن هذا الطموح - الذي جاء على لسان وزيرة البيئة- يعكس رؤية مصرية شاملة لا تقتصر على الخطط والسياسات العليا، بل رؤية أعمق تمتد لتشمل تمكين الفئات الأكثر تأثرًا بالتغيرات المناخية مثل المزارعين.
لكن الأكثر أهمية في هذا الحدث وتكريم أبطال المناخ، هو أن مزارعي مصر هم أبطال المناخ الحقيقيون، كما أن التوسع في التعاون مع آلاف المزارعين لمساعدتهم على التحول إلى الزراعة الحيوية خلال المرحلة المقبلة، سيساهم في تحسين دخولهم وفتح آفاق تسويقية جديدة لمنتجاتهم.
على جانب آخر، لا ننسى أن نثمن هنا الجهود التي قادتها وزيرة البيئة منذ عام 2022، سواء من خلال إصدار قوانين السوق الطوعي للكربون، أو تنظيمه بالتعاون مع هيئة الرقابة المالية، أو تدشين منصة لتداول الكربون داخل البورصة المصرية.
هذه الخطوات الحاسمة أدت إلى وصول عدد المزارعين الحيويين في مصر إلى أكثر من 30 ألف مزارع، مما جعل مصر نموذجًا رائدًا على مستوى القارة الإفريقية والمنطقة في استخدام الزراعة كأداة لمواجهة التغيرات المناخية.
وأخيرًا، هذه المبادرة لتكريم أبطال المناخ من المزارعين لا تعزز فقط القدرة التنافسية للقطاع الزراعي المصري، بل تضع الفلاح المصري في قلب الحلول المناخية العالمية، وتطبيق لمبدأ العمل من القاعدة لتحقيق التنمية المستدامة والمساهمة الفعالة في حماية كوكب الأرض.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: وزيرة البيئة الدكتورة ياسمين فؤاد شهادات الكربون التغيرات المناخية التغیرات المناخیة الزراعة الحیویة شهادات الکربون وزیرة البیئة
إقرأ أيضاً:
بكتيريا أفريقية خارقة تتنفس سموم أول أكسيد الكربون وتحولها إلى طاقة
كشفت دراسة حديثة، منشورة في دورية "نيتشر كوميونيكيشنز"، عن تقدم كبير في تسخير أحد أنواع البكتيريا لتحويل أول أكسيد الكربون بكفاءة غير مسبوقة، مما يمهد الطريق لثورة في التكنولوجيا الحيوية الصناعية.
يقول ريمي هوك، الباحث في معهد الهندسة الكيميائية والبيئية والبيولوجية في جامعة فيينا التقنية في النمسا، والباحث الرئيسي في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "قد تحمل البكتيريا عناصر وراثية كامنة يمكن تنشيطها انتقائيا عند الحاجة لذلك".
ويضيف هوك أن ذلك يُتيح طريقا مختصرا لاكتساب سمات أيضية جديدة دون الحاجة إلى طفرات بطيئة ومتزايدة كما يحدث في الحالة الطبيعية على مر التاريخ، ومن ثم فإن ذلك يعد "تذكير قوي بأن جينومات البكتيريا أكثر ديناميكية واستجابة مما نظنه غالبا".
ويشرح هوك: "ما رأيناه في بكتيريا ‘الثرموأنايروباكتر كيفو’ قد يكون مجرد غيض من فيض، ويفتح آفاقا بحثية جديدة حول كيفية مساعدة العناصر المتنقلة الميكروبية على البقاء والابتكار في بيئات بيئية صعبة".
غاز الاصطناع هو خليط الغازات التي تحتوي على كميات مختلفة من أول أكسيد الكربون والهيدروجين. ويختلف التركيب الكيميائي لغاز الاصطناع حسب المواد الخام وعمليات التصنيع. إذ يكون غاز الاصطناع المنتج بتغويز الفحم، أي تحويله لغاز تحت درجات حرارة عالية وفي وجود كميات محدودة من الأكسجين أو البخار، عادة خليطا بنسب تتراوح بين 30% و60% من أول أكسيد الكربون و25% و30% من الهيدروجين و5% و15% من ثاني أكسيد الكربون و0% و5% من الميثان.
اعتاد الباحثون على التعامل مع البكتيريا المنتجة للأسيتات، مثل بكتيريا "الثرموأنايروباكتر كيفو"، كمحفزات حيوية واعدة لتحويل خليط غاز الاصطناع الناتج من المخلفات الزراعية إلى منتجات مفيدة كالوقود الحيوي.
يقول هوك: "تُستخدم بكتيريا ‘كيفو’ غازي ثاني أكسيد الكربون والهيدروجين بشكل طبيعي، ولكي يستخدم الغاز الاصطناعي بكفاءة، كان عليها أيضا أن تتحمل أول أكسيد الكربون وتنمو عليه، وهو غاز سام للعديد من الميكروبات التي تُخمّر الغازات. كان هذا التحدي محوريا في جعل ‘كيفو’ منصة فعّالة للتحويل الحيوي المستدام للغاز الاصطناعي".
عُزلت بكتيريا "كيفو" في الأصل من بحيرة كيفو في أفريقيا، حيث تقع على حدود كل من رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. ويتراوح نطاق نمو هذا الكائن الحي بين 50 و72 درجة مئوية عند درجة حموضة تتراوح بين 5.3 و7.3، مع ظروف نمو مثالية عند درجة حرارة 66 درجة مئوية.
إعلانكانت عملية التكيف سريعة ومذهلة، حيث حصل الباحثون على السلالة الجديدة، المسماة "أول أكسيد الكربون-1″، في 31 جيلا فقط من خلال التطور المخبري التكيفي.
والأهم من ذلك ما أظهرته هذه السلالة من نمو سريع اعتمادا على أول أكسيد الكربون وغاز الاصطناع، بمعدل تضاعف لا يتجاوز 3 ساعات. هذا الإنجاز يمثل قفزة نوعية مقارنة بالمحاولات السابقة لتكييف بكتيريا "كيفو" مع أول أكسيد الكربون، والتي أسفرت عن معدلات نمو منخفضة جدا بما يعادل وقت تضاعف يصل إلى 40 ساعة.
يُعد معدل النمو هذا الأعلى بين أي بكتيريا منتجة للأسيتات معروفة تنمو على أول أكسيد الكربون في وسط محدد كيميائيا. هذا التفوق في الأداء يجعل سلالة "أول أكسيد الكربون-1" مرشحا استثنائيا للتطبيقات الصناعية، حيث تترجم السرعة والكفاءة العالية مباشرة إلى زيادة الإنتاجية والجدوى الاقتصادية. كما أن قدرة هذه السلالة على استهلاك أول أكسيد الكربون والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون بشكل متزامن من غاز الاصطناع تعد جانبا حاسما لمعالجته الحيوية في البيئات الصناعية الواقعية.
يكمن السر وراء قدرة السلالة الفائقة في آلية جينية غير متوقعة، حيث يُحشد عنصر جيني كبير ودائري خارج الكروموسوم يُعرف باسم "الميغاترانسبوزون" الخاص بـ "أول أكسيد الكربون-1″، والكروموسومات حزمة ملفوفة بإحكام من الحمض النووي، موجودة داخل نواة كل خلية.
وتُعرف التراسبوزونات عادة باسم "الجينات القافزة"، وهي أجزاء متحركة من الحمض النووي يمكنها الانتقال داخل الجينوم، مما يؤدي إلى إعادة ترتيب المادة الوراثية.
يشرح هوك: "يبلغ طول العنصر الذي اكتشفناه في بكتيريا ‘كيفو’ بعد تكيفه مع أول أكسيد الكربون حوالي 86 ألف زوج قاعدي، ويحمل أكثر من مئة جين، ومن هنا جاء اسم ‘الميغاترانسبوزون’ أي القافز الضخم. في هذه الحالة، لا يظهر الجين القافز الضخم إلا عند التعرض لأول أكسيد الكربون، ويغير التعبير عن الجينات الأيضية الرئيسية المشاركة في التنفس اللاهوائي، مما يُمكّن الميكروب أساسا من ‘تنفس’ أول أكسيد الكربون".
نشأ الجين القافز الضخم من منطقة حيوية في الكروموسوم الرئيسي للبكتيريا، وتحديدا من منطقة معروفة باسم مسار "وود-لونغدال"، وهو مسار مركزي لإنتاج الأسيتات.
وقد أظهرت النتائج بوضوح أن وجود هذا الجين القافز مرتبط بشكل مباشر بالقدرة على النمو على أول أكسيد الكربون، فقد تم العثور عليه في جميع السلالات المتكيفة مع أول أكسيد الكربون، ولكنه كان غائبا تماما في السلالات التي لم تتمكن من استخدامه.
يضيف هوك: "تنتشر الجينات القافزة في كل مكان في الجينومات الميكروبية، ولكن غالبا ما تم تجاهل دورها في عملية الأيض التكيفية. تشير نتائجنا إلى أن محفزات بيئية محددة، مثل التعرض لأول أكسيد الكربون، يمكن أن تُنشط جينات ناقلة معينة، مما يُطلق برامج تعبير جيني جديدة تدعم التكيّف. من المحتمل جدا أن آليات مماثلة تعمل في ميكروبات أخرى تواجه ضغوطا بيئية مختلفة، من المعادن الثقيلة إلى درجات الحرارة القصوى".
إعلان موازنة طاقة الخليةتشير الجينات القافزة إلى آلية تكيفية متطورة، حيث لا تقوم البكتيريا بتغيير جينومها بشكل دائم، بل تحشد هذا العنصر الجيني الضخم بشكل ديناميكي عند الحاجة، مما يسمح لها بالتكيف السريع مع البيئات المتغيرة أو الصعبة، وربما تقلل العبء الأيضي عندما يغيب أول أكسيد الكربون.
تُعزى سمية أول أكسيد الكربون إلى قدرته على تعطيل توازن الأكسدة والاختزال في الخلية، وخاصة عن طريق تثبيط الإنزيمات الرئيسية وتراكم بعض المواد المدمرة، ولكن البكتيريا طورت طريقة لتحييد ذلك.
يشرح هوك: "يُعد الفيريدوكسين أحد أهم العناصر في أيض بكتيريا ‘كيفو’، وهو بروتين ينقل الإلكترونات داخل الخلية. يوجد الفيريدوكسين في شكلين، مؤكسد (من دون إلكترونات)، ومختزل (حامل للإلكترونات). ويُعد الحفاظ على التوازن الصحيح بين هذين الشكلين أمرا بالغ الأهمية لتوليد الخلية للطاقة ووظائفها بشكل سليم. وعند تعرض بكتيريا ‘كيفو’ لأول أكسيد الكربون، تُراكم الشكل المُختزل، مما يُسبب اختناقا أيضيا في سلالة النوع غير المُتكيف".
ويضيف: "بعد التكيف، لاحظنا تغيرا في التعبير الجيني يبدو أنه يُخفف من هذا الاختناق، من خلال تقليل إنتاج الفائض من الفيريدوكسين المُختزل وتعزيز إعادة تدويره إلى الحالة المؤكسدة. بمعنى آخر، تُعيد السلالة المُتكيّفة توازن حالة الأكسدة والاختزال الداخلية لديها، وهو أمر ضروري لاستخدام أول أكسيد الكربون كمصدر وحيد للكربون والطاقة".
يتضح من ذلك الكيفية التي تتمكن بها تلك الكائنات الحية الدقيقة من تعديل مساراتها الأيضية بدقة للتعامل مع المواد السامة، مما يوفر فهما أساسيا لكيفية تكيفها مع البيئات القاسية ويقدم مخططا للهندسة الأيضية المستقبلية. كما تعمل الجينات القافزة كـ "مهندسين" لتخطيط والتوجيه، مما يتيح للكائنات الحية الدقيقة اكتساب قدرات أيضية معقدة ودمجها بسرعة، مما يوفر آلية قوية للتكيف والتنوع في شجرة الحياة.
على الصعيد الصناعي، تمثل سلالة "أول أكسيد الكربون-1″، بمعدلات نموها العالية وقدرتها الفعالة على استهلاك غاز الاصطناع، محفزا حيويا قويا لتحويل غازات النفايات الصناعية إلى مواد كيميائية قيمة مثل الأسيتات. هذا البحث يقدم مسارا ملموسا نحو اقتصاد كربوني دائري أكثر استدامة، مما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويخفف من الانبعاثات الصناعية.
يختتم هوك: "الآن وقد فهمنا الأساس الجيني لاستخدام أول أكسيد الكربون في بكتيريا ‘كيفو’ ولدينا نظام تحرير جينومي عالي الكفاءة قائم على تقنية كريسبر (تقنية دقيقة للتعديل الجيني استخدمها الباحثون في دراسة سابقة لتخليق نسخة مُعدلة ولكنها لم تُستخدم في هذه الدراسة)، فإن الخطوة المنطقية التالية هي هندسة مسار المُنتج. هدفنا هو تجاوز الأسيتات وإعادة توجيه عملية أيض بكتيريا ‘كيفو’ نحو مواد كيميائية ووقود آخر مستدام".
ويضيف: "بفضل نموها السريع على غاز الاصطناع وخصائصها الفسيولوجية المحبة للحرارة، تُعد بكتيريا ‘كيفو’ مناسبة تماما للدمج في عمليات تخمير غاز الاصطناع. كما نستكشف فرص التعاون مع شركاء الصناعة للبدء في ترجمة هذه التطورات إلى تطبيقات تجريبية".