آخر تحديث: 25 يونيو 2024 - 10:24 صبقلم:رشيد الخيّون حشد التّيار الصّدريَّ، الممثل بمقتدى محمد محمد صادق الصّدر، ليكون (18 ذو الحجة) عيداً رسمياً بدأ مِن هذا العام (1445هـ)، تحت عنوان “عيد الغدير”، ومثلما هو معروف القرارات التي تؤخذ في البرلمان العراقيّ، تؤخذ وفقاً لمصلحة المحاصصة، فصوت الأعضاء الأكراد، ولم يعترضوا على اعتبار الغدير عطلة رسمية، للعراق كافة، مقابل اعتبار مناسبة الأنفال عطلة رسمية وهكذا، لا أحد يعنيه العراق، وهنا لا نبحث بصحة أو عدم صحة أن يكون تاريخ (18 من ذي الحّجة)، تتويجاً إلهياً للإمام والخليفة الرَّابع الرَّاشدي علي بن أبي طالب(اغتيل: 40هـ)، إنما نبحث في موقف فقهاء الشّيعة، في هذه الولاية، واعتبارها فقرة من فقرات الأذان أم لا؟ مِن المعلوم، ليس هناك خلاف بين المسلمين كافة على الوحدانية، ويعبر عنها في الأذان بـ”أشهد أنَّ لا إله إلا الله”، ولا اختلاف بينهم في الرسالة، ويعبر عنها بـ”أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله”، لكن الخلاف وقع على “الولاية”، والتي عُرفت بالشّهادة الثّالثة، ورفعها في الأذان بعبارة “أشهد أنَّ علياً ولي الله”.

لا يقرها السّنَّة على مختلف مذاهبهم، كذلك فرق شيعيَّة، مِن غير الإماميَّة الاثني عشريَّة، كالزَّيدية مثلاً، لا يقرون بها، كولاية سياسية، أو تتويجاً إلهيّاً، ويعتبرون علياً أحد أعاظم الصّحابة، ويقرون بولايته عندما تسلم الخلافة بما قُرُّ بالحل والعقد، لكن عدم اعتبار الشّهادة الثّالثة(إنَّ علياً ولي الله) في الأذان الإماميّ الاثني عشري، ناهيك عن الزّيدية وتفرعات التشيع الأُخر، يؤكد هناك اختلاف على الإمامة نفسها، لذا ففقهاء الاثني عشرية أنفسهم تجنبوا ما أدخله “الغلاة” على التشيع، وبثوه في الأذان، ومعلوم أنَّ الغلاة يعدون في الرسائل الفقهيّة الشّيعيّة الاثني عشريةكفاراً أنجاساً، شأنهم شأنه شأن “النَّواصب”، الذي ينصبون العداء بالقذف والسّب لعلي وبنيه. خلو الأذان مِن الولاية ألتفت فقهاء شيعة، مِن الذين كانوا يقرون بولاية الفقيه، ثم حادوا عنها، وتخلوا عن جعل الأئمة فوق البشر، وإنما أخذوا بمن سبقهم من القدماء واعتبروهم مجرد “علماء أبرار”، وليسوا مثلما يقدمون في الأدب الشّيعيّ اليوم بالمعصومين، وبنواب الله، ومنها ظهرت ولاية الفقيه أو نيابته. بينهم مَن تعرض إلى المحاكمة والاعتقال، لأن تشكيكهم هذا يؤدي إلى رفض ولاية الفقيه، المفروضة دستوريَّاً بالجمهورية الإسلاميَّة الإيرانيَّة، منهم الفقيه محسن كديور، وقد جاء في كتابه “القراءة المنسية إعادة قراءة نظرية: الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار”، اعتبر فيه أن الإمامة بما هو معروف اليوم مِن تراث الغلاة، وليس التشيع الأصيل. قال متسائلاً: “هل كان تلقي الشّيعة في العصور المختلفة لأصل الإمامة، وفهمهم له، هو ذات تلقي الشّيعة الإماميَّة اليوم لهذا الأصل، وفهمهم له؟ أم أنَّ المفهوم”الإمامة” قد تطوَّر عبر الزَّمن، وشهد تحوُّلاً وتبدلاً في العصور، التي تلت ظهوره لا سيما في القرون الخمسة الأولى”(كديور، القراءة المنسية). يُجيب الشيخ كديور بالتحول والتبدل، ولم يكن هذا في أصل التشيع. أقول: على هذا لم ترد الولاية في الأذان، إلا أن بعص الفقهاء جعلوها مستحبة مسايرة لمزاج العوام، الذي تأسس منذ العهد الصّفويّ. يقول أبو جعفر محمَّد بن عليّ القُميّ، المعروف، عند الشّيعة الإماميَّة، بالشيخ الصّدوق(تـ: 381هـ)، ويُعد مِن أقدم وأهم راوية حديث إماميّ: فقرات الأذان: “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أكبر، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الصَّلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله”(القُميّ، مَن لا يحضره الفقيه، منشورات الحوزة العلمية بقّم). ثم أردف موضحاً ومؤكداً: “هذا هو الأذان الصَّحيح، لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوضة(من فرق الغلاة) لعنهم الله قد وضعوا أخباراً، وزادوا في الأذان محمَّد وآل محمَّد خير البرية مرتين، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أنَّ محمداً رسول الله أشهد أنَّ علياً ولي الله مرتين، ومنهم من روى بدل ذلك أشهد أنَّ علياً أمير المؤمنين حقاً مرتين، ولا شك في أنَّ عليا ولي الله، وأنه أمير المؤمنين حقاً، وأنَّ محمداً وآله صلوات الله عليهم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذُكرت ذلك ليعرف بهذه لزيادة المتهمون بالتفويض، المدلسون أنفسهم في جملتنا”(المصدر نفسه). رفض ما دسه الغلاة رفض فقهاء الشِّيعة رأي الغلاة “المفوضيَّة”، أي القائلين بتفويض الأئمة مِن الله، في ما يختص به، فقالوا: “لا جبر ولا تفويض”(الشيخ المظفر، عقائد الإماميَّة).إذا كان التوحيد ورد قطعياً في القرآن والسُّنة، وكذلك الرّسالة أو النّبوة، لم يُختلف عليها، فأمر الإمامة اُختلف بها، ليس بين المسلمين، إنما بين فرق الشّيعة المتعددة، فالزّيديّة يرونها إمامة الفقه، والإسماعيليّة حولها منهم إلى أئمتهم المستورين، لا يطلبون بهم أمراً سياسياً اليوم، إنما عقيدة داخليَّة، تخصهم، ولا تخصهم سواهم. غير أنّ زيادة الشَّهادة الثَّالثة في الأذان التي أُضيفت رسميّاً في العهد الصَّفويّ(تيرنر، التَّشيّع والتَّحول في العصر الصَّفويّ)، كان العديد مِن الشِّيعة يرفعونها قبل هذا العهد بكثير، ولكنها لم تُحسب مِن عبادات المذهب رسمياً، إنما مِن فعل الغلاة المرفوضين مِن قبل فقهاء الشّيعة أنفسهم. مثال على ذلك: أنَّ القاضي التّنوخي (تـ: 384هـ) ينقُل التَّالي عن أبي فرج الأصفهاني (تـ: 356هـ)، قال: “سمعتُ رجلاً مِن القطعية، يؤذن: الله أكبر الله أكبر، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ علياً ولي الله”(التَّنوخي، نشوار المحاضرة). مع إضافة تكفير تقول: “محمَّد وعلي خير البشر، فمَن أبى فقد كفر، ومَن رضي فقد شكر…”(المصدر نفسه). هذا، والقطعيَّة ظهروا بعد وفاة موسى بن جعفر (183هـ) عندما انقسم الأتباع إلى فرقتين، واحدة وقفت عنده، أي اعتبرته المهدي ولم يمت، وسميت بالواقفة، أي وقفت عنده، وأخرى عُرفت بالقطعية، لأنها قطعت بوفاته وتولت إمامة نجله علي الرضا (تـ: 203هـ)، وعلى هذا أن امتدادها هو قسم مِن الشِّيعة الإمامية (انظر: النُّوبختي، فرق الشِّيعة، ومشكور، موسوعة الفِرق الإسلامية). نقول هذا لأنَّ الإمامية انشطرت بُعيد وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (260هـ)، وتفرعت إلى الإمامية الاثني عشرية، وإلى النَّصيرية المعروفة الآن بسورية، وجماعة تولت جعفر بن علي الهادي إماماً. كذلك يذكر ابن بطوطة (تـ: 779هـ)، مما أدخلخ الغلاة وتلقفه العوام في الأذان، أنه زار منطقة القطيف التابعة الآن إلى الإمارة الشرقيّة بالمملكة العربيّة السُّعوديّة، وهي مدينة شيعيّة قديماً، كان يُرفع فيها الأذان مع الشَّهادة الثَّالثة. قال: “يقول مؤذنهم في أذانه بعد الشَّهادتين: أشهد أنّ عليًّا وليّ الله، ويزيد بعد الحيعلتين حيّ على خير العمل، ويزيد بعد التَّكبير الأخير: محمّد وعليّ خيرُ البشر مَن خالفهما فقد كفر”(ابن بطوطة، الرحلة). كذلك كان الزائرون للضريح العلوي بالنجف مِن طالبي الشَّفاعة بالبراءة مِن مرض، يقولون: “لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليّ وليّ الله”(المصدر نفسه). اطلعنا على كتاب خاصّ بالأذان، وهو “الأذان بين الأصالة والتَّحريف”، وقد أهداه مؤلفه إلى أوّل مؤذن وهو بلال بن رباح الحبشيّ (تـ: 20هـ)، الذي لا يرفع في الأذان “الولاية لعليّ” ولا لغيره قائلاً: “إلى مَن لا يؤذن لأحدٍ بعد رسول الله إلا للزَّهراء والحسنين”(الشهرستانيّ، الأذان بين الأصالة والتَّحريف، قم). الكتاب فيه بحث واستقصاء، وكان موضوعه إجمالاً لتأكيد الهيعلة الثَّالثة “حيَّ على خير العمل”، التي تُعتبر أساساً في أذان الشِّيعة، ومنهم الزيديّة أيضاً، ولم يتعرض لرفع الشَّهادة الثَّالثة “علياً ولي الله”. من الطُّوسي إلى السِّيستاني لا يقر مراجع الشّيعة كافة، مِن الأولين والمتأخرين، في رسائلهم الفقهيَّة “الشّهادة الثّالثة”، فصيغة الأذان لدى مؤسس حوزة النَّجف الشّيعية(448هـ) الشَّيخ أبو جعفر محمَّد الطوسي (تـ: 460هـ) كالآتي:” التكبير أربع مرات، والشَّهادتان مرتين مرتين، وحيَّ على الصَّلاة مرتين، وحيَّ على الفلاح مرتين، وحيَّ على خير العمل مرتين، والله أكبر مرتين، ولا إله إلا الله مرتين”(الطُّوسي، كتاب الخلاف). كما أن فصول الأذان ثمانية عشر نفسها عند المرجع، الذي خلف أبي القاسم الخوئي(تـ: 1992)، آية الله أبو الأعلى السبزواريّ(تـ: 1993)، سائراً على مَن سبقه مِن فقهاء الإماميّة كافة، ليس بينها الشَّهادة بالولاية، وذكرها استحباباً، بمعنى ليست مِن فقرات الأذان(السبزواريّ، منهاج الصَّالحين). كذلك جاء الأذان عند المرجع الشِّيعي الإمامي الحالي آية الله السَّيد علي السِّيستاني، مع إشارته إلى أن الشهادة بالولاية «لم تكن جزءاً من الأذان ولا الإقامة، وكذا الصَّلاة على محمد وآل محمد عند ذكر اسمه الشَّريف»(السّيستاني، منهاج الصَّالحين). أما آية الله الخميني (تـ: 1989)- نذكره كونه مؤسس دولة إسلامية- فلا يذكر تفاصيل صيغة الأذان من الأساس، على اعتبار أنها ليس من موجبات الصَّلاة، قال: “لا إشكال في تأكد استحبابهما للصلوات الخمس”(الخميني، تحرير الوسيلة)، ويقصد الأذان كافة. يدل مما تقدم أنَّ علماء الشِّيعة لم يسايروا ما أدخله العهد الصَّفوي (1501-1732) على فقرات الأذان؛ التي أخذها مِن أفواه “الغلاة”، وهي الشَّهادة الثَّالثة، التي أعلنها إسماعيل الصَّفوي رسمياً عند دخوله تبريز، العام 907 هـ 1502 م (تيرنر، التَّشيع والتَّحول في العصر الصفوي)، فالذين أثبتوا الشّهادة الثّالثة في الأذان ممن تبنوا رأي الغلاة، مثل محمَّد باقر المجلسيّ(تـ: 1699)، أحد أبرز فقهاء الفترة الصّفويّة، واعتبر ما جاء به الشّيخ الصدوق هو مِن أجل التقيّة، لكن الشيخ المجلسيّ، غفل عن أن الشيخ الصّدوق القُمي عاش وكتب “مَن لا يحضره الفقيه” في ظل السلطنة البويهيَّة، وهي التي تبنت رأي الغلاة، في الطقوس وما يتعلق بالغدير، حالها حال الفاطميين، وثبتت المناسبات المذهبيّة أعياداً ببغداد، فإذا كانت التّقية مفروضة على الشّيخ الصّدوق فالأولى به مجاملة أو مسايرة البويهيين ببغداد وفارس، والمصريين بمصر، ويقر بالشّهادة الثالثة، مِما أدخله الغلاة على المذهب، لا يلغيها. لا يُعد ما ورد في «بحار الأنوار»(110 مجلد) للمجلسيّ، وهو أبرز فقهاء العهد الصفوي، مثلما تقدم، معتبراً لدى أساطين المرجعية الاثني عشرية في هذه المسألة،، وقد وردت روايته، ضمن قصة خيالية، عن الجزيرة الخضراء، وذلك عندما زار أحدهم قرية بغية الوصول إلى تلك الجزيرة، وأنه قدمَ مذهبه لهم بالشَّهادتين فقالوا له: “لم تنفعك هاتان الشَّهادتان … لِم لا تقول: الشَّهادة الأخرى(علياً ولي الله) لتدخل الجنَّة بغير حساب”، (المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار). ضرورة المراجعة لابد مِن العمل على نزع أداة من أدوات الخلاف الحادة؛ وعدم ترك الغلاة يتلاعبون بالشيعة نفسها قبل غيرها، ويعملون على تسميم العلاقات الاجتماعيَّة داخل الوطن الواحد، وما تثبيت “الغدير” عيداً إلا فتنة مذهبيّة، ادخلها غلاة الأمس وعابثو اليوم، مثلما عبر عنها أحد الباحثين، الذي كان على نهج حزب الدعوة في ما مضى، بشجاعة، وعاد إلى عراقيته بقوة.أقول: إنها ستكون فتنة أشد، ليست لجيلنا، فهو سيذهب بأمراضه وعقده، بل لأجيال شهدت طفولتهم الذبح على الهوية، فدعوهم يوصلون النِّداء إلى السَّماء بلا ضغائن وأحقاد، فالأمر مثلما رأيتم من صنع الرِّجال، وبدوافع يبرأ الدِّين منها. عموماً، يحتاج التشيع مراجعة، وتنقية مما أدخله الغلاة، وإذا كان الشّيعة الاثنا عشرية، قد تولوا السّلطة، ولهم الكلمة الفصل بإيران والعراق، فعليهم حماية الأوطان مِن التفتت، ويفرضون ما جاء في الروايات المختلف عليها، فالإمامة نفسها أمر مختلف عليه، وليس حالها حال الإلوهية والنبوة، المتفق تمام الاتفاق عليهما بين المسلمين كافة وداخل الشيعة، لا يجب أن يأخذهم الغرور، بتمثل دور المظلوميّة، وهم في السُّلطة وخارجها.

المصدر: شبكة اخبار العراق

كلمات دلالية: لا إله إلا الله على خیر العمل الله أکبر رسول الله فی الأذان ولی الله ة الاثنی الأذان م

إقرأ أيضاً:

ما أكبرك يا غزة

 

 

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

 

غزة ليست مجرد حروف تتراقص على شفاه الوجدان، بل هي نبض يخترق أغشية الزمن، وصرخة تثقب جدار الصمت. هي الحرف الذي يكتب نفسه بحبر العز، والكلمة التي تنطق بلسان المقادير. هي اللوحة التي رسمها الإله بأنامل من نار وإيمان، فجاءت ملحمة تعلو على زيف الألوان. هي الأنشودة التي تهز أعماق التاريخ، وتعيد للأمة إيقاعها السحري الضائع. هي الحلم الذي انتفض من تحت ركام اليقظة، فأصبح يقظة الأحلام.

غزة التي حولت التراب ذهباً، والجراح شهادات، والدم زيتاً لمصابيح الدرب. هي المدرسة التي تعلم أن الحجارة حين تلامس يد المؤمن، تتحول إلى نجوم تضيء درب الأحرار. إنها المعادلة الإلهية: قصة الدم الذي يخضب جبين الحرية، وقصة الروح التي ترفض أن تسكن في قفص الذل. هي الحكاية التي ترويها الشفاه بألسنة النيران، وتسطرها الأيدي بأقلام الرجاء.

وتاريخ عمان يشهد شهادة الحق على صدق الوعد؛ فكما رفضت عمان عبر العصور الغابرة، منذ دخولها في الإسلام، أن تنحني لغير الله وحكمه، ها هي غزة اليوم تكمل المسيرة. هي الحكمة المتوارثة كالعهد المقدس، كالنار التي لا تنطفئ في قلوب الأحرار. وما أعجب تلك التورية التي تجعل من "غزة" غاية الغايات ووسيلة الوسائل! وما أبدع جناس "غزة" و"غزاة"، فالأولى تعلو والآخرون يندثرون! إنه طباق الوجود والعدم، والحق والباطل، والعزة والذل.

لقد نسجت غزة من خيوط الألم سجفاً مطرزاً بأنوار الأمل، وحولت دموع الثكالى إلى ينابيع تروي شجرة الحرية. هي المعنى الذي يذكرنا بأن الوردة تنبت بين الأشواك، والعطر يستخرج من بين الشوك. إنها القصيدة التي كتبتها أيادي المقاومين بنغم متناسق؛ كل مقطع فيها يختتم بالحرية، وكل بيت فيها يتوج بالعزة. هي الملحمة التي تتناقلها الأجيال كنهر لا ينضب، وكشمس لا تغيب.

غزة التي كانت في عيون الأعداء رقماً تافهاً، أصبحت في سجل التاريخ رقماً لا يحصى. هي البذرة التي صارت شجرة باسقة، والقطرة التي تحولت إلى نهر جارف، والشمعة التي أضاءت قارة من الظلام. إنها مفارقة الزمن: ضعف يتحول إلى قوة، وصغر يصير عظمة، وموت يلد حياة. هي المصباح الذي لا تنطفئ أنواره، واللؤلؤة التي تزين جبين الدهر.

لقد صاغت غزة من ترابها مرايا تعكس وجه الحقيقة، ومن دموعها أنهاراً تروي عطش الحرية. هي المنارة التي تضيء في ليل المحن، والنجم الذي يهدي الحائرين. فيا أبناء العروبة والإسلام: إن غزة ليست نقطة على الخارطة، بل هي حالة في الوجدان، ومعنى في الضمير، وروح في الجسد. هي اللحظة الفاصلة التي تنتصر فيها الإرادة على المستحيل، ويعلو فيها الحق على الباطل.

إنها الحكاية التي لا تنتهي، واللوحة التي لا تكتمل، والقصيدة التي لا تقف عند بيت. هي البحر الهائج الذي لا يعرف السكون، والجبل الشامخ الذي لا يعرف الانحناء، والنور الساطع الذي لا يعرف الظلام. فليبق درب غزة مضيئاً بنور الإيمان، وليظل نداؤها مسموعاً في أفق الزمان، وليبق معناها خالداً في ضمير الأمة.

إن الأمة التي تتأمل غزة اليوم، لا ترى مجرد جغرافيا تتحرك على خرائط السياسة، بل ترى معنى يتجسد، وقِيَماً تتحرك، وروحاً تنتصر. إنها تلمس بيديها معجزة الإرادة التي لا تعرف الانكسار، وتشهد بناظريها انتصار الدم على السيف، والحق على الباطل، والإيمان على المادة.

لقد كتبت غزة بمداد من نور ودم، فصلاً جديداً من سفر المجد العربي الإسلامي، فكانت بحق وريثة بدر والقادسية وحطين وعين جالوت. أترى التاريخ يعيد نفسه؟ كلا، ولكنه يسير بدورة حكيمة، يظهر فيها الحق مرة ويختفي أخرى، لكنه لا يموت أبداً.

لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القلة المؤمنة قد تغلب الكافة الجاهلة؛ ففي غزوة بدر كان المسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر، والمشركون ألفا، فكان النصر حليف المؤمنين. وفي غزوة الأحزاب، حين أحاط الكفر بالمدينة من كل جانب، ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".

وهذه العبرة نفسها تتجلى في عمان الحبيبة، تلك الشموخ الذي ارتفع فوق صخور الجبال وسهول الواحات. لقد شهدت عمان في عهد الإمامة معاني الوحدة والصمود، عندما توحد العمانيون تحت قيادة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، فطردوا البرتغاليين من سواحلهم، وأقاموا دولة العدل والإيمان.

وما أجمله من مشهد ذلك الإمام العماني أحمد بن سعيد، وهو يقف أمام التحديات كالجبل الأشم؛ يوحد الصف، ويبني الدولة، ويحمي الثغور، ويقيم العدل بين الرعية. لقد جعل من عمان مثالاً يُقتدى في الحكمة والحكامة.

إننا اليوم أمام محطة تاريخية، كمحطة صلح الحديبية، التي بدت في ظاهرها هزيمة، لكنها في حقيقتها كانت فتحاً مبيناً. فغزة علمتنا أن النصر ليس بالعدد والعدة فقط، بل بالقلوب المؤمنة، والنفوس الزكية، والعزائم الصادقة. فغزة بإرادتها الصلبة، وعزيمتها الفولاذية، جعلت من المستحيل ممكناً، ومن الخيال حقيقة.

لقد آن للأمة أن تستيقظ من سباتها، وتنفض غبار اليأس عنها، وتعود إلى ديدنها الذي عرفت به في عصور مجدها. آن لها أن تتعلم من غزة كيف تكون الكرامة، ومن عمان كيف تكون الحكمة، ومن تاريخها كيف تكون العزة.

فيا شباب الأمة: أنتم رجال الغد، وأمل المستقبل، وعماد النهضة. عليكم بالعلم النافع، والعمل الصالح، والهمة العالية. كونوا كالعمانيين في تمسكهم بهويتهم، وكأهل غزة في صمودهم وثباتهم.

إن الطريق طويل، لكنه ليس بمستحيل. والغاية عظيمة، لكنها ليست بعيدة. والأعداء أقوياء، لكنهم ليسوا بأقوى من فرعون وهامان، وقد أهلكهم الله بذنوبهم.

فلنعمل جميعاً، شباباً وشيوخاً، رجالاً ونساءً - على بناء الأمة القوية الراسخة، التي تأخذ من أسباب القوة ما تستطيع، ولا تفرط في حق من حقوقها.

إن غزة لم تنتصر لنفسها فقط، بل انتصرت للأمة كلها، فأقل ما نقدمه لها أن نكون عند مستوى المسؤولية، وأن نعمل على نهضة أوطاننا، وتحصين مجتمعاتنا، وبناء أجيالنا.

اللهم انصر غزة وأهلها، واجعل نصرهم نصراً للإسلام والمسلمين. واجعلنا من أنصار الحق، وأعوان المظلومين، وحماة المقدسات.

مقالات مشابهة

  • في زحمة الحياة
  • الاحتلال يغلق الحواجز المحيطة بمدينة رام الله
  • هل منع العطاء يعد من الابتلاء؟.. الأزهر يوضح
  • فضل صلاة الضحى
  • أميرُ الكويت يزورُ سلطنة عُمان غدًا
  • لقاء يجمع والي شرق دارفور وامرأة من عامة أهل الولاية!
  • قابس التونسية..غيوم سامة وإرث صناعي قاتل يدفع الولاية بأكملها إلى حافة الهاوية
  • رضى الله عنها
  • ما أكبرك يا غزة
  • تحت الضوء