د. صالح الفهدي
في زيارةِ أحد القادةِ لإحدى المؤسسات، وأثناءَ اللقاءِ، كانت إحدى الموظفات تمزجُ المفردات الإنجليزية بالعربية في حديثها إليه، فأوقفها سائلًا عن اسمها، ثم قال لها: اعتزِّي بلغتك يا ابنتي، ثم سردَ لها قصةً يسردُ فيها تشبُّثه بلغتهِ العربية، وعدم تخلِّيهِ عنها حين كان يعملُ مع أجانب.
صدقَ الرجلُ؛ فالإِنسانُ الذي يتخلَّى عن لغته إنما يتخلَّى عن عزَّته، ولا يفهم مغزى ذلك إلا العاقلون؛ فاللغةُ هي رأسُ الهوية، والهوية هي ذاتُ المرءِ فإِن تخلَّى عن عزَّته ذلَّ، وإن رضي أن يرطنَ لسانه بأيَّةِ مفردةٍ دونَ حاجةٍ إليها هان، وإن قَبِل على نفسه أن يُنزل لغته الأُم في مكانةٍ أدنى من مكانةٍ لغةٍ أُخرى فقد أضاعَ مروءته.
سبحان الله، ما الذي حدا بالكثيرين منَّا لا يجدون حرجًا من التلفُّظِ بألفاظٍ أعجميةٍ ليس لأنهم لا يجدون مرادفًا لها في لغتهم العربية وإنَّما لأنهم ظنُّوا أن ذلك من قبيل التطوُّر والتقدُّم والعصرنة، وما هو إلَّا من قبيل الهوانِ، والضعة، والتراخي!.
لقد كتبنا وقلنا الكثير عن الأثر الوخيم لهذا التداعي الحادث في لغتنا العربية، لغتنا الأم، لغة آبائنا وأجدادنا، وديننا الحنيف، وسمةُ عروبتنا، ولكننا نبصر بإنزعاجٍ شديدٍ ازديادَ اللافتات التجارية الإنجليزية في الأَسواق، وهو أمرٌ مثيرٌ للقلقِ لا يُدركُ خطره الثقافي على هوية المجتمع إلا من يشعرُ بالغيرةِ تجاه وطنه، أمَّا من يدافعُ عنهُ فهو في وادٍ آخر، لا يعنيهِ من الأمر شيئًا!! وإننا لنقرأ الكثير من مقولات هؤلاءِ الغيورين على هويتهم الوطنية ينقلون الصور تلو الصور للافتات المحلات التجارية المكتوبة باللغة الإنجليزية معقِّبين عليها بتعليقاتٍ ساخطةٍ على هذا الاجتراء السافر على الهوية الوطنية.
في زيارتي الأخيرة إلى نزوى ؛حيث قابلتُ أحد الأصدقاء من الشركة المطوِّرة للقرية التراثية فيها "قرية العقر" طمأنني بما أوصيتهُ في زيارةٍ سابقةٍ بأن يتجنَّبوا وضع الأسماء الأجنبية على اللافتات التجارية؛ لأن الموقع يتمتع بخصوصية أكبر من غيره ويجب الحفاظُ على الهوية العامة للمكان، فقال: لقد وضعنا في الاعتبار تجنُّب العناوين الأجنبية على اللافتات التجارية.
هذا ما نأمل أن يُعنى به محافظو المحافظات؛ فالأمرُ لا يتعلُّق باستثمارٍ مجرَّدٍ من القيمةِ الثقافية، ولا بجذبٍ سياحيٍّ على حسابِ الهوية الوطنية، وإنَّما يتعلَّقُ بوضع الهوية الوطنية وعلى رأسها الحفاظُ على المرتكزات الأَساسية وصونها لتسلم الهوية من السموم التي تتسللُ إليها بأشكالٍ مبهرجةٍ، ومبرراتٍ زائفة.
إنَّ من المفارقات أن يأتي الغريبُ الذي يستثمرُ في قطاعٍ من القطاعات فتجد لافتته وقد وضعَ عليها اسم وطنه أو اسم بلدة من بلداته، في حين أن ابن الوطن يختارُ اسمًا غريبًا لا يعرفُ أحيانًا معناه، كما ردَّ عليَّ أحدهم حينما سألته عن اسم نشاطه وقد كان باللغة الفرنسية فقال لا أعرف!!
نحنُ بحاجة إلى إيقاف هذا النزوح الجارف من قِبل أنفسنا قبل أن نتحدث عن فعل الآخر، وذلك بوعي المجتمع أن في تفضيل الحديث باللغة الأجنبية على اللغة الأم ذلَّة، وهوان، وان تفضيل المسميات الأجنبية على العربية قصور في الوعي وإدراك العواقب، ثم إن هناك حاجة إلى وعي الجهات المسؤولة لمنح الأسماء التجارية وقيامها بإجراءٍ حازمٍ لوقف التجنِّي على الهوية الوطنية، كما إن المؤسسات على اختلافها بحاجة إلى فرض الحديث باللغة العربية (اللهجة الدارجة) فيها دون الأجنبية إلّا للضرورة القصوى.
وحيث أن هذا الأمر مقلقٌ للغاية، فإِن على المجتمع أن يحافظ على هويته، ويغارُ عليها ويصونها فذلك جهدٌ جماعيُّ متضافرٌ يجب أن يكون عبر وسائلَ متعدِّدة ومستمرَّة، حتى لا يصبح المتحدث باللهجة الدارجةٍ في يومٍ من الأيام متخلِّفًا كما حصلَ في بعض البلدان، وتلك عاقبةٌ لا تُحمد، ومصيرٌ لا يُرجى.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لماذا تسيطر الشركات الأجنبية على قطاع الهايبر ماركت؟
كثيرا ما أتساءل وأنا أرى شركات غير عمانية تتوسع في فروعها في قطاع البيع بالتجزئة أو ما يسمى بالهايبرماركت: هل وجود شركات غير عمانية تستثمر في هذا القطاع يعكس خللا في الاقتصاد؟ ولماذا تستطيع هذه الشركات افتتاح فروع عديدة وكبيرة تجد فيها كل شيء بينما لا نجد مؤسسة عمانية واحدة قادرة على ذلك؟ بل
إن بعض الشركات العمانية التي كانت تعمل في هذا القطاع قبل عدة سنوات وهي مؤسسات قليلة ومحدودة كادت تختفي من السوق في حين أن الشركات غير العمانية المنافسة لها نمت وتوسعت وافتتحت فروعا في معظم المدن الكبرى في سلطنة عُمان.
إن وجود شركات كبيرة قادرة على تلبية احتياجات المجتمع من السلع الغذائية والاستهلاكية والإلكترونيات والكماليات ونحوها من السلع الأخرى أصبح ضروريا في ظل النمو السكاني وتنوع متطلبات الأفراد واحتياجاتهم وتنوع منتجات المصانع العمانية والأجنبية. غير أن سيطرة الشركات الأجنبية على القطاع تعد أمرًا غير صحي سواء للاقتصاد أو للمجتمع؛ وكما نعلم فإن سلاسل الهايبرماركت الموجودة لدينا إنما هي فروع لشركات أجنبية موجودة خارج سلطنة عُمان وبالتالي فإن أي خلل في الشركات الأم سوف ينعكس سلبا على فروعها التي تكاد تسيطر على
القطاع لدينا.
تمتلك الشركات الأجنبية قدرة تسعير قوية وسلاسل إمداد فعالة ومنتشرة في العديد من دول العالم وبالتالي فإنه من الصعب على الشركات المحلية وخاصة محلات البقالة الصغيرة والمتوسطة التنافس معها وهو ما يؤدي إلى إضعاف الشركات المحلية العاملة في هذا القطاع، ولعل ما نشهده حاليا من النمو السريع لفروع الشركات الأجنبية مقابل التراجع في عدد محلات البقالة العمانية أحد مظاهر المنافسة غير المتكافئة في هذا القطاع، ولعل هذا هو أحد أسباب ضعف نمو المنتجات العمانية في الأسواق المحلية؛ في الوقت الذي تحظى فيه منتجات المصانع العمانية باهتمام كبير في العديد من أسواق دول مجلس التعاون والأسواق العربية والأوروبية.
وهناك العديد من التأثيرات السلبية الأخرى على الاقتصاد الوطني نتيجة للنمو الهائل لهذه الشركات في ظل عدم وجود شركات عمانية منافسة لها؛ من أبرزها تحويل الأرباح إلى الخارج حيث توجد المقرات الرئيسية لهذه الشركات، وهذا يعني أن جزءا كبيرا من عائدات هذه المحلات يذهب إلى خارج البلد بدلا من استثماره في الاقتصاد الوطني، أضف إلى هذا أن الشركات الأجنبية تعمد إلى توظيف القوى العاملة الوافدة بدلا من توظيف الشباب العماني باستثناء بعض الوظائف المتعلقة بالمحاسبة ونحوها، في حين تكون المناصب التنفيذية والقيادية للوافدين وهو ما يقلّص مكاسب مثل هذه المحلات في نقل الخبرات إلى الشباب العُماني وتطوير مهارات الكوادر الوطنية.
عندما نقوم بتحليل أسباب نمو هذه الشركات نجد أن النمو السكاني وارتفاع أعداد بعض الجنسيات التي تركز هذه الشركات على استقطابها، وتحول نمط الاستهلاك اعتمادا على التسوق الشامل من محل واحد بدلا من التسوق من محلات متباعدة تعد من أبرز أسباب هذا النمو، كما أن استثمار هذه الشركات في فروعها من حيث الرحابة والسعة ووسائل الراحة وتوفر مواقف السيارات أثر إيجابا على تجارب المستهلكين وشجعهم على الإقبال عليها، كما أن التسهيلات الحكومية للاستثمار الأجنبي، وتطور البنية الأساسية في سلطنة عُمان من حيث الموانئ والمطارات والطرق الفسيحة أسهما في تسهيل عمليات الاستيراد والتوزيع وتعزيز أداء الفروع.
وفي ظل وجود العديد من التأثيرات السلبية على الاقتصاد الوطني نتيجة لسيطرة محلات الهايبرماركت الأجنبية على هذا القطاع وعدم وجود بدائل محلية منافسة لها فإنه من المهم أن تنظر جهات الاختصاص إلى هذه التأثيرات وتسعى إلى تقليصها؛ فالنمو المستمر لهذه الفروع ليس في مصلحة اقتصادنا الوطني وعلينا الحد من ذلك عبر تشجيع الشراكة بين الشركات الأجنبية والعمانية، والاهتمام بتعزيز وجود المنتجات العمانية في هذه المحلات والترويج لها، ومتابعة نسب التعمين خاصة في المناصب القيادية والتنفيذية، كما أن قيام صناديق الاستثمار المحلية والشركات الكبرى ورجال الأعمال بتأسيس علامة تجارية عمانية تستثمر في هذا القطاع أصبح أمرا ضروريا لتعزيز الأمن الغذائي ودعم المنتجات العمانية مع الاهتمام بتسهيل تمويل مثل هذه المشروعات بما ينعكس إيجابا على الاقتصاد العُماني.