الصدع الزلزالي الإثيوبي.. هل يمكن أن يؤثر على سد النهضة؟
تاريخ النشر: 31st, October 2024 GMT
في السادس من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، شعر سكان العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بهزة أرضية، نتيجة زلزال ضرب جبل فنتالي الواقع في منطقة أواش، وكان بقوة 4.9 درجات على مقياس ريختر وعلى بعد 165 كيلومترا شمال شرق العاصمة، أثار ذلك مخاوف من احتمال تأثر سد النهضة بهزات مماثلة وما يمكن أن يلحقه ذلك من أضرار على السودان ومصر.
تقع إثيوبيا عند نقطة انفصال 3 صفائح تكتونية عن بعضها البعض، والصفائح التكتونية هي المكون الأساسي للغلاف الصخري للأرض، ولفهم الفكرة تخيل أن كوكب الأرض يشبه التفاحة. إذا كان الأمر كذلك، فإن قشرة التفاحة الرقيقة تمثل بالنسبة للأرض غلافها الصخري.
إلا إن هذا الغلاف في حالة الأرض منقسم إلى عدة شرائح متداخلة، مثل الأحجيات الورقية، هذه الشرائح (التي تسمى الصفائح التكتونية) تتحرك ببطء شديد بالنسبة لبعضها البعض، فقط عدة سنتيمترات كل عام.
ويقول بيير جوين مؤلف كتاب "تاريخ الزلازل في إثيوبيا والقرن الأفريقي"، إن الزلازل والنشاط البركاني يشكلان حقيقة من حقائق الحياة في شمال شرق أفريقيا، وهي حقيقة تنبع من الموقع الجغرافي لتلك المنطقة، إذ تحد إثيوبيا والقطاع الشمالي من القرن الأفريقي الحدود المحيطية الرئيسية بين صفيحتين تكتونيتين رئيسيتين وهي الصفيحة الأفريقية والصفيحة العربية، كما تقع على جانبي ما أطلق عليه مؤخرا الصدع الفاشل وهو الوادي المتصدع الإثيوبي الممتد جنوبا بواسطة خطوط الصدع في شرق أفريقيا.
وإلى جانب ذلك، تفيد السجلات التاريخية للمنطقة، أن إثيوبيا والقطاع الشمالي من القرن الأفريقي قد تعرضت لهزات أرضية مستمرة بسبب انفجارات النشاط البركاني، الذي يعود إلى تشقق "الانتفاخ النوبي" الذي أنشأ 3 صدوع زلزالية، وهي الصدع الإثيوبي وصدع البحر الأحمر وصدع خليج عدن.
والصدوع هي كسور أو شقوق في القشرة الأرضية تتكون نتيجة الضغط أو التمدد أو الإجهاد في الصخور، ويحدث أن تنزلق الصخور على طول الصدع، مما يؤدي إلى إزاحة الكتل الصخرية على جانبيه، وهو ما يحدث في حالات الزلازل.
وفي كتابه، يوضح جوين مساحة وخطوط الخرائط الزلزالية في المنطقة، بعد المسح التاريخي الذي تم إجراؤه لمواقع الزلازل ودراسة تكرارها وحجم مخاطرها، والحدود الطبيعية لهذه المنطقة هي:
من ناحية الشمال الشرقي: الحوض المركزي لجنوب البحر الأحمر. من اتجاه الغرب: حافة الهضبة الإثيوبية التي تتطابق تقريبا مع الحدود الدولية بين إثيوبيا والسودان (هذه الحدود الآن تقع في دولة جنوب السودان). من الجنوب: الحدود الجنوبية لبحيرة توركانا (رودولف سابقا). من الشمال الشرقي: الصدع المحوري لخليج عدن ــ ويتميز هذا القطاع من القارة بارتفاع شديد لقشرة الأرض التي يصل ارتفاع هضابها إلى 3300 متر مما يخلق تناقضا كبيرا مع السهول المنخفضة، كما يمتد هذا الصدع العظيم حوال 3 آلاف كيلومتر."بيير جوين" هو قس كندي عمل أستاذا للفيزياء في جامعة أديس أبابا، ومؤسس أول مرصد جيولوجي في العاصمة الإثيوبية (جامعة أديس أبابا) وظل مديرا له طيلة 30 عاما، ويعتبر "أبو الجيوفيزياء" في إثيوبيا.
ووضع بيير هذه الخريطة الزلزالية بعد دراسة استمرت 17 عاما تحتوي على حجم واحتمالات الزلازل في 650 موقعا في جميع أنحاء إثيوبيا، يشتمل على 32 بلدة وقرية و60 موقعا للسدود والخزانات القائمة والمخطط لها مستقبلا، وانطلقت الخريطة من حقيقة أن إثيوبيا تقع في أكبر خطوط الصدع العالمية وملتقى عدد من الصفائح التكتونيبة كما أسلفنا، ولأن كثيرا من المجتمعات تقع على حافة أو في المنحدرات الشديدة، التي يمكن أن تتأثر إذا حدثت الانهيارات الأرضية بفعل الزلازل.
يمر خط الصدع الإثيوبي الذي يعد جزءا من نظام خطوط الصدع في شرق أفريقيا عبر منتصف البلاد، مما يجعله أكثر المناطق نشاطا زلزاليا في العالم، ويقسم الوادي المتصدع الإثيوبي البلاد إلى نصفين ويمتد حوالي 1000 كيلومتر (621 ميلا)، ويبدأ في الشمال حيث تلتقي 3 صفائح تكتونية والتي تتوزع إلى البحر الأحمر وخليج عدن والوادي الإثيوبي المتصدع، وتحتوي الأجزاء الجنوبية منه على بحيرات قلوية، وفي أوقات سابقة تم تسجيل زلازل كبيرة ومدمرة في هذه المنطقة ومن بينها زلزال "لانغانو" في 1906 بقوة مقدراها 6.8 درجات على مقياس ريختر وآخر في "كارا كوري".
يقول البروفيسور "أتالاي أيلي" الباحث في علوم الجيوفيزياء والفضاء، عن المناطق الأكثر عرضة للزلازل في إثيوبيا التي يمر بها صدع شرق أفريقيا، حيث تشمل هذه المناطق منطقة عفار في شمال شرق البلاد، ومنطقة إقليم التقراي شمال البلاد أيضا، وجبل "أنطوطو" الذي يقع في الضاحية الشمالية للعاصة أديس أبابا، كما تشمل مدن مثل "أداما " التي تبعد حوالي 50 كيلومتر عن العاصمة، إضافة إلى مدينة دري داوة في شرق البلاد، وتحدث عن العاصمة أديس أبابا باعتبارها جزءا من الوادي المتصدع لشرق أفريقيا.
وشهد الصدع الزلزالي الإثيوبي عددا كبيرا من الهزات التي ضربت إثيوبيا على طول خط الصدع الذي يمتد من الشمال والشمال الشرقي إلى أقصى جنوبها على الحدود الكينية.
في عام 1906 وقع زلزال كبير بلغ 6.5 درجات على مقياس ريختر، وعلى عمق 15 كيلومترا، ضرب منطقة "جنير" الواقعة في إقليم الأرومو، جنوب شرق البلاد في 1919 ضرب زلزال آخر منطقة "جنكا" الواقعة في إقليم شعوب جنوب إثيوبيا، وهي عاصمة منطقة "أومو" في الجنوب الإثيوبي، وكانت شدته 6.5 درجات على مقياس ريختر وعلى عمق 15 كيلومترا، وضربت نفس المنطقة هزة أخرى في نفس العام بدرجة 6.4 درجات، وعلى عمق 15 كيلومترا.
كما ضرب زلزال آخر منطقة تورجي الواقعة في إقليم شعوب الجنوب الإثيوبي، بدرجة 6.3 درجات بعمق 10 كيلومترات. في 1938 ضرب زلزال منطقة "جواني" بدرجة 6.4 درجات على مقياس ريختر وعلى عمق 15 كيلومترا، وتقع المنطقة في منطقة العفار شمال إثيوبيا. في 1969 ضرب زلزال منطقة "دوبتي" الواقعة في منطقة العفار شمال إثيوبيا، بقوة 6.2 درجات على مقياس ريختر في 1991 ضرب زلزال آخر منطقة "عرتا" بقوة 6.2 درجات، وعلى عمق 10 كيلومترات.
وتعد أشهر الهزات الزلزالية هي ما عرف في إثيوبيا بالأزمة الزلزالية والتي حدثت في 1961 حيث بدأت هزات زلزالية طويلة استمرت ما يزيد على 4 أشهر حيث بدأت في مايو/أيار وانتهت في سبتمبر/أيلول من العام ذاته.
وقد وقعت أكثر من 3500 هزة أرضية خلال هذه الفترة، سببت هزتان رئيسيتان منها أضرارا جسيمة، خاصة ما عرف بزلزال "كارا كوري وما جيتي"، شمال شرق إثيوبيا، في منطقة سيمين التي تقع على ارتفاع 1996 مترا فوق سطح البحر في إقليم الأمهرا، واستمرت الهزات الارتدادية التي شعر بها الناس في جميع أنحاء وسط إثيوبيا وأدى الزلزال إلى تدمير كامل لمدينة "ماجيتي" القريبة من مركز الزلزال كما تسببت الهزات المتتالية في حدوث انهيارات صخرية وأرضية في منطقة كاراكوري.
الزلازل في العاصمة أديس ابابا وتقييم المخاطر في إثيوبياشهدت أديس أبابا حوالي 30 زلزالا زلزالا منذ 1950، تختلف درجاته ولكن بلغت أعلاها درجة 6.5 درجات على مقياس ريختر، حيث ضرب منطقة تبعد 195 كيلومترا شمال العاصمة بعمق 25 كيلومترا وقد وقع أحدثها قبل عامين بقوة بلغت 4 درجات على مقياس ريختر، ووقع أقواها قبل 62 عاما بالقرب من العاصمة بقوة بلغت 6.1 درجات، وتفيد تقارير المراصد المتخصصة بأن أديس أبابا تشهد زلزالين في المتوسط يوميا تتراوح قوتهما بين 4 و 5 درجات، ولم تشهد أي هزات في هذا العام.
أما فيما يخص مخاطر الزلازل في إثيوبيا، فيقول خبير الزلازل "ساين هيربرت" في ورقة بحثية عن تقييم خطر الزلازل في إثيوبيا إن الوادي المتصدع الكبير والنشط يجعل إثيوبيا عرضة لنوعين من المخاطر الزلزالية والانفجارات البركانية.
وباستخدام بيانات قواعد بيانات الكوارث الشهيرة "إيم دات" التي توضح أنه بين عامي 1900 و 2013 كان هناك ما مجموعه 10 زلازل وبراكين مما أدى إلى 93 حالة وفاة، وقدرت تكلفتها بأكثر من 7 ملايين دولار أميركي، وتشير مصادر أخرى للبيانات إلى أرقام مختلفة مثال ذلك ما قام به بيير جوين من رصد وجمع بيانات والذي قدر أن 15 ألف هزة حدثت في إثيوبيا والقرن الأفريقي في القرن العشرين، بينما تفيد دراسات سابقة "بأن 16 زلزالا وأكثر تم تسجيلها بقوة 6.5 درجات على مقياس ريختر في نفس الفترة.
ووفقا لتقرير نشره علماء الزلازل في 1999، فقد توقع الخبراء بأن هزات أرضية تصل إلى 6.5 درجات قد تضرب مناطق قريبة من العاصمة أديس أبابا، وتوقعت التقارير وقوع ضحايا يصل عددهم إلى 5 آلاف شخص وإصابة ما بين 8 آلاف و10 آلاف شخص، وتشريد ما يصل إلى 500 ألف شخص بإجمالي أضرار تتجاوز 12 مليار بر إثيوبي، وأشار التقرير إلى أن العاصمة أديس أبابا نفسها تقع على بعد 75 ـــــ 100 كيلومتر فقط من الحافة الغربية لوادي الصدع الإثيوبي الرئيسي والذي يعتبر بؤرة للهزات والبراكين.
سد النهضة وموقعه من خارطة المخاطريقع سد النهضة الإثيوبي في إقليم بني شنغول المتاخم للحدود السودانية، وعلى مسافة 37 كيلومترا منها تقريبا، كما يبعد حوالي 470 كيلومترا عن العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
ووفقا لخرائط الزلازل في إثيوبيا، فإن موقع سد النهضة يبعد من خطوط الصدع الرئيسية ومنطقة الانهيارات الأرضية في "جوفا" في إقليم شعوب جنوب إثيوبيا حوالي 612 كيلومترا، ولذلك فإن الخبراء لا يتوقعون حدوث زلازل كبيرة في المنطقة، ولكن بطبيعة الحال تظل المخاوف قائمة لجهة وقوع إثيوبيا عند تقاطع عدد من خطوط الصدع الزلزالية، كما أن هناك مخاطر حدوث الانزلاقات الأرضية التي يتكرر حدوثها في إثيوبيا (2017 و 2023 و 2024)، كان آخرها في يوليو/تموز من العام الحالي في منطقة "جوفا" في الجنوب الإثيوبي.
كما أكدوا حدوث انهيارات مماثلة لعدد من السدود والأنفاق في أوقات سابقة، وأن تكرار حدوث الزلازل في إثيوبيا والانهيارات الأرضية ربما يؤثر بطريقة أو بأخرى على بنية السد مما يشكل مخاطر حقيقية على السودان ومصر حسب الخبراء، ومثال ذلك الهزة الزلزالية التي ضربت منطقة تبعد عن السد حوالي 570 كيلومترا شرق سد النهضة وحوالي 140 كيلومترا جنوب العاصمة بقوة بلغت 5 درجات على مقياس ريختر في سبتمبر/أيلول الماضي.
وكان أقوى زلزال ضرب أقرب منطقة لسد النهضة في السنوات العشر الماضية بالقرب من بيني شنغول غوموز التي يقع فيها السد الكبير في 8 مايو/أيار 2023 والذي بلغت قوته 4.4 درجات حيث ضرب منطقة على بعد 241 كيلومترًا (150 ميلًا) شمال شرق أصوصا عاصة إقليم بين شنغول، وعلى عمق 10 كيلومترات وهو ما يدفع المراقبين بإثارة المخاوف من تعرض السد لهزات مماثلة تلحق خسائر كبيرة لدولتي المصب مصر والسودان.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات درجات على مقیاس ریختر الزلازل فی إثیوبیا الوادی المتصدع العاصمة أدیس شرق أفریقیا خطوط الصدع الواقعة فی أدیس أبابا ضرب زلزال سد النهضة شمال شرق فی منطقة فی إقلیم تقع على
إقرأ أيضاً:
الرينيسانس: تأملات في عصر النهضة!
(1)
لا يمكن أبدًا كتابة تاريخ دقيق للفكر والثقافة المصرية في القرن العشرين، من دون الوقوف عند إحدى محطاته التكوينية الأساسية الفاعلة؛ فكرًا وثقافة وأدبًا وتاريخًا وفنًا وعلومًا وموسيقى! نعم. إننا بإزاء شخصية موسوعية تكاد تمثل "دائرة معارف عميقة وغزيرة" بكل ما تعني العبارة.
أتحدث عن طبيب العيون والبيولوجي وعالم البحار والموسيقيّ والفنان والمؤرخ الأديب الدكتور حسين فوزي (1900- 1988) الشهير بسندباد العلوم والمعارف والفنون والآداب؛ أحد أبناء الرعيل الأول من بناة النهضة المصرية الحديثة؛ جيل طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، وأمين الخولي، وغيرهم،
وصاحب الاهتمامات العلمية والتاريخية والأدبية والموسيقية والفنية، الغزيرة، المتنوعة، والذي عاش عمره يدعو إلى التفكير العلمي، والنهضة والرقي الفكري والحضاري، كأحد رواد النهضة والتنوير في مصر في القرن العشرين.
والدكتور حسين فوزي مثقف واسع النظرة، يجمع بين العلم والأدب والموسيقى، ويعتنق رؤية حضارية مستنيرة أخلص لها في كل مراحل حياته وحتى وفاته؛ وتكشف مجمل أعماله رفيعة المستوى عن مفهوم مثالي للتنوير، كان يرى صورته المثلى في حركة النهضة الأوروبية التي تبلورت في الأراضي الإيطالية وعبرت عن نفسها كأحسن ما يكون التعبير فيما فعرف بنموذج "فلورنسا" الحضاري.
(2)
والدكتور حسين فوزي يمثل صورة نموذجية للمثقف الذي لا ينعزل في برجه العاجي ويكتفي بالنظريات المغلقة والقراءات لذاتها، فقد كان يحاول أن يؤثر ويغير ويخلق حالة من «الرينسانس» في مصر، وعلى مثال النموذج الأوروبي الذي أخلص له غاية الإخلاص؛ وكان سبيله إلى ذلك فن الموسيقى بنوع خاص، والذي سعى إلى غرسه في البيئة المصرية والعربية، على مثال الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وكانت له جهوده التأسيسية التي لا تنكر في هذا المجال، وعن إغرائه لطه حسين لكي يؤسس لهذا الفن في عهده، وتوالت جهوده بعد ذلك من خلال مؤلفاته وأحاديثه الإذاعية، وشرحه للأصول الأولى لهذا الفن، وتقديمه للأعمال الكلاسيكية الجليلة، حتى استطاع هذا الفن بفضل مجهوداته أن يصبح حقيقة ملموسة في مصر، ومن خلال مؤسسات تنافس المؤسسات العالمية.
جوانب إسهامات الدكتور حسين فوزي عظيمة ومتسعة ومتشعبة، وإن كان يربط بينها جميعًا من أقصى درجات الإبداع والخيال إلى أقصى درجات الانضباط العلمي والموضوعي "النهضة" و"فن صناعة الحضارة" والبحث عنها، والبحث عن صيرورتها واتصالها.
(3)
والدكتور حسين فوزي من كبار مثقفي مصر والعالم العربي الذين أولوا هذا العصر اهتماما كبيرا وخصوه بمزيد من القراءة والدراسة والمعايشة؛ وقد تجلى هذا الاهتمام في إنتاج حسين فوزي ونشاطه الثقافي والمعرفي الكبير؛ وإن كان قد تجلى بشكل أكثر بروزا وحضورا في كتاب له صدر عن دار المعارف قبل ما يزيد على نصف القرن بعنوان «تأملات في عصر الرينسانس».
في هذا الكتاب صغير الحجم عظيم الفائدة يتناول المؤلف عصر الرينيسانس أو ما يعرف بعصر النهضة أو عصر الإحياء، وهي تلك الحركة الزاهرة التي بدأت في التبلور والانتشار في إيطاليا العصور الوسطى. "عصر النهضة" هو الذي أعقب القرون الوسطى، التي كان مركز السلطة فيها والهيمنة للكنيسة، وباسم الدين وقدسية الدين كانت الكنيسة تسيطر على عقول ووجدان وسلوك الناس في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم وعلاقاتهم.. إلخ، جاء عصر النهضة بنظرة مغايرة تماما؛ عقب اهتزاز سلطة الكنيسة الكاثوليكية بظهور حركة الإصلاح الديني، وزاد في تصدع هذه السلطة وطأة ضربات التطورات العلمية والفكرية والاكتشافات الكونية.. إلخ،
وعرض الكتاب بإيجاز لهذه النظرة وقصة العلاقة بين الدين والسلطة، كما عرضها العالم المسيحي في الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة الأوروبية، ليخلص في النهاية إلى أن الفكر الأوروبي لم يتحرر إلا بعد أن خلع عن نفسه نير الوصاية الكنسية.
ويوضح حسين فوزي في كتابه القيم أن تقوُّض سلطة الكنيسة وانقشاع الهيمنة التي كانت لها على نفوس الناس، لم يكن يعني (كما يفهم الكثيرون أو يتصورون وهما) أن مكانة الدين في نفوس البشر قد انزاحت. أبدا لم يحدث هذا! ولم يتحول الناس إلى كفار أو ملحدين كما يشيع في كتابات المحافظين والمتدينين عن تلك الفترة!
ولم يكتف المؤلف بالمراجع الموثوق بها التي تناولت هذا العصر، لكنه جمع إلى جانب هذا تأمله الخاص، خلال مشاهداته، ومعايشته لهذه الحضارة، متنقلاً بين فنونها وآدابها وآثارها. ويشعر القارئ أن مثل هذا الكتاب ينقله إلى مناطق التاريخ والأدب والفن، ويقرب حضارة العالم البعيد ليجعلها بين يديه دون أن يبذل من نفسه غير الرغبة في القراءة والاستمتاع والمعرفة.
(4)
الغريب أن هذا الكتاب القيم من بين كتب الدكتور حسين فوزي لم يحظ بالشهرة ولا الاهتمام التي حظيت بها سلسلة كتبه الشهيرة السندباديات مثلا (سندباد مصري، سندباد عصري، حديث السندباد القديم.. إلخ)، ولا مثلما حازتها كتبه الأحرى في مجال الموسيقى (عن الموسيقى السيمفوني، وبيتهوفن.. إلخ)
وربما يعود ذلك إلى أنه من كتبه المتأخرة فقد صدرت طبعته الأولى عن دار المعارف عام 1984 أي قبل وفاته بأربعة أعوام فقط (وإن كنت أشك في أن طبعته الأولى قد صدرت في هذا التاريخ لأسباب وشواهد نصية قد تضيق بها مساحتنا المحددة)، وكما جاء في ديباجة التعريف بالكتاب:
"... أجاد فيه تصوير روح الحضارة التي تكفلت بالانتقال من العصور الوسطي إلى عصور الإحياء، مناقشًا في هذا الصدد فلسفات وآراء وتصورات كبار رجال النهضة، كما تجلت في أعمال ميكيافيلي، والشاعر بترارك، والبابا إسكندر السادس، وميراندولا، ومقدمًا نبذات مهمة ووافية عن هذه الشخصيات.
عن أثر هذا الكتاب وقيمته وأهميته، يقول المرحوم رجاء النقاش في مقال له بالأهرام:
"بالصدفة، وقع كتاب في يدي للعالم والأديب الكبير الدكتور حسين فوزي (1900-1988) صديق توفيق الحكيم الدائم، وأحد الأدباء والمفكرين الرواد منذ الربع الأول من القرن العشرين وحتى نهاية هذا القرن العشرين،
وللدكتور فوزي كثير من الكتب المهمة على رأسها كتابه الشهير «سندباد مصري» والذي يروي فيه تاريخ مصر منذ أيام الفراعنة حتى العصور الحديثة بطريقةٍ فاتنة، تحتفظ للتاريخ بحقائقه الواضحة، ولكنها تقدم ذلك في أسلوب فني ساحر سهل بديع".
"كان الكتاب الذي وقع في يد النقاش، وهو يفتش عن كتاب يخرج معه بالصدفة، ويحمله إلى عصر غير عصره، أملًا في أن يبعده ذلك ساعات أو أياما عن مشاغل الواقع الراهن، هو كتاب الدكتور حسين فوزي وعنوانه «تأملات في عصر الرينيسانس»؛ الذي يصفه قائلا "والكتاب لطيف ومليء بالمعلومات الدقيقة، وهو كتاب صغير لا يجد الإنسان تعبًا في قراءته، ولا يستغرق وقتًا طويلًا في هذه القراءة. كتاب بسيط وممتع ومفيد وشديد التركيز في تقديم المعلومات الرئيسية عن عصر الإحياء أو عصر النهضة الأوروبية، وكاتبه من هذه الناحية يعرف موضوعه حق المعرفة".
(5)
وقارئ كتاب (تأملات في عصر الرينسانس) يخرج بانطباع له شواهده وإثباتاته على أن الدكتور حسين فوزي مثقف واسع النظرة، يجمع بين العلم والأدب والموسيقى، ويعتنق رؤية أوروبية أخلص لها في كل مراحل حياته وحتى وفاته. وسيجد قارئ الكتاب صورة للمثقف الذي لا ينعزل ويكتفي بالنظريات والقراءات، فقد كان يحاول أن يؤثر ويغير ويخلق حالة من «الرينسانس» في مصر، وعلى مثال النموذج الأوروبي الذي أخلص له غاية الإخلاص.
وكان سبيله إلى ذلك فن الموسيقى بنوع خاص، والذي سعى إلى غرسه في البيئة المصرية والعربية على مثال الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وقد ركز في دعوته لهذا الفن على المفهوم الإنساني المشترك، الذي يخاطب الإنسان في كل مكان، دون محاولة منه للوقوف على «خصوصية» هذا الفن، التي اكتسبها خلال مسيرته في تاريخ الحضارة الأوروبية.. (وللحديث بقية)