وَرِثَ عن البحر عُمْقَه وهُدُوءَه ورَحَابَتَهُ وثورتَه.. وهو ابنُ البحر.. ابنُ جورة عسقلان سيِّدة البحار.. وابنُ مخيَّم الشاطئ الذي احتضن مراكبَ اللاجئين، وحفظ أهازيجَ الموج في ساعات الأصيل، وهو يحملُ الصيادين يطاردون عين الشمس قبل انغماسها في جلال الزُّرقة، وهيبة الغَسَق.. وفي تنفُّس الصباح يرجعون، وفي الضُّحى يرقِّعون شباكهم في ظلال زنابق التلال.
وإسماعيل الطفل في أزقّة المخيم تداهم عيناه جحافلَ الغُرَباء يزرعون الموت، ويسمِّمون الهواء، ويطلقون النار على النوارس ويصفِّدون الشُّطآن..
وينفتحُ الوعيُ مبكراً على الحزن والألم والقهر.. ويلجأُ الفتى إلى بيتِ الله، حَيثُ تُوضَعُ الأثقالُ وتُمسَحُ الأحزان، وتُزالُ الهموم، وتتنزّلُ السكينة.. ويُعَدُّ الرجال..
وتنتفض غزّة.. لتصيرَ بحجم فلسطين، بل بحجم الأُمَّــة..
ويدركُ إسماعيلُ أنّ زواريبَ المخيم أوسعُ من هذي الأرض التي ضاقت على الفلسطيني، وأنّ ليلَ الوطن لنا نحن الفقراءَ حين نكونُ فدائيين..
وأنّ الشمسَ لنا، والقمر لنا، والبحر لنا، والقدس لنا، والزعتر والزيتون..
في غزّةَ ينمو الأطفالُ سريعاً، وكأنّ تحدِّي النكبة يلزمُهم بالرفع وليس الكسر..
والثورة تجري في دمهم، تدفعهم ليكونوا الأميزَ..
“لن نعترف بإسرائيل”.. صارت أغنيةً تعزفُها أوتارُ الأيدي المتوضئة بماءِ الحق، وكان لها استحقاق النور في أنفاق غزّة، إعداداً لليوم الموعود، وزاداً للسفر الصاعد للملكوت على أجنحة الياسين وعيّاش وعز الدين، والرّكب يطول، وتتسع الفكرة، ويأتي الدّورُ على القائد إسماعيل في الزمن الأقسى، عاصفة البحر التي ألفها كبحّار آتٍ من ماء الملح، كانت تعصف بفلسطين كُـلّ فلسطين، والقبطان لا ترهبه الريح، ولكن ما يشغله هو كيف يخلّص مركبه، حتى يوصله للشاطئ موفور الصيد..
وعلى كُره منه يغادرُ القائدُ مخيمَه في غزة، ويفارق معشوقه استجابة لتكليف الوقت الذي اقتضى ذلك الخروج، جمعاً للكلمة، ورأباً للصدع، وفتحاً للأبواب المغلقة، ورفعاً للحواجز والموانع، وتعزيزاً للعلاقات، وتأليفاً للقلوب، وتحصيناً للمقاومة، وسفيراً للمجاهدين، وصوتاً للمستضعفين.. فكان خروجه هجرة لله ورسوله، وللحق الذي تمثّله فلسطين، ومحطة رافعةً للفعل المقاوم، حَيثُ استطاع ترميم علاقات الحركة مع قوى جبهات المقاومة، وفتح لها آفاقاً أوسع.. وهو ما تجلّى في (طوفان الأقصى) ذاك الإنجاز الإعجاز الذي كان الشهيد السعيد من أبرز عناوينه وشواهده، رغم بُعْد الشقّة، ووعورة الطريق، وسهام التشكيك، والطعن، وليِّ اللسان، وسوء الظن..
وتمكّن الشهيد من إدارة تداعيات (طوفان الأقصى) وحرب الإبادة على شعبه الفلسطيني باقتدار وحنكة دلّت على البصيرة والصبر والكفاءة، وكان الشهيد القائد أحرص القادة على أمرين: الحفاظ على المقاومة المدافعة عن شعبها وحقوقه، والتوحّد على برنامج المقاومة الشاملة، وظلّ ثابتاً على هذا حتى أتاه اليقين في طهران ليكون مجمعاً للبحرين، ومحطّةً توحّد الأُمَّــة..
سلامٌ عليك أبا العبد.. شهيد الأُمَّــة..
وسلامٌ على الشهداء..
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون..
* كاتب فلسطينيّ
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
الذكرى السنوية الأولى لاغتيال قائد "حماس" إسماعيل هنية
غزة - صفا
تحلّ اليوم الذكرى الأولى لاغتيال القائد الفلسطيني البارز إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الذي استُشهد في 31 يوليو 2024، في عملية اغتيال إسرائيلية استهدفت مكان إقامته بالعاصمة الإيرانية طهران.
جاء اغتيال هنية ضمن سلسلة من محاولات تصفية قيادات الصف الأول في المقاومة الفلسطينية، وترك غيابه أثرًا عميقًا في المشهد السياسي والشعبي الفلسطيني، لما كان يمثله من رمزية وطنية ودور محوري في قيادة الحركة ومواجهة الاحتلال.
ولد إسماعيل عبد السلام أحمد هنية عام 1963 في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، ونشأ في بيئة فقيرة كباقي أبناء المخيمات الفلسطينية.
درس هنية المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وحصل على الثانوية العامة من معهد الأزهر، ثم التحق بالجامعة الإسلامية في غزة عام 1987 وتخرج فيها بدرجة البكالوريوس في الأدب العربي.
برز هنية خلال مرحلة الدراسة الجامعية عضوا نشطا في مجلس اتحاد الطلبة، إلى جانب اهتمامه بالأنشطة الرياضية، كما شغل عدة وظائف في الجامعة الإسلامية بغزة قبل أن يصبح عميدا لها عام 1992، كما تولى عام 1997 رئاسة مكتب الشيخ أحمد ياسين بعد إفراج "إسرائيل" عنه.
القائد هنية حصل على شهادة البكالوريوس في الأدب العربي من الجامعة الإسلامية بغزة عام 1987.
اعتُقل عدة مرات على يد الاحتلال، وأُبعد إلى مرج الزهور جنوب لبنان عام 1992 مع قرابة 400 من قادة وكوادر حماس والجهاد الإسلامي. وعقب عودته تولى مناصب قيادية في الحركة، وكان مديرًا لمكتب الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس.
برز اسمه على الساحة السياسية عام 2006 حين قاد قائمة "التغيير والإصلاح" التي فازت بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، ثم كُلّف بتشكيل الحكومة الفلسطينية العاشرة، ليصبح أول رئيس وزراء من حركة "حماس".
تعرض لمحاولات اغتيال ومضايقات، حيث جُرحت يده يوم 6 سبتمبر/أيلول 2003 إثر غارة إسرائيلية استهدفت بعض قياديي حماس من بينهم الشيخ أحمد ياسين، ومنع من دخول غزة بعد عودته من جولة دولية يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 2006.
كما تعرض موكبه لإطلاق نار في غزة يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2006 أثناء صدام مسلح بين حركتي فتح وحماس، واستهدفت "إسرائيل" منزله في غزة بالقصف في حروبها على غزة سعيا لاغتياله.
حرص هنية على فتح الباب أمام المصالحة الوطنية مع السلطة الفلسطينية، وأعلن قبوله التنازل عن رئاسة الحكومة المقالة في إطار مصالحة شاملة تكون حكومة وفاق وطني أبرز ثمارها.
أدرجت وزارة الخارجية الأميركية يوم 31 يناير/كانون الثاني 2018 اسم هنية على "قوائم الإرهاب"، وجاء هذا القرار في فترة توتر الأوضاع بين واشنطن والفلسطينيين بسبب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو القرار الذي أصدره الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب.
في عام 2017، انتُخب رئيسًا للمكتب السياسي للحركة خلفًا لخالد مشعل، وأعيد انتخابه لاحقًا في 2021 لدورة جديدة.
حتى استشهاده، ظلّ إسماعيل هنية من أبرز الشخصيات المؤثرة في القرار الفلسطيني، وشكّل حلقة توازن بين الداخل والخارج، وبين السياسي والعسكري، وظل على تواصل دائم مع مختلف القوى الفلسطينية والدولية، محاولًا كسر الحصار عن غزة والدفاع عن الثوابت الوطنية.
في فجر الأربعاء 31 يوليو/تموز 2024 أعلنت حركة "حماس" اغتيال إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران.
وقالت حماس في بيان إن رئيس الحركة "قضى إثر غارة صهيونية غادرة على مقر إقامته في طهران".
وفي بيان آخر، قال الحرس الثوري الإيراني "ندرس أبعاد حادثة استشهاد هنية في طهران" وسنعلن عن نتائج التحقيق لاحقا.
وذكرت وكالة الأنباء الإيرانية أن هنية استشهد وأحد حراسه الشخصيين إثر استهداف مقر إقامتهم في طهران.
وكان هنية في زيارة إلى طهران للمشاركة في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.