دلالات المكان في مجموعة «الصوفي الناشب بين السماء والأرض»
تاريخ النشر: 22nd, July 2024 GMT
تُعدّ مجموعة «الصوفي الناشب بين السماء والأرض» للشاعر هلال الحجري الصادرة عن دار نثر من أحدث الإصدارات الشعرية التي صدرت مؤخرا في الساحة الشعرية العُمانية، وتُعد هذه المجموعة الثالثة للشاعر بعد مجموعتيه «هذا الليل لي» و«كطائر جبلي يرقب انهيار العالم» التي تعكس اشتغال الحجري برويةٍ وتأنٍ في اختيار المفردات الشعرية والتعبير عن فكرته باشتغال فني حديث.
لا يمكن الوقوف على تجربة هلال الحجري إلا بقراءةٍ متصلةٍ للمجموعات الشعرية الثلاث؛ إذ إنّها تقدّم للقارئ تجربة شمولية وحديثة في التعبير الدلالي، والتعاطي مع اللغة الشعرية، وهذا بالطبع نابع من ثقافة الشاعر الذي يعيد تشكيل الأشياء وفق رؤيته الشعرية.
هذا وإنّ الناظر لتجربة هلال الحجري الشعرية يجدها على الأقل ممتدة من تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم، وهي تجربة غنية أضافت للمشهد الشعري صوتا متفردا في الاشتغال الفني والأسلوب الخاص بكتابته الشعرية التي تعبّر عن شاعرية تمزج بين الثقافة المحلية والأخرى الخارجية.
تقوم مجموعة «الصوفي الناشب بين السماء والأرض» على 103 نصوص شعرية جاء مجملها قصيرا في بنائه، وهي سمة واضحة اعتمد من خلالها الشاعر على تكثيف الدلالات الشعرية في بناءٍ شعريٍ قصير، وهي سمة ربما لجأ إليها كثير من شعراء القصيدة الحديثة في عُمان وخارجها. نجد الحجري يمزج بين اللقطة الشعرية وتركيب الصورة مثلا، ونجده يعتمد على القفلة الشعرية أحيانا في إحداث عالم من الدهشة والخيال، كما نجد نصوصه ممتزجة بالواقع وما وراءه، إنها نصوص تمزج النثر باللغة الشعرية لتقدّم للقارئ لوحة شعرية بديعة.
نجده مثلا في نص «ضياع» يحيل على التأمل آخذا من اللقطة البصرية عنفوانها الجمالي، فيما يقدّم التشبيه دلالاته الجمالية بين صورتين تتحققان في النص لغاية واحدة:
في بُرهةٍ من العمر،
تشعرُ أنكَ
كزورقٍ مهملٍ مقلوبٍ على وجهه
يترجّى السماءَ
ليعود إلى المحيط!
وتظهر في نص «روح» الرومانسية الشفيفة التي يحاول من خلالها التعبير عن الذات في سكونها وحركتها عائدا إلى التشبيه مرة أخرى:
ليست روحي شفيفة فحسب
ولكنها
كرذاذٍ يسقط
هادئا على قبر نبي!
هكذا هي النصوص الشعرية القصيرة في المجموعة، نصوصُ تأملٍ وتخيّلٍ وتشكيلٍ فنّيٍ نراه في نصوص مثل: «أرض، والمجد للإبداع الحقيقي، وفلسفة، وحنين، وشغف، والجديد، وتشبيه، وقلبي، ووعظ، وممثلون، وأمنية في العام الهجري الجديد».
كذلك فإن الناظر إلى المجموعة الشعرية يجد فيها اشتغالا واضحا على قيمة المكان التي هي كما يبدو محطات من الحياة عاشها الشاعر فأراد استحضارها شعرا. نجد المكان يعبّر عن الواقع في مرجعيته ولكن التعبير الذي استخدمه الشاعر كان ذا رؤية شمولية للحياة. تأتي هذه النصوص مثل: «مسجد الشواذنة، وشقة الفلاحي، وجامع قابوس، والحمرية، وميناء مسقط، والجبل الأخضر، وجريدة الوطن، والمعهد الإسلامي، وقلعة نزوى، وجامع عبدالله بن إباض، وجبل شمس...» متداخلة مع المكان غير العُماني مثل: «نهر هافل، ونهر نيكار، وكيمبريدج، وساواس، ونهر الدانوب» مشكّلة مرجعية ينطلق منها الشاعر إلى بناء فكرة نصه، ومنطلقا من نقطة أولى ارتكز عليها الفكر الإنساني في التأسيس لثقافته وهُويته إلى الحياة الأخرى خارج عُمان القائمة على هوية مختلفة وثقافة مضادة.
لقد استطاع الحجري إيجاد مكانين ينطلق منهما في توليد الدلالة، مكانين مختلفين في السمات والخصائص، لكن اللغة الشعرية استطاعت توحيد التركيبة الفنية وإبراز جمالياتها.
يتحدث الحجري عن/ إلى المكان واصفا إياه أو متناولا ذكرى رسخت في الذاكرة أو مستعيدا ذاكرة قديمة لحظة الكتابة، فنجده مثلا في نص «جريدة الوطن» يزحم الدلالات ببعضها، جاعلا منها ذاكرة يحاول استعادتها كونها مرتبطة بصرح كبير له أبعاده التاريخية في الصحافة العُمانية، يقول: «عنفوان الحياة، التمردُ، مصارعة الحمقى، البكاءُ عند الفجر، العمل مقابل الاقتراض، الخروج من التيه بِرَهْنِ الأرواح....
كلُّ
هذه
الإمبراطورية
العظمى
من البراءة والضّياع، أين ذهبت؟!».
ويقول في نص «حوار بريء مع نهر هافل» وقد أوجد تصادما ذكيا بين مكانين وفكرتين:
لمَ لا تصبُّ الأنهارُ في الصحاري يا هافل؟
لمَ تروي عطشَ البحيراتِ والمحيطاتِ؟
أليست الصحراءُ منبعَ الرُّسُلِ ومصبَّ المؤمنين؟
ألا تودُّ أن أقتادكَ إلى صحراء الربع الخالي
حيث الشعراءُ العذريون
ينصبون خيامهم على ضفّتيكَ
ويتغنّون بحورياتِكَ الفاتنة حتى الموت؟!».
ولعلّ المطّلع إلى مجموعة الحجري الشعرية يجده قد نوّع في خطابه إلى المكان بين استخدام ضمائر المخاطب والغائب، وهو بلا شك مقصود من قبل الشاعر، كون التنويع في الضمائر يساعد على إبراز الدلالات بصورة أكثر قربا من القارئ ومن الواقع. ولعل نص «شقة الفلاحي» أحد النصوص التي جاءت باستخدام ضمائر الغائب مانحا إياها وصفا دقيقا يجمع بين الواقع وما وراء الواقع، مانحا إياها وصفا دقيقا أبعد من كونها مكانا محددا باتجاهات أربعة، إنها إشعاع ثقافي ملأه الأديب أحمد الفلاحي أدبا وثقافة ومزارا لكل الأدباء الذين يفدون عليه، يقول الحجري عن هذه الشقة:
لم تكن شقةً فحسب؛
كانت برزخا لم يعبُر بالشعراء إلى الفردوس المفقود،
فهل عبر بهم إلى الجحيم؟!
لستُ متأكدا، ولكنّ أبانا
كان مفرطا في التفاؤل.
حين كانت مغاراتُ الليلِ تلفظُ بنات آوى
إلى مطهره العظيم،
لم تجد متّسعا لبكائها؛
فقد حَجَزَ «أبو فلاح»
مقعدا لكل مثقف.
حتى العسس
كانوا يجلسون القرفصاءَ
يُقشرون السفرجلَ
ويمضغون قصصا مضجرة!
لقد ضمّت شقة الفلاحي مجموعة من الصور المتداخلة التي اعتمد التركيب على إطلاقها، فبنات آوى اللواتي تلفظهنّ مغارات الليل والعسس الذين يُقشرون السفرجل والشقة/ المكان البرزخ الذي لم يعبر بالشعراء إلى الفردوس المفقود كلها دلالات صنعت حدثا ورؤية متخيلة في إطار مكان واقعي.
لعل الحديث عن استخدام ضمائر الغائب يرد في غير موضع من المجموعة، ويقابلها استخدام ضمائر المخاطب، فقد أضاف الحجري مسحة من الجمال في خطابه إلى المكان موجها الحديث إليه، نجده في نص «قلعة نزوى» يقول مخاطبا القلعة الشامخة:
لن تكفي حزمةُ البرسيم
التي يهدّدُ بها الشيوخُ في إمالتكِ
فلطالما ركعتْ
جيوشُ الإمبراطوريات الغاشمة
تحت قدميك!
الآنَ
توضئي واعتدلي
وصلّي صلاة الغائبِ
على آخر الشهداء
لا تكترثي بالسّيّاح!
ويقول في خطابه لنهر الدانوب:
سلاما يا نهر الدانوب العظيم
منكَ
تعلّمتُ معنى العزة والصمود؛
جميعُ الإمبراطورياتِ
استحالتْ رغوةً
على ضفتيك:
الأتراكُ
والروسُ
والألمانُ
كلُّهم!
ولَّوا باستبدادهم وأيدولوجياتهم الفارغة،
لم تبق إلا الحياةُ
تتلاطمُ على ضفافكَ الشامخة.
إن صورة المكان بارزة في المجموعة، يلمحها القارئ أيضا في عتبة المجموعة الشعرية، فالصوفي الناشب بين السماء والأرض يشير إلى المكانة البينية لحظة عروجه من الأرض إلى السماء، لكن لفظة «الناشب» أعطته تعبيرا مكانيا مرتبطا بالروح لحظة العروج. إنه اشتغال قيم وبديع قرّب معه الشاعر المكان وعمل على استحضاره في قالب شعري بديع.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلى المکان
إقرأ أيضاً:
الظروف مهيأة لبلاد الحرمين في المكان والزمان معا!
ها قد أظلنا شهر ذي الحجة، وقد طيّب بعبيره ورياحينه كل بلاد العالم الإسلامي من إندونيسيا والمحيط الهادي شرقا إلى طنجة والأطلنطي غربا، وتوحدت معه قلوب ملياري نسمة يعيشون في قارات العالم أجمع، قد استنفرهم الحدث الجلل، وحرّك مشاعرهم ناحية المشاعر المقدسة في بلاد الحرمين الشريفين في أرض الحجاز. والسعودية وحدها دون سواها هي من تملك الخصوصية؛ لاحتضانها أشرف البقاع التي يشد إليها الرحال، وخدمتها للحرمين وزواره من ضيوف الرحمن، ويا لها من خصوصية، ويا له من شرف!
ولقد تزاحمت علينا -نحن المسلمين- الهموم دون سوانا من الناس، حتى بِتنا في شر حال لا نُحسد عليه، وأصبحت بلادنا فئرانَ تجارب لكل أشكال الإنتاج؛ بدءا بالأدوية والأمصال وانتهاء بكافة الصناعات العسكرية، وآخرها كانت الحرب التي وقعت بين باكستان والهند مؤخرا، ودخول الصين في مضمار السباق، والخسارة التي تلقتها مافيا تصنيع السلاح في أوروبا وأمريكا؛ للنجاح الذي حققته منظومات الدفاع الجوية الباكستانية ضد منظوماتها القتالية، والحقيقة ان ذلك النجاح إنما يحسب لصاحب التصنيع (بكين) الحليف الاستراتيجي لإسلام أباد!
رغم تقارب المسافات بين شعوب الأرض بفعل الشبكة العنكبوتية إلا أنها قد تباعدت بين حكومات دولنا الإسلامية! والتي امتلأ جدول أعمال لقاءاتها بكمّ الأزمات التي لا ترى حلا شافيا وافيا بسبب الغياب المباشر للإرادة السياسية
ورغم تقارب المسافات بين شعوب الأرض بفعل الشبكة العنكبوتية إلا أنها قد تباعدت بين حكومات دولنا الإسلامية! والتي امتلأ جدول أعمال لقاءاتها بكمّ الأزمات التي لا ترى حلا شافيا وافيا بسبب الغياب المباشر للإرادة السياسية، وفي ظل انحراف بوصلة العلاقات البينية بين عدد من الدول وبعض الجهات الخارجية المؤثرة في التقارب الواجب بين الأشقاء!
الدور المنوط بالمملكة القيام به استغلالا لموسم الحج!
في ظل الإدارة الحالية للمملكة والتي أثبتت استقلاليتها في عدد من القرارات المهمة، وأكدت على عدم التبعية المهينة لبعض القوى الغربية، وإيمانها بحقها في ظل الإمكانيات المتاحة لديها في أن تحترم المصالح المشتركة، ولسان حالهم: لسنا هنا لتلقي التعليمات أو لخدمة الإدارات المتعاقبة لبلادكم، ولقد أثبتت إدارة المملكة ليبراليتها ورؤيتها النفعية المتجردة لمصلحة البلاد في إدارتها لعدد من الملفات المهمة مثل التقارب السعودي الإيراني، والتطبيع الفوري مع الثورة السورية، وإزالة العقبات أمام التحالف الاستراتيجي المهم مع الدولة التركية.. إلخ؛ من أجل ذلك لزم على المملكة أن تخطو خطوات لن يستطيع غيرها أن يخطوها خاصة لما حباها الله به من سدانة الحرم وخدمة الحجيج واجتماع المسلمين سنويا بكل تلك الأعداد من أجل الحج والعمرة، والخطوات كالتالي:
1- ليكن الشعار الثابت في مواجهة الحجيج على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم وجنسياتهم وأعراقهم بل ومذاهبهم الدينية وإن شطّ بعضها، هو قول الله تعالى: "إنَّ هَذِه أُمّتَكُم أُمَّة وَاحِدَة وَأنَا رَبُكم فَأعْبُدُون" (الأنبياء)، وبعيدا عن تسييس الشعيرة وإن كنا نعترض على هذه الكلمة التي أطلقتها الأبواق العلمانية لإرهابنا دون سوانا، وسكتت عن التصريحات الكنسية في مجالس الكنائس العالمية والمحلية، وفي حفلات التنصيب البابوية وغيرها، تلك التي لا تخوض إلا في السياسة رغم الطبيعة الروحية -المفترضة!- للكنيسة، مع أن الشعار الذي يحفظه العلمانيون -دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله- قد وُلِدَ في رحم النزاع بين السلطة والكنيسة، ولا علاقة للمسجد به، بعد التغول الذي قامت به الكنيسة في حياة الشعوب وتدخلها حتى في النظريات العلمية؛ ومعاقبتها لمخترع منظار "جاليليو" الذي أثبت كروية الأرض خلافا لما تؤمن به الكنيسة!
على المملكة أن تخطو خطوات لن يستطيع غيرها أن يخطوها خاصة لما حباها الله به من سدانة الحرم وخدمة الحجيج واجتماع المسلمين سنويا بكل تلك الأعداد من أجل الحج والعمرة
2- ليكن الحجّ مؤتمرا جامعا للمسلمين في حضرة الكعبة المُشرَفة وفي أروقة الشعائر الأخرى؛ بدءا بطواف الإفاضة، ثم السعي بين الصفا والمروة، مرورا بالركن الأعظم (عرفة) ثم المبيت بمُزْدلفة ورمي الجمرات. وثمّة إشارات مهمة ينبغي أن نراها في وقائع نقل الشعائر.
فخطبة عرفة يجب أن يعُاد النظر في محتواها، وعلى سبيل المثال: حاجة الشباب المسلم للحديث الواقعي عن مخاطر الإلحاد الذي يسري بين القواعد من أبناء المسلمين، والذي تسرب إلى نفوسهم المُحْبطة والناقمة على البؤس والتخلف، والمفتونة بما تراه من رفاهية الغرب، فقد صارت أعظم خطرا من أي مظهر من مظاهر الشرك التقليدية! أبناء المسلمين تتخطفهم الأحاديث الماكرة عن مسئولية الإسلام فيما يعانونه من بؤس وحروب ودمار! إنهم بحاجة إلى معرفة الإسلام الذي لا يمنع سعادتهم ورفاهيتهم ولم يأت لشقائهم وبؤسهم، "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" (الأعراف).
3- الحضور في مسجد نَمِرة: هو المسجد الوارف على جبل عرفة وفوق منبره يصعد الخطيب الذي تتناقل الكاميرات خطبته المشهودة، واني أقترح أن يُدعى كل وجهاء البعثات من العالم الإسلامي كله، من الساسة والكُتّاب والمفكرين والإعلاميين والدعاة بل والفنانين ممن أنعم الله عليهم بتصحيح المسار؛ لتتناقلهم الكاميرات وهم جلوس يستمعون الخطبة، وعلى المملكة أن تُنظِّم لبعضهم الكلمات على هامش أداء الشعائر، فذلك أدعى لإيصال الرسائل القوية التي تجعل من التخطيط المستقبلي لجمع شتات المسلمين ولجعل التعاون فيما بينهم اقتصاديا أو حتى عسكريا غير مستبعد ولا مستحيل، خصوصا بعد تلك المشاهد ذات الدلالات الواضحة والتي تؤكد للعالم كله على عالمية الحجّ للبشرية وليس للمسلمين وحدهم.