من عالم العقارات إلى الدبلوماسية الفظة.. كيف انعكست النزعة الفوقية في هفوات خطاب توم براك؟
تاريخ النشر: 12th, December 2025 GMT
أكثر اللحظات دلالة على هذا الأسلوب جاءت خلال ظهوره على منبر القصر الجمهوري في بيروت، حين وصف سلوك الصحافيين بأنه "حيواني".
في الدبلوماسية، لا يقتصر الاهتمام على ما يقال، بل على الكيفية التي يقال بها. فطريقة التعبير، واختيار المفردات، تؤدي دورا أساسيا في كيفية تلقي التصريحات وتفسيرها، ولا سيما عندما تصدر عن مسؤول يتولى أدوارا حساسة.
في هذا السياق، يبرز خطاب توم براك، السفير الأميركي في تركيا، والمبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سوريا، بوصفه حالة إشكالية بحد ذاتها. فتصريحاته العلنية، التي تكررت على امتداد الأشهر الماضية، لم تعكس فقط أسلوبا مباشرا، بل كشفت سلسلة هفوات دبلوماسية متراكمة، أظهرت نبرة تفوق واضحة في مقاربته لقضايا سيادية وتاريخية شديدة الحساسية، خصوصا في لبنان.
من عالم الصفقات إلى لغة السياسةدخل براك الحياة العامة من بوابة عالم الأعمال، حيث تُدار العلاقات بمنطق الحسم، وتُقاس النتائج بلغة الربح والخسارة. هذا الانتقال إلى المجال السياسي لم يكن مصحوبا بتحول مماثل في الأدوات اللغوية أو في طريقة النظر إلى الدول والمجتمعات. في كثير من تصريحاته، بدت الأزمات السياسية أقرب إلى ملفات إدارية، والدول إلى كيانات قابلة لإعادة الترتيب، لا إلى مجتمعات لها تاريخ طويل من الصراعات والذاكرة والرمزية.
هذا المنطق انعكس في لغة مباشرة، غالبا ما تجاهلت التعقيدات المحلية، واختزلت المشهد السياسي في عناوين كبرى، من دون مراعاة ما تحمله بعض الكلمات من حساسية تاريخية أو سيادية.
في لبنان، اصطدم هذا الأسلوب بجدار الحساسية القصوى. حين قال براك إن "لبنان يواجه تهديدا وجوديا، وإذا لم يتحرك فقد يعود إلى بلاد الشام"، لم تُقرأ العبارة كتشخيص سياسي مجرد، بل كإعادة إحياء لمفاهيم تاريخية لطالما اعتُبرت تهديدا مباشرا لفكرة الكيان اللبناني واستقلاله. لاحقا، عاد ليذهب أبعد من ذلك، متحدثا في تصريح مستجد عن إمكانية ضم لبنان إلى سوريا، في مقاربة بدت وكأنها تتعامل مع الحدود والسيادة كعناصر قابلة لإعادة الصياغة.
هذا الخطاب، في بلد قام تاريخه الحديث على رفض الاندماج القسري داخل كيانات أوسع، أثار ردود فعل غاضبة، ليس فقط بسبب مضمونه، بل بسبب بساطته المفرطة في التعامل مع مسألة وجودية معقدة.
أكثر اللحظات دلالة على هذا الأسلوب جاءت خلال ظهوره على منبر القصر الجمهوري في بيروت، حين وصف سلوك الصحافيين بأنه "حيواني". لم تكن المسألة هنا مجرد اختيار كلمة غير موفقة، بل لحظة كشفت علاقة ملتبسة مع الإعلام والرأي العام. فبدلا من استخدام اللغة لاحتواء التوتر، تحولت الكلمة إلى عامل استفزاز مباشر، ورسخت صورة دبلوماسي يتحدث من موقع فوقي.
هذه الحادثة تحديدا أصبحت مرجعا دائما في أي نقاش حول خطاب براك، لأنها لخصت، في مشهد واحد، الفجوة بين الدور الدبلوماسي المفترض، واللغة التي اختار استخدامها.
اقتراح فجّضمن سلسلة تصريحاته المثيرة للجدل، برز كلام براك الداعي إلى أن "يرفع الرئيس اللبناني جوزاف عون السماعة ويتصل برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وننهي المهزلة" بوصفه واحدة من أكثر العبارات استفزازا في السياق اللبناني. هذا التصريح لم يطرح كاقتراح سياسي مدروس، بل جاء بصيغة مباشرة اختزلت علاقة معقدة ومشحونة بالحروب والذاكرة والدم باتصال هاتفي عابر.
في بلد لا تزال فيه العلاقة مع إسرائيل مرتبطة بالصراع والاحتلال والانقسام الداخلي، اعتُبر هذا الكلام تجاهلا كاملا للحساسية السياسية والوطنية المحيطة بالملف، وتجاوزا فجا لموقع الرئاسة اللبنانية ودورها. كما عكس مقاربة تتعامل مع النزاعات كعقبات إجرائية، لا كقضايا سيادية وإنسانية متشابكة، ما عمّق الانطباع بأن خطاب براك ينطلق من منطق الصفقات لا من فهم واقع المنطقة.
لم تقتصر هذه المقاربة على لبنان. فحين قال براك إن "لا يوجد شرق أوسط، بل قبائل وقرى"، قدم توصيفا عاما للمنطقة اختزل فيه بنيتها السياسية والاجتماعية. هذا الكلام، الصادر عن مبعوث مكلف بملفات سوريا ولبنان، أثار نقاشا واسعا حول دلالاته، ولا سيما لجهة ما يعكسه من نظرة تقلل من وزن الدولة الوطنية، وتعيد توصيف المجتمعات من خارج سياقها التاريخي والسياسي.
في منطقة عانت طويلا من تدخلات خارجية استندت إلى مثل هذه السرديات، جاءت هذه العبارة لتغذي شكوكا عميقة حول طبيعة النظرة الأميركية لبعض ملفات الشرق الأوسط.
خارج لبنان، واجه براك انتقادات واسعة بسبب تصريحاته ذات الطابع التاريخي. إشادته بما يعرف بـ"نظام الملل" في الدولة العثمانية، وتقديمه كنموذج ناجح لإدارة التعددية، أثارت اعتراضات رأت في هذا الطرح قراءة انتقائية لتجربة تاريخية معقدة، تجاهلت جوانب القمع والاختلال البنيوي.
كذلك، أثار جدلا حادا بسبب تبنيه لغة قريبة من الرواية التركية الرسمية في ما يتعلق بمجازر عام 1915، وهو ما اعتُبر تقليلا من شأن توصيفها كإبادة جماعية بحق الأرمن. هنا، لم يعد الخلاف سياسيا فقط، بل أخلاقيا وتاريخيا، يتعلق بكيفية مقاربة ذاكرة جماعية ما زالت حية.
ما يجمع بين هذه المواقف، على اختلاف ساحاتها، هو النبرة. خطاب براك اتسم بثبات لغوي لافت، قائم على المباشرة، والتبسيط، والتوصيف من أعلى. هذه النبرة لم تتغير بتغير الموضوع أو المكان، ما جعلها تبدو أقرب إلى قناعة راسخة منها إلى زلات منفصلة.
في الدبلوماسية، حيث تُقاس الكلمات بميزان حساس، تحولت هذه النبرة إلى عبء، وأصبحت التصريحات بحد ذاتها عائقا أمام أي دور وساطي محتمل.
في المحصلة، لا يمكن فصل خطاب توم براك عن المناخ السياسي الذي أتى به إلى الواجهة. فحدّة لغته، ومباشرته الصادمة، واستخفافه بحساسية الكلمات، تعكس أسلوبا قريبا من نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب، القائم على الصراحة الفظة وكسر الأعراف باسم الواقعية.
غير أن ما قد يحقق صدى في السياسة الداخلية أو في عالم الصفقات، يتحول في الدبلوماسية إلى عبء ثقيل، حيث للكلمات تبعات تتجاوز نوايا قائلها. وفي حالة براك، لم تكن المشكلة في غياب الرسائل، بل في طريقة إيصالها، إذ بدا الخطاب امتدادا لأسلوب سياسي يتعمد الصدمة، من دون أن يحسب كلفة اللغة حين تُستخدم في ساحات مشحونة بالتاريخ والسيادة والنزاعات المفتوحة.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثةالمصدر: euronews
كلمات دلالية: الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الحرب في أوكرانيا دونالد ترامب إسرائيل الصحة روسيا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الحرب في أوكرانيا دونالد ترامب إسرائيل الصحة روسيا سوريا تركيا الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب لبنان الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الحرب في أوكرانيا دونالد ترامب إسرائيل الصحة روسيا غزة دراسة حركة حماس البيت الأبيض إيران تايلاند
إقرأ أيضاً:
افتتاح المنتدى اللبناني لحوكمة الإنترنت... شحادة: لبنان سيبقى لاعبًا أساسيًا في الساحة الرقمية
افتتح وزير المهجّرين ووزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي الدكتور كمال شحادة، أعمال المنتدى اللبناني لحوكمة الإنترنت 2025، بمشاركة نخبة من الخبراء والفاعلين في مجال السياسات الرقمية، وممثّلين عن القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني والمجتمع التقني.
وأكد شحادة في كلمته الافتتاحية أنّ "لبنان كان، وسيبقى، لاعبًا أساسيًا في الساحة الرقمية الإقليمية والدولية"، مشيرًا إلى أنّ "المنتدى يشكّل منصة وطنية جامعة تتيح للبنان إيصال رؤيته الرقمية إلى المحافل العالمية، ولا سيما المنتدى العالمي لحوكمة الإنترنت (IGF)".
كما أشار إلى أنّ "منتدى لبنان لحوكمة الإنترنت أصبح خلال السنوات الماضية جزءًا فاعلًا من النقاشات الرقمية الدولية، عبر مشاركته في جلسات مشتركة مع دول متقدمة مثل سويسرا وكندا، وتعاونه المستمر مع منظمات إقليمية ودولية متخصّصة". وأوضح أنّ "هذه المشاركة لم تكن بروتوكولية، بل حوارًا حقيقيًا أثبت حضور الخبرات اللبنانية وقدرتها على التأثير وصياغة السياسات الرقمية الحديثة".
ونوه "بقرار الحكومة تكليف ثلاثة خبراء لبنانيين لدعم البعثة الدبلوماسية اللبنانية في الأمم المتحدة ولتمثيل لبنان رسميًا في مفاوضات WSIS+20 في نيويورك للمرة الأولى"، مؤكّدًا أن "مساهمات الفريق اللبناني، بالتعاون مع مصر والأردن، أثمرت اعتماد معظم المقترحات العربية في النسخة الأخيرة من الوثيقة الدولية".
وفي السياق، لفت إلى أنّ "انتشار الخبرات اللبنانية في مؤسسات عالمية مثل ICANN، وRIPE NCC، وISOC، والاتحاد الدولي للاتصالات، والأمم المتحدة، يشكّل دليلًا على أنّ لبنان ما يزال حاضرًا بقوة في منظومة الحوكمة الرقمية العالمية رغم التحديات الداخلية".
ولفت الى ان "الجهود التي تقودها الحكومة في مجالات التحول الرقمي، الذكاء الاصطناعي، وتعزيز البنية التحتية للإنترنت"، مؤكدًا أنّ "لبنان يمتلك كل المقومات للعودة إلى دوره الريادي انطلاقًا من طاقاته البشرية الفريدة وإرادته في النهوض".
وفي ختام كلمته، دعا المشاركين إلى "العمل على صياغة توصيات عملية تُرفع إلى المنظمات الدولية المعنية بحوكمة الإنترنت، بما يعكس رؤية لبنان لبناء مستقبل رقمي مستدام، آمن، ومنفتح للجميع".
وبعد الجلسة الافتتاحية، شارك الوزير شحادة في جلسة حوارية متخصصة حول الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا في لبنان، حيث ناقش التحديات والفرص والآليات الوطنية المطلوبة لتعزيز الابتكار الرقمي ودعم الاقتصاد المعرفي.
مواضيع ذات صلة المنتدى الرقمي الدولي الثالث للشباب في لبنان 2025.. عودة لبنان إلى الخريطة الرقمية العالمية Lebanon 24 المنتدى الرقمي الدولي الثالث للشباب في لبنان 2025.. عودة لبنان إلى الخريطة الرقمية العالمية