بدأت وانتهت القمة (للقادة) العرب والمسلمين في يوم الإثنين الموافق 11/نوفمبر/ 2024م، وهي قمة باهتة لا تتجاوز مخرجاتها ونتائجها وقيمتها الفعلية قيمة الحبر الرخيص التي كتبت بها تلك البيانات والنتائج من تلك القمة الفارغة.
لقد تمت دعوة رؤساء وملوك وأمراء، ورؤساء وزراء الدول العربية والإسلامية من شرق الكرة الأرضية وصولاً إلى ضفاف المحيط الأطلسي غرباً من أجل أن يستمعوا إلى خطابات وتصريحات وبيانات لا قيمة ولا وزناً فعلياً لها، إلا ما ندر منها ، وكأن المنظمون لهذه القمة البائسة يهدفون إلى إسقاط آخر أوراق التوت التي ظلت ساترة ومغطية لعورات وعيوب ذلك النظام الرسمي العربي والإسلامي الفاشل تجاه ما يحدث من جرائم العصر الوحشية في فلسطين ولبنان التي يمارسها الكيان الصهيوني الإسرائيلي / الأمريكي / الأوروبي .
وكغيري من مشاهدي القنوات التلفزيونية العربية والأجنبية ومواقع التواصل الاجتماعي استمعنا إلى خطاب رئيس المؤتمر سيئ الصيت والسمعة هذا، وهو الأمير/ محمد بن سلمان ولي عهد المملكة السعودية ورئيس وزرائها والملك القادم للسعودية، استمعت إليه بحرص وكنت أتوقع أن أستمع إلى شيء جديد منه يتساوى أو يفوق حجم جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني الإسرائيلي تجاه أهلنا في قطاع غزة من الفلسطينيين، لكنه لم يقل شيئاً مفيداً سوى أنه يطالب ويشجب ويستنكر ويدين و و و، وجميعها مفردات تكرر ذكرها في جميع المؤتمرات السابقة.
عند اعتلاء الأمير/ محمد بن سلمان آل سعود منصة رئاسة المؤتمر لهذه القمة، كنت أتوقع أن يأتي لنا بشيء جديد يمسح جميع زلاته القاتلة، أو لنقل بوضوح أكبر جميع جرائمه البشعة بحق الشعب اليمني، حينما قام بتزوير توقيع والده الملك الخرف /سلمان بن عبدالعزيز آل سعود حينما أعلنوا الحرب الوحشية على الجمهورية اليمنية في صبيحة يوم الخميس الموافق 26/ مارس / 2015م، واستمرت المعركة العدوانية علينا حتى كتابة مقالنا هذا وإن كانت بأشكال وطرق مختلفة عن ما بدأت عليه السعودية بعدوانها البربري على شعبنا اليمني.
وبعدها حينما اشترك بشكل مباشر في المؤامرة الدنيئة القذرة على حركة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وشعبها المقاوم البطل منذ انطلاقة معركة طوفان الأقصى المبارك في 7/ اكتوبر/2023 م ، ولعليّ هنا أذكَّر القارئ اللبيب بعدد من تلك المؤامرات الدنيئة التي اشتركت فيها المملكة السعودية على القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية هي قضية فلسطين وهي :
أولاً : اشتركت المملكة السعودية في فتح أجوائها الفضائية للطيران المعادي للأمة، وهو الطيران العسكري والمدني جيئة وذهاباً.
ثانياً : فتحت السعودية طريقها البري أمام شاحنات النقل من ميناء جبل علي بالإمارات العربية المتحدة مروراً بالأراضي السعودية وأراضي المملكة الأردنية الهاشمية وصولاً إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة (إسرائيل) كي توصل البضائع والمواد الغذائية الطازجة لجنود الاحتلال الصهيوني، ولازالت تلك الطريق مفتوحة حتى يومنا هذا.
ثالثاً : شاركت قيادات عسكرية رفيعة من المملكة السعودية في اجتماع بمدينة المنامة عاصمة مملكة البحرين التي ضمت كل من مملكة البحرين، ومصر ومشيخة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة الأردنية الهاشمية، وهيئة الأركان العامة لجيش العدو الإسرائيلي، وبقيادة المنطقة العسكرية الوسطى للقوات المسلحة الأمريكية .
رابعاً : نشر الكاتب الأمريكي الشهير BOB WOOD WARD في كتابه الحديث [ الحرب ] في هذا العام 2024 م ، جملة من المعلومات الخطيرة التي رواها عن اللقاءات التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي اليهودي / انتوني بلنكن مع حكام المملكة السعودية والإمارات ومصر والبحرين والأردن وقطر ، وخلاصة جميع تلك اللقاءات معهم تفيد أنهم متفقون اتفاقاً كلياً مع رؤية الإدارة الأمريكية الديمقراطية في ما تنفذه عصابات الكيان الصهيوني الإسرائيلي في قطاع غزة ، وكان شرطهم الوحيد أن لا تظهر نتائج تلك الجرائم في وسائل الإعلام العالمي والعربي لأنها تحرج هؤلاء الحكام العرب أمام شعوبهم .
خامساً : لا تعتبر حكومة المملكة السعودية أن ما يحدث من جرائم وحشية يومية لأزيد من400 يوم بلياليها منذ أن بدأت معركة طوفان الأقصى ، تلك الجرائم التي وقعت وحدثت بحق الشعب الفلسطيني من قتل للشهداء الذين تجاوزوا 42 ألف شهيد وشهيدة ، وجرح أزيد من مائة ألف جريح ، لا تعتبر الحكومة السعودية بأن هذه الآلام والمآسي قضيتها ولا تعنيها في شيء، لا بل إنها تتنصل عنها كلياً ، والدليل وسائل إعلامها المختلفة وما تظهره على شاشاتها وقنواتها ، وما يقوله بعض مثقفيها وإعلاميها الذين يكررون ببلادة مُفرطة بأن القضية الفلسطينية لم تعد قضيتهم ، وتجد برامج الترفيه والأفراح والمسابقات الرياضية والفنية وحتى الحيوانية منتشرة في القنوات الفضائية السعودية ، دون حياء ولا خجل ولا إظهار لأبسط المشاعر الإنسانية أو الأخلاقية أو الدينية.
سادساً : سأورد اقتباسا شبه مطول للدكتور / عبدالفتاح عبدالباقي وهو يقدم وثيقة سعودية في منتهى الخطورة* [ نشرتها مكتبة مدبولى بالقاهرة عام 2006 عبر كتاب (في تاريخ الأمة العربية الحديث المشروع القومي الذى لم يتم) للدكتور «ذوقان قرقوط»* *والصادر عن مكتبة مدبولى في القاهرة عام 2006م، صفحتي 506،505 نشر الكاتب صورة أصلية من* الوثيقة الخطيرة جدا التالية:
((توصيات اللجنة الخاصة بمجلس الوزراء السعودي في 5 رمضان 1386 ه الموافق16 ديسمبر 1966 عن الوجود العدواني المصري في اليمن))
*مولانا صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز المعظم
يا صاحب الجلالة:
*بناء على توصياتكم الكريمة لوضع التقرير الخاص عن وجود العدو المصري في اليمن وتوجيهات جلالتكم لاقتراح ما نراه من موجبات إزالته ، اجتمعت في يوم 5 رمضان 1386 هـ الموافق 16 ديسمبر 1966 م – اللجنة الخاصة بمجلس الوزراء بغياب بعض الأعضاء *وحضور أصحاب السمو وعدد من الخبراء الأمريكان الآتية أسماؤهم :
*سمو الأمير فهد بن عبد العزيز وزير الداخلية.
*سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران.
*سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض.
*صاحب المعالى كمال أدهم مندوب رئيس الوزراء ومستشار المكتب الخاص.
*السيد: كيم روزفلت مدرب خبراء وزارة الدفاع والقسم العسكري الأميركي.
*وقررنا ما يلي :
1- رفع التقرير المرفق لجلالتكم المتضمن – لخطة الخلاص – من العدو الجاثم في اليمن- وكل الأعداء لرفعه بعد إقراره من جلالتكم إلى فخامة الرئيس لندون جونسون، والحذف منه أو الإضافة إليه ما ترونه جلالتكم .
2- تأكد لنا بما لا شك فيه أبدا أن المصريين المعتدين لن ينسحبوا من اليمن ما لم يُرغَموا بقوة جبارة تضربهم وتشغلهم عنها بأنفسهم عنا إلى الأبد ،
* وأنه ما لم تتحرك صديقتنا العظيمة أمريكا لدعم إسرائيل لردع المصريين
*فسوف لن يأتي عام 1390 هـ، أو كما قال الخبراء الأمريكان عام 1970 م –
* وفى هذه الأرض لنا ولأمريكا بقية من وجود.]
انتهى الاقتباس هنا.
الخلاصة :
بأن المملكتين السعودية والأردن هما من مهَّدا وحضَّرا وساهما بالمال والجغرافيا من أجل إسقاط الأنظمة العربية القومية الوطنية في كل من جمهورية مصر العربية والجمهورية العربية السورية ، ومعاونة كيان العدو الإسرائيلي والحكومة الأمريكية، للانتصار في عدوان خمسة حزيران عام 1967 م ، والتي أطلق عليها العرب قاطبة بأنها نكسة حزيران .
سابعاً : إن احتضان حكومة المملكة السعودية لحفنة تافهة من المرتزقة اليمنيين في فنادق الرياض وأبوظبي ودبي كل هذه السنوات العجاف التي مرت من زمن العدوان السعودي الإماراتي علي الجمهورية اليمنية وعاصمتها صنعاء وشعبها اليمني الصابر، هو دليل آخر على أن مصالح حكومة المملكة السعودية تتناقض تناقضاً كلياً، في كل زمان ومكان مع مصالح شعوب الأمة العربية والإسلامية قاطبة ، وان موقفها يتسق مع برنامج الأمة وحركة الصهيونية العالمية.
الخلاصة :
مثلت حكومة المملكة السعودية منذ نشوئها، والموثقة بخط يد مؤسسها الأول السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ما يلي ((أنا السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل الفيصل آل سعود أقر وأعترف ألف مرة للسير / برسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى، لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم، كما تراه بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة))، إنها أعظم خلاصة الخلاصة نستشهد بها للتاريخ من صناع التاريخ أنفسهم وفوق كل ذي علم عليم.
*عضو المجلس السياسي الأعلى
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
الأكاذيب المُمأسسة وتواطؤ النخب: لماذا تحتاج تل أبيب إلى صمت العرب كي تستمر الحرب؟
لم يكن الصوت الذي خرج من قلب غزة مجرد بيان عسكري تقليدي، ولا هو خطبة من خلف الكاميرا وحسب. كان زلزلة في ضمير أمة، صرخة بحجم المجازر، ومساءلة تفضح نُخبًا اعتادت أن تضع رؤوسها في الرمل، وأن تُدير ظهورها لشعب يُذبح منذ ما يقارب العامين. أبوعبيدة، الملثم الذي تكلّم باسم الصامتين، لم يطلب دعمًا، بل قدّم شهادة حيّة من تحت الركام، من خنادق المقاومة، ومن جراح الأطفال، ليقول للعالم: لسنا مهزومين، بل أنتم الهاربون من المعركة.
في زمن يتآمر فيه القريب قبل البعيد، وتتواطأ فيه الأنظمة قبل الأعداء، كان لا بد لهذا الصوت أن يخرج من غبار المعركة، ليفضح مجازر الاحتلال، ويصرخ في وجه الخذلان العربي، ويقرع أبواب الضمائر التي طال نومها. لم يوجّه أبو عبيدة نداءه للمحتل فحسب، بل بعث رسالة نارية إلى شعوب الأمة: من الذي يخذل غزة؟ من الذي باع القدس؟ من الذي صمت عندما كانت الدبابات تدوس المستشفيات، وتقصف الخيام والمدارس؟ هل التطبيع دينكم الجديد؟
في هذا المقال، نحلّل خطاب أبو عبيدة بوصفه حدثًا سياسيًا وأخلاقيًا، يكشف البنية التحتية للعجز العربي، والازدواجية الغربية، ويطرح رؤية بديلة لصراع يُراد له أن ينتهي عند شروط القتلة، لا عند مطالب الحرية.
أولًا: عنف الدولة الحديثة وتناقضات المجتمع الدولي
كما قلنا سابقا، لا يمكن فصل السياسات الدولية عن بنيتها الطبقية والاستعمارية. والمجتمع الدولي الذي تغنّى طويلًا بالقانون والعدالة، ينكشف الآن تمامًا. لا أحد يطالب بوقف العدوان، لا أحد يعاقب القاتل، بل على العكس، يقدم له السلاح والدعم الدبلوماسي.
الولايات المتحدة، زعيمة «العالم الحر»، تحوّلت إلى المورد الرسمي للذخائر التي تُمزق أجساد أطفال غزة. والبنتاغون لا يخفي فخره في «الوفاء بالتزامات الشحنات بينما يُدفن أطفال غزة تحت الركام. أما أوروبا التي طالما تغنّت «بقيمها»، فهي اليوم شريكة في الحصار، في الرقابة، وفي تبييض صورة الاحتلال، رغم الإدانات الشكلية التي لا تُطعم جائعًا، ولا توقف مجزرة.
خطاب أبو عبيدة، في لحظته الفاصلة، هاجم هذا الإجماع الدولي المنحاز، وأعاد رسم حدود المعركة لا كصراع حدود، بل كمعركة بقاء بين مشروع استعمار إبادي، وحركة تحرر تُقاتل لأجل الحياة.
ثانيًا: بين المقاومة والعزلة… من كسر الطوق إلى استنهاض الضمير
في زمن تطبيعي تُغلق فيه المعابر وتُفتح فيه السفارات، تصبح كل رصاصة مقاومة، وكل كلمة تُقال من قلب غزة، فعلًا تحرريًا بحد ذاته.
خطاب أبو عبيدة كان ترجمة لهذا التمرّد الرمزي والفعلي. فالرجل لم يعلن فقط عن عملية نوعية في الميدان، بل قدّم سردية بديلة عن معنى النصر والهزيمة، عن معنى الاستنزاف. لقد أراد للاحتلال أن يتآكل من الداخل، وأن تُزرع الهزيمة في نفس الجندي لا في خارطة العمليات العسكرية فحسب.
في هذا المعنى، فإن خطاب أبو عبيدة لا يُقاس فقط بمضمونه العسكري، بل بإمكاناته الرمزية في تحريك وعي الأمة. ففي كل مفردة نارية، كانت هناك دعوة لإعادة إنتاج الوعي المقاوم، لكسر الطوق المعرفي والإعلامي الذي فرضته النخب المطبّعة.
كما وضع الخطاب «إسرائيل» في مأزق داخلي عميق. فإعلان فشل المفاوضات، وكشف تنصل الاحتلال من الاتفاقات، أعاد توجيه السهام نحو حكومة نتنياهو. فهذا الأخير الذي يتبجّح «بالنصر الوشيك» يجد نفسه اليوم عالقًا بين الفشل العسكري، والسخط الشعبي، والضغط من عائلات الأسرى، وأزمة داخل معسكره الحاكم.
ثالثًا: تواطؤ النخب وتحوّل الصمت إلى شراكة في الجريمة
الجزء الأكثر جذرية في خطاب أبو عبيدة لم يكن موجّهًا للاحتلال، بل للأمة. للأنظمة. للنخب. للفلاسفة والمثقفين والدعاة، أولئك الذين انتحروا معنويًا بصمتهم.
شهيد الأمة سماحة السيد حسن نصر الله طالما تحدث عن «وظيفة المثقف في عصر الهيمنة»، وها نحن نراها في أوضح تجلياتها. مثقف السلطة، هو الذي يصمت عند المجازر، أو يتحدث عن «تعقيدات الوضع»، أو يدعو للهدوء «تفاديًا للتصعيد». هذه نخب خانت وظيفتها، وتحوّلت إلى أداة تبرير، وإلى واجهة تجميل لجريمة تُبثّ على الهواء.
إن التواطؤ ليس فقط خيانة سياسية، بل جريمة أخلاقية. وهذا ما قاله أبو عبيدة بصراحة: «رقاب قادة الأمة ونخبها مثقلة بدماء الأبرياء ممن خذلوا بصمتهم».
الخذلان، في خطاب أبو عبيدة، ليس مجرد غياب الدعم، بل هو اختيار واعٍ للوقوف في الجهة الخاطئة من التاريخ. الأمة كلها مطالبة بكسر الصمت، فالصمت لم يعد حيادًا، بل اصطفافًا ضمنيًا مع القاتل.
رابعًا: الإسلام الوظيفي وتدجين الوعي الجماعي
ما الذي جعل أمة تعد ربع سكان الأرض عاجزة؟ لماذا استطاعت شعوب صغيرة أن تُسقط طغاة بينما تنام أمة بكاملها على مذابح غزة؟
هنا يكمن الدور الكارثي للفكر السلفي الوهابي، الذي جرى تصنيعه سياسيًا وتصديره ثقافيًا خلال نصف قرن، ليقوم بمهمة وحيدة: تدجين الشعوب وتجريم المقاومة.
كما قال سابقًا المفكر إدوار سعيد، فإن الوهابية ليست ظاهرة دينية بل ظاهرة سياسية. وقد تحوّلت إلى أداة السلطة لشرعنة القهر، ومهاجمة الفكر التقدمي، وتكفير كل تحرك يرفض الاستبداد.
في هذا السياق، يبدو خطاب أبو عبيدة صرخة تحرر ديني أيضًا، لا سياسي فقط. فالإسلام الذي ينتمي إليه أبو عبيدة هو إسلام الفعل المقاوم، لا طقوس الخضوع، إسلام الأرض والكرامة، لا التحريم الأجوف لكل ما يهدد الطغاة.
خامسًا: من الجولاني إلى الجواسيس: حين تُوظّف المقاومة لخدمة المستعمر
حين أشار أبو عبيدة إلى العملاء، لم يكن يطلق تهديدًا أمنيًا فقط، بل يُسلّط الضوء على اختراق بنيوي في النسيج الوطني. الاحتلال لا يعيش بدون أدواته الداخلية، وكل منظومة استعمار تحتاج خونة.
لكن الجاسوس ليس فقط ذلك الذي يبيع المعلومة، بل من يبرر للمحتل، من يُعيد إنتاج أدواته داخل منظومتنا الثقافية والسياسية.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى نموذج «الجولاني» في شمال سوريا. فقد تحوّل من أمير لجماعة مصنفة على «قوائم الإرهاب» إلى حاكم مدعوم دوليًا. هذا التحول، برعاية أمريكية وبتنفيذ تركي، يُجسد بالضبط ما قصده إدوار سعيد بـ»إعادة تدوير الإسلام السياسي في خدمة المشروع الإمبريالي».
المطلوب اليوم هو قطع الطريق على إعادة إنتاج «الإسلام الوظيفي» داخل فلسطين، وتجفيف منابع الخيانة، وخلق بيئة وعي وطني تُحصّن المشروع المقاوم من الداخل.
سادسًا: رسائل ما بعد الخطاب – نحو انتفاضة شاملة ضد الهيمنة
خطاب أبو عبيدة ليس مجرد استعراض قوة، بل وثيقة سياسية. ومن يقرأها بعين إدوار سعيد يرى فيها محاولة لتفكيك البنية الكولونيالية التي ما زالت تهيمن على المنطقة: من الاحتلال المباشر، إلى النخب التابعة، مرورًا بالإعلام المُدار والاقتصاد التابع، وصولًا إلى التطبيع الثقافي والديني مع فكرة الهزيمة.
إن هذا الخطاب، بقوته الرمزية، يجب أن يتحوّل إلى نقطة انطلاق لحراك شعبي وثقافي وسياسي، يُعيد بناء مشروع الأمة من تحت، لا من فوق، من داخل الوعي الشعبي، لا عبر مؤتمرات القمم الميتة.
ولعلّ أهم ما يمكن البناء عليه، هو الحركة العالمية المتعاظمة التي تقف مع فلسطين، والتي أثبتت أن الرأي العام الغربي أكثر تقدمًا في كثير من الأحيان من الرأي العام العربي المقموع.
بين زمن المذلة ونهج الكرامة
لم يكن خطاب أبو عبيدة مجرد حدث عابر، بل محطة فاصلة في تاريخ خطاب المقاومة. لقد قدّم ما يشبه لائحة اتهام أخلاقية بحق عالم يرقص على جراح غزة، ونخبٍ باعت آخر ما تبقى من شرفها مقابل بقائها في بلاط السلطان.
وهو بذلك لا يعلن فقط عن استراتيجية عسكرية، بل يدعو إلى نهج كرامة، إلى إسلام مقاوم، إلى مشروع تحرر شامل، ضد كل أشكال الاحتلال: الصهيوني، والعربي، والديني المزوّر.
إما أن نُعيد إنتاج أمتنا على قاعدة الحرية، أو نواصل الغرق في مستنقع الذلّ، إلى أن يصير الصمت خيانة رسمية، والعار زيًّا قوميًا.
كاتب فلسطيني