انتخابات البرلمان الأوروبي.. ديمقراطية أوروبا تمر بلحظات عسيرة
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
من الأقوال المأثورة عن الرئيس الفرنسي "ديغول" قوله: "إن السياسة شأن هام جدًا، أهمّ من أن يُترك للسياسيين". ونحسب أن جوهر الأزمة الأوروبية اليوم، كما تجليه النّقاشات التي سبقت الانتخابات الأوروبية، يكمن في أن السياسة تُرِكت للسياسيين؛ والمقصود بالسياسيين هنا أولئك الذين يعميهم الصراع – من أجل تحقيق المكاسب السياسية – عن التأمل في الواقع تأمل مَن يستشرف المستقبل.
قرأت يومًا في جريدة ألمانية خبرًا مفاده أن المستشار الألماني "هلموت شميت" كان يختلي بالشعراء لمدة ثلاثة أيام في السنة، ينقطع فيها عن الواقع السياسي بغرض تجديد رؤيته للأشياء، وتغيير بلاغته السياسية. ونحسب أنه لا مناص لمن أراد أن يوسع آفاق نظره في الأمور ويجدد وعيه السياسي من أخذ مسافة نقدية من الأحداث اليومية التي تجعل الوعي يرزح تحت ضغط اللحظة الآنية، بعيدًا عن فسحة التأمل والتدبّر والتفكّر.
إن المتتبع للحملات الدعائية التي سبقت الانتخابات الأوروبية الجارية حاليًا تتملكه الحَيرة، ويعجز عن فهم ما آلت إليه الخطابات السياسية من تسطيح مُخِلٍّ وأفكار مبتذلة لا تفتح أفقًا جديدًا. يشعر المتأمل في هذه الخطابات أن ديمقراطية أوروبا تمرّ بلحظات عسيرة، وأن المواطن الأوروبي يفتقر إلى نقاط الاسترشاد في مشهد سياسي بئيس، فيركن إلى أفكار جاهزة ذات نزوع شعبوي متطرف.
الواقع أن اللحظة التاريخية التي تمرّ بها القارة الأوروبية، هي لحظة ضعف وأزمة، لحظة تنذر بالتفكك أكثر مما تعد بمزيد من الوحدة. يشعر بعض الباحثين والمفكّرين أن مظاهر انسداد الأفق السياسي في القارة الأوروبية يقتضي تحليلًا لحالة نفسية عامة. فقد سبق لـ "سيغموند فرويد" أن كتب عن حالة القلق الذي يسكن الحضارة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي. واليوم تجابهنا دراسات قيمة يرى أصحابها أن الابتذال السياسي الحاصل هو تمظهر من تمظهرات حالة نفسية قائمة ومستحكمة.
لعلّ من الكتب المهمة التي تستوقف القارئ كتاب "المجتمع المتعب/ المرهق" أو إن شئت "مجتمع التعب/ الإرهاق» (Müdigkeitsgesellschaft) لصاحبه "يونغ-شول هان" ( Byung-Chul Han )، وهو باحث ألماني من أصول جنوب كورية. بالرغم من صعوبة الأسلوب الذي كتب به الكتاب، ونزوع الكاتب نحو التَكرار الممل أحيانًا، تظلّ فكرته ذات راهنية كبيرة، كما يظلّ جهازه المفاهيمي صالحًا لتفسير ما آلت إليه الأوضاع في أوروبا تفسيرًا عميقًا.
ينبهنا "هان" إلى أن الأزمة أعمق من أن تكون سياسية فقط. بل هي أزمة إنسان ما بعد الحداثة، هذا الإنسان الذي تحرر من قيود المرجعيات التي كانت تكبّله في زمن الحداثة، ليكتشف أنه قد صار هو ذاته المرجعية، الأمر الذي فتح أمامه آفاقًا كبيرة للحركة والفعل والإبداع. غير أنّ هذه الآفاق الجديدة، وإن وسّعت أمامه مجال الفعل، فقد ورّثته حالة نفسية سِمَتها القلق والاكتئاب والنقص في التركيز، كما أفضت به إلى الإرهاق والتعب الدائمين جراء الإفراط في النّشاط الذي أصبح ملازمًا لتحرّره من القيود المذكورة.
يخلص "هان" إلى القول إنّ الإرهاق والتعب هما صفتان ملازمتان لإنسان ومجتمعات ما بعد الحداثة. ويشترك مع الباحثة "بينيديكت ديلورم- مونتيني" (Bénédicte Delorme-Montini) صاحبة كتاب «لحظة ما بعد الحداثة » (Le Moment post-moderne) في محاولة تفسير صعوبة اللحظة التاريخية التي تمر منها أوروبا والغرب عمومًا بردها إلى منظومة ما بعد الحداثة الفكرية والفلسفية والفنية. إن كتاب «ديلورم-مونتيني» هو في أصله محاولة ناجحة لإثبات العلاقة بين ما يختصم اليوم في المجتمعات الأوروبية من مطالب متضاربة، وما يعتمل فيها من نزعات هُوياتية ونظريات النوع الاجتماعي، من جهة، وبين النزعة التفكيكية التي عرفتها أوروبا منذ سبعينيات القرن الماضي، من جهة أخرى.
نستشفُّ من المؤلَّفَيْن المذكورَين أن أزمة أوروبا اليوم تعود في أصلها إلى منظومة فكرية وفلسفية ما بعد حداثية، كما نفهم من خلالهما أن جزءًا كبيرًا مما تعانيه أوروبا والغرب عمومًا مصدره قصور في تمثل الخطاب السياسي لروح العصر، هذا العصر الـ "ما بعد حداثي" الذي لا يكاد الإنسان يسعد بتوسع مجالات الحرية فيه، حتى يجد نفسه يشقى بما يُقْبل عليه من أفعال لا تنضبط بضابط مجتمعي أو ديني أو أخلاقي.
إن القول بدخول المجتمعات الأوروبية مرحلة العياء والتعب والإرهاق في زمن ما بعد الحداثة، يجد ما يعضده في دراسات سواء حضارية أو ثقافية أو إستراتيجية، نذكر منها الدراسة المنجزة من قبل الباحث في شؤون الاندماج الأوروبي «بيير هاروش» (Pierre Haroche) والتي ضمنها كتابه « داخل كور العالم: كيف تولد أوروبا من تصادم القوى الكبرى » (Dans la forge du monde: comment le choc des puissances façonne l’Europe).
يتمحور الكتاب حول فكرة جوهرية مفادها أن أوروبا اليوم لا تصنع التاريخ، وأنها بعد أن صنعت العالم في الماضي، منذ القرن السادس عشر، هي اليوم صنيعة هذا العالم. يقول "هاروش" إن "أوروبا شكلت العالم وهي تجوبه طولًا وعرضًا، وهي تستغله وتستعمره، لكنها في هذه الأثناء قامت كذلك بربط هذا العالم بذاته وتأليبه ضدها". واليوم صار مستقبل القارة العجوز مرهونًا بما سيؤول إليه الصراع الصيني الأميركي، لا بما يستشرفه الأوروبيون أنفسُهم.
إن الإنسان الأوروبي اليوم، بحسب "هاروش" إنسان لم يعد همّه هو البحث عن مكانة له، وعن دور يمكن أن يقوم به في العالم، بل صار همّه البحث عن ذاته في محيط لم يعد تحت سيطرته. ومما يزيد شعوره بتفاقم الأوضاع، اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية على حدوده الجغرافية، وعجز أوروبا عن التعامل مع هذه الحرب بحزم ووضوح وثقة في النفس، بعيدًا عن إملاءات الولايات المتحدة الأميركية، أو الانقسامات الداخلية، وتحديات القطب الصيني والروسي.
يقول "هاروش" إن التغير الحاصل اليوم ليس تغيرًا سياسيًا فقط؛ بل إنه تغير يقتضي وعيًا تاريخيًا جديدًا. ويحيل في هذا السياق على دعوة المؤرخ "دافيد موتاديل" (David Motadel) لتشبيك تاريخ أوروبا بتاريخ العالم قصد بلوغ تمثُّل صحيح وواقعي لمكانة الاتحاد الأوروبي في العالم، وقصد تخليص النفسية الأوروبية مما علق بها من أوهام العظمة جراء حقب طويلة من التمركز حول الذات.
هذه الأبحاث والدراسات المذكورة في سياقنا هنا تجلي لنا الحاجة إلى النظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، فضلًا عن الزاوية السياسية.
المفروض في الانتخابات الأوروبية أن تمثل فرصة للخوض في التوجهات الفكرية الكبرى التي تحدد علاقة الأوروبيين بذواتهم وبالعالم. غير أن الواقع اليوم أصبح لا يسمح بذلك، لأننا، ومنذ ما يزيد عن عشرين سنة، دخلنا مرحلة جديدة من مراحل التدبير السياسي، وهي المرحلة التي يطلق عليها «جوليان لو موف » (Julien Le Mauff) مرحلة "إمبراطورية الطوارئ، أو نهاية السياسة" (L’Empire de l’urgence, ou la fin de la politique). يحاول "لو موف" في هذا الكتاب الوقوف عند المفاهيم الأصلية التي يقوم عليها التدبير السياسي الذي يعتمد على الطوارئ، مثل الأحداث الإرهابية والأوبئة، لتعطيل القوانين وشلّ مظاهر الحياة داخل المجتمع.
من يصغِ إلى ممثلي التكتلات السياسية الكبرى داخل البرلمان الأوروبي وهم يدافعون عن مواقفهم وآرائهم السياسية، يدركْ كيف تحوّلت الحرب الروسية الأوكرانية إلى طارئ يعتمد لتدبير اللحظة السياسية. فتحت ذريعة التصدي لخطر الحرب التي على الأبواب، تُمَرر أسوأ الأفكار وتعتمد أقبح القرارات وتستباح المحظورات.
لقد استوقفني شخصيًا رد مستشارة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" على سؤال بخصوص احتمال تحالف التكتل السياسي الذي تمثله، مع أحزاب اليمين المتطرف. فعوض التأكيد، كما في السابق، على وجود خطوط حمراء تجعل التحالف مع أحزاب اليمين المتطرف مستحيلًا، اكتفت بأجوبة مبهمة لتترك الباب مواربًا، وتترك الأمر مفتوحًا على جميع الاحتمالات. وفي هذا دليل قوي على أن الانتخابات الأوروبية القادمة كفيلة بأن تعيد تشكيل المشهد السياسي الأوروبي، وأن تقطع مع مرحلة الاعتدال والانفتاح والوسطية.
تشهد الحملات الدعائية التي تسبق الانتخابات الأوروبيّة صراعًا محمومًا حول جملة من القضايا التي تعتبر جوهرية، كقضيّة إنهاء حقّ الفيتو كخطوة لتسهيل الإجماع الأوروبي حول أمور مصيريّة. فلا يخفى أن الدعوة إلى إلغاء هذا الحقّ تفصل فصلًا واضحًا بين دعاة التمسك بالسيادة، الذين يحرصون على استقلالية القرار وعدم الذوبان والتماهي المطلق مع قرارات الاتحاد، وبين دعاة تقوية أوروبا والذهاب بها باتجاه نظام فدرالي قد يصل إلى حدود اختيار رئيس واحد لأوروبا كاملة.
بين هذا وذاك يقف العقل الأوروبي المسكين حائرًا؛ وكيف لا يحار! تجلي لنا مجلة «علوم إنسانية» (Sciences Humaines) في عددها الصادر في شهر يوليو/تموز 2014 مظهرًا من مظاهر الحيرة التي تستبدّ بالإنسان الأوروبي منذ نعومة أظفاره، حيث تضمن ملف العدد صورة لطفل صغير لم يتجاوز السنتين، وهو يضع يده فوق شفتيه، علامة على التساؤل وصعوبة الاختيار، وإلى جانب الصورة يظهر عنوان الغلاف: "أُصْبِح وَلَدًا، أُصْبِح بِنتًا" (Devenir garçon, devenir fille).
مثلما يحار الطفل في السياق الأوروبي اليوم بين أن يصبح ذكرًا أو أنثى، ولدًا أو بنتًا، كذلك يحار أمام التكتلات السياسية المشاركة في الانتخابات الأوروبية أيها يختار.
نخلص من هذا إلى التأكيد على أن الانتخابات الأوروبية الجارية ليست شأنًا متعلقًا بالسياسة فحسب؛ بل هو شأن أعظم من أن يُترك للسياسيين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الانتخابات الأوروبیة الانتخابات الأوروبی ما بعد الحداثة فی هذا
إقرأ أيضاً:
لندن تبحث عن طريق للعودة إلى الاتحاد الأوروبي
تبدو الجدارة في الإدراك بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان فكرة سيئة غير كافية، ما لم تُصاحبها رؤية واضحة للخطوة التالية.
ففرص إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الفوضى التي خلّفها «البريكست» تتبدّد اليوم بفعل من يروّجون لأوهامٍ زائفة؛ سواء بالقول إن الخروج يمكن أن يُجدي نفعًا، أو بالحديث عن إمكانية التراجع عنه بسهولة.
أمّا بالنسبة لستة عشر ألف شركة تخلّت عن التجارة مع أوروبا بسبب التعقيدات الورقية، فالمستقبل يظل قاتمًا، ما لم تتوقف الحكومة عن وضع «الضمادات» المؤقتة وتبدأ عملية «جراحية» جادة لإعادة بناء العلاقة مع أوروبا.
وليس غريبًا أن يشعر المؤيدون لأوروبا بأن الرياح تسير في صالحهم. فحزب العمال تأخر كثيرًا في إعلان ما يريده من «إعادة الضبط» في العلاقات مع الاتحاد، وتأخر أكثر في الاعتراف بالتنازلات الضرورية لأي اتفاق. حتى الصيف الماضي، كان الوزراء يكررون وعود «جعل البريكست مجديًا» ويعيدون ترديد «الخطوط الحمراء».
لكن خلال الأسابيع الأخيرة، خلصت دراسة كبرى إلى أن الخروج كلّف بريطانيا ما بين 6 و8 في المائة من الناتج المحلي للفرد؛ وأصبح وزير الخزانة يصف آثار البريكست بأنها «قاسية وطويلة الأمد»؛ كما أدان رئيس الوزراء «الوعود الجامحة» التي أطلقها دعاة الخروج. ومع هذا التحوّل، ربما تكون نافذة ضيقة قد فُتحت لتغيير المسار.
لكن التاريخ يذكّرنا بأن إعلان رغبتنا تجاه أوروبا لا يعني حدوثها. فبريطانيا كثيرًا ما كانت عدوّة نفسها؛ تتصرف كما لو أن التحدي يكمن في تحديد ما تريده، ثم يأتي الجزء السهل، وهو أن يوافق الأوروبيون عليه. بالنسبة للدول السبع والعشرين الأخرى، فإن ثقة بريطانيا المفرطة، لدى داعمي البريكست وخصومه على السواء، بشأن من يضع الأجندة تبدو أمرًا محيرًا.
وعلى المؤيدين لأوروبا الآن أن يرفضوا خطاب «العودة إلى الاتحاد»؛ لا لأن البريكست كان فكرة جيدة، بل لأنه خيار غير ممكن في الظرف الراهن. فالطلب من الاتحاد الأوروبي، بعد كل ما عاشه من اضطراب منذ استفتاء 2016، أن يتحمّل تبعات استفتاء جديد يشبه مطالبة الجار بأن يثق بأن سياستك القادمة لن تنتهي بمطالبة شركة التأمين تجاهل الخسائر السابقة.
وحتى لو وافق الاتحاد على بدء مسار العودة، فإن تحديد الشروط سيستغرق سنوات، وسيوضع أي تحسين للعلاقة التجارية على الرف. أما الشركات التي تبحث عن متنفس، فإن السعي للعودة الآن يعني عقدًا جديدًا من الوثائق المتراكمة بلا ضمان للحصول على اتفاق أفضل. أمّا أولئك الذين يرددون أننا نستطيع «فقط» العودة إلى الاتحاد الجمركي أو السوق الموحّدة، فهم لا يقرأون مزاج الجيران كما يجب. صحيح أن هذين الخيارين يقلّلان العقبات التنظيمية التي أدت إلى تراجع صادرات السلع البريطانية إلى أوروبا بمقدار الخُمس، إلا أن للاتحاد الجمركي أثمانًا معروفة، أبرزها التخلي عن حرية عقد اتفاقيات تجارية مستقلة، إضافة إلى شروط جديدة محتملة يفرضها الاتحاد تتعلق بالعملة وحركة الأشخاص. والعودة إلى السوق الموحّدة تعني مواجهة دعاة تقييد حرية التنقل، كما أن الفجوة التنظيمية بين بريطانيا والاتحاد، بعد سنوات من الانفصال، تجعل الطريق أعقد مما يتصوره البعض.
ومع ذلك، فليس هذا مسوغًا للخضوع لتوقعات متدنية؛ فالاتفاقيات التجارية المستقلة التي تفاخر بها الحكومة لا ترتقي إلى أثر الخروج من السوق الموحّدة؛ فالاتفاق الأخير مع الهند لن يضيف أكثر من 0.13 في المائة سنويًا إلى الناتج المحلي. والاتحاد الأوروبي قد يكون أكثر مرونة مما يُقال؛ فسويسرا ليست جزءًا من اتحاد جمركي، ومع ذلك تواجه عوائق أقل بكثير.
لكن كل خيار له كلفته، وعلى بريطانيا أن تشرح بوضوح لماذا تستحق تلك الكلفة. أما أن يصبح الاتحاد الجمركي هدفًا فقط لأنه أقل الخيارات إيلامًا سياسيًا، فذلك خطأ استراتيجي.
والاتحاد الأوروبي نفسه ليس بمنأى عن تقديم «الألاعيب» على «المكاسب». فقد تعثرت مفاوضات مشاركة بريطانيا في «صندوق أمن أوروبا» البالغ 150 مليار يورو، بعدما طالبته المفوضية برسوم باهظة لإثبات أن البريكست لا يجلب فوائد.
كما تظهر نبرة الضغط نفسها في الشروط المقترحة لاتفاقي الغذاء والحيوانات (اتفاق الصحة والصحة النباتية) ونظام تجارة الانبعاثات. وأي مطالب متسرعة تبدو وكأن بريطانيا ترى نفسها «مستحقة» لمعاملة تفضيلية ستُقابل بالرفض سريعًا.
أولًا: قياس الأثر
إذن، كيف يمكن لحزب العمال أن يحل هذه المعضلة؟ البداية تكون بتكليف الحكومة فريقًا مستقلًا من الخبراء لإعداد تقييم شامل لتأثير البريكست، على غرار «المراجعة الاستراتيجية للدفاع». فالحكومات السابقة تمسكت بوهم إمكان نجاح الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما ظلّت الحكومة الحالية مترددة في الاعتراف بأنه لم ينجح.
وخلال إعلان الميزانية، رفض «مكتب مسؤولية الميزانية»، وهو هيئة حكومية بريطانية مستقلة مختصة بالتوقعات المالية، رفض تقديم بيانات إضافية حول الآثار الاقتصادية للبريكست، ما يعني أننا ما زلنا، بشكل يثير الدهشة، بلا أرقام موثوقة حول أكثر العوامل تأثيرًا على النمو الاقتصادي.
وسيؤدي إعداد تحليل شامل إلى إنهاء الجدل القائم وإسكات من يواصلون الترويج لفوائد البريكست. كما سيقدّم هذا التحليل قاعدة بيانات يمكن الاستناد إليها عند تقييم الخيارات المستقبلية كافة، بدءًا من الاتفاق القائم، وصولًا إلى الاتفاقات القطاعية المتعلقة بالوصول إلى الأسواق، بل وحتى دراسة خيارَي الانضمام إلى الاتحاد الجمركي أو السوق الأوروبية الموحدة.
ثانيًا: طرح كل شيء على الطاولة
على الحكومة أن تدخل مفاوضات العام المقبل مع أوروبا وهي واضحة الهدف، وهو صياغة اتفاق يقوم على مبدأ «المزيد مقابل المزيد»، مع استعداد لبحث كل الملفات، ليس فقط لتحسين التجارة، بل لأن طبيعة العالم اليوم، في ظل تأثير دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وشي جين بينغ، تفرض تعاونًا أعمق بين بريطانيا وأوروبا. فاضطراب المشهد الجيوسياسي وصعود اليمين الشعبوي يفرضان إدراج كل القضايا الأساسية على طاولة التفاوض، ما دام المقابل يستحق.
وبدلًا من التركيز على وضع سقوف لأعداد الشباب المشاركين في برامج التنقل، ينبغي إعطاء الأولوية لنظام يعتمد على غرض الزيارة وآليات التحكم في حركة الأشخاص عبر الحدود. ولا ينبغي أن تكون المساهمات المالية في موازنة الاتحاد الأوروبي «أمرًا حساسًا يُتجنَّب الخوض فيه»، إذا كانت ستعود بفائدة صافية على بريطانيا.
أما مواءمة القواعد التنظيمية، فهي ما تفضله الشركات البريطانية المنخرطة في سلاسل التوريد العالمية. في هذه المرحلة، لا مكان لما يسمى «الخطوط الحمراء»؛ فاستراتيجية الأمن القومي الأمريكية في عهد ترامب، وحديثه المتكرر عن الانسحاب من حلف «الناتو»، يجب أن يُنذرا بضرورة التحرك لا التصلب.
ثالثًا: الثقة بالبرلمان
يجب إشراك البرلمان في الحوار. فمستقبل العلاقة مع أوروبا لم يُناقش رسميًا حتى الآن في عهد هذه الحكومة، فضلًا عن مناقشة احتمال تعديل الاتفاق القائم. ويستغل مؤيدو البريكست، وكذلك دعاة «العودة السريعة» إلى الاتحاد الأوروبي، هذا الغياب للرقابة لترويج تصورات غير واقعية.
وعلى الحكومة ألا تتردد في مواجهة الطرفين، باستخدام البيانات التي سيقدمها التقييم المرتقب لتوضيح آثار البريكست، وما الذي قد يقدمه أي اتفاق جديد. وعلى حزب العمال أن يواجه من يعيقون خيار المقايضات الضرورية لإنقاذ الشركات البريطانية، وأن يتعهد منذ الآن بأن يتضمن برنامجه الانتخابي تفويضًا واضحًا لإعادة صياغة العلاقة مع أوروبا.
اليوم، يرى ما يقرب من ثلثي البريطانيين أن البريكست كان فشلًا أكثر منه نجاحًا. لكن الدافع الأكبر لإعادة بناء العلاقة مع أوروبا ليس استطلاعات الرأي، بل حقيقة أن التمسك بالخطط الحالية تصرف غير مسؤول. فالحكومة ورثت أزمة نمو خانقة تفرض ضغطًا قاسيًا على الخدمات العامة وعلى حياة المواطنين. وبينما يقدّم آخرون حلولاً سهلة بهدف الكسب الانتخابي، تبقى الحقيقة أن الحلول الصائبة بشأن أوروبا ليست بسيطة ولا سريعة، لكنها موجودة. وما زال أمام حزب العمال متّسع من الوقت لتبنيها.