السلطة السورية الجديدة وضغوط الخارج
تاريخ النشر: 29th, December 2024 GMT
شهدت الأيام القليلة الماضية زيادة في زخم الحراك السياسي الإقليمي والدولي بشأن الوضع في سوريا، وذلك بعد هروب بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وسقوط النظام الأسدي، حيث وصلت عدة وفود دولية إلى دمشق من أجل نسج علاقات مع الإدارة الجديدة للبلاد، والبحث في العديد من الملفات المتعلقة بشكل الحكم وتركيبته، والعلاقة مع دول الجوار، ومع باقي دول العالم، وكيفية تحقيق الأمن والاستقرار وسوى ذلك.
كانت تركيا أولى الدول التي تواصلت بشكل مباشر مع السلطات الجديدة، فأرسلت إلى العاصمة دمشق وفدًا يضم كلًا من وزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن، والتقيا بالقائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، الذي قاد سيارة برفقة كالن إلى الجامع الأموي.
وسبق أن وعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر/ أيلول من عام 2012 بالصلاة في هذا الجامع، وأن يقرأ سورة الفاتحة فوق قبر صلاح الدين الأيوبي. ويمكن القول إن الطريق بات ممهدًا له كي يحقق وعده في أحد الأيام المقبلة.
ليس خافيًا أن الوضع في سوريا تعتبره الطبقة السياسية في تركيا مسألة وطنية، بالنظر إلى تشارك الدولتين بحوالي 950 كيلومترًا من الحدود بينهما، إلى جانب العلاقات التاريخية والثقافية بين البلدين الجارين، والقلق التركي من إمكانية قيام كيان انفصالي في مناطق شرقي نهر الفرات التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ومخرجاته المدنية ممثلة بمجلس سوريا الديمقراطي (مسد)، والعسكرية ممثلة بوحدات حماية الشعب الكردية التي تشكل عماد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حيث تعتبر تركيا أن هذه المكونات هي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني الذي تخوض ضده حربًا منذ ثمانينيات القرن العشرين الماضي.
إعلانتتمحور مواقف تركيا وأولوياتها، في علاقتها مع السلطات السورية الجديدة، حول مطالبتها بتشكيل حكومة جامعة، بما يعني عدم استبعاد الهيئات السياسية المقربة منها، وفصائل ما يسمى "الجيش الوطني" المدعومة من طرفها، ومكافحة الإرهاب، والمقصود به عدم السماح باستمرار سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته على مناطق في شرقي الفرات، إضافة إلى استعداد أنقرة للمساهمة في إعادة إعمار ما تهدم في سوريا خلال السنوات السابقة.
وقد وعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمساعدة الشعب السوري في تحقيق الاستقرار، واعتبر أن بلاده تتطلع بصدق إلى بناء سوريا خالية من الإرهاب، يعيش فيها جميع الأديان والمذاهب والإثنيات بسلام جنبًا إلى جنب.
الحراك الإقليمي والدوليسارعت لجنة الاتصال الوزارية العربية، التي تضم الأردن، والسعودية، والعراق، ولبنان، ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، إلى عقد اجتماعات في مدينة العقبة الأردنية في 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وبحضور وزراء خارجية قطر، والإمارات، والبحرين، وتركيا، وشارك فيها ممثلون عن ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون.
وأصدرت اللجنة بيانًا شددت فيه على الحاجة إلى انتقالٍ سياسي جامع وموثوق بقيادة السوريين، ويقرره السوريون، ومبنيٍّ على المبادئ الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2254.
المؤسف أن ما جاء في بيان العقبة هو أقرب إلى الاشتراطات على السلطة الجديدة، مع تشكيك ضمني حيالها، في حين أن المطلوب من الدول العربية على وجه الخصوص الالتفات إلى ما عاناه السوريون خلال أكثر من 13 عامًا خلت من نظام الأسد، وفتح المجال سريعًا لإيصال المعونات الإنسانية للسوريين، ومساعدتهم في تحقيق انتقال سلس للسلطة، وإعادة إعمار ما هدمه نظام الأسد، إضافة إلى أن البيان لم يقل كلمة واحدة عن محاسبة الذين ارتكبوا المجازر والجرائم بحق السوريين، وضرورة تسليمهم للعدالة.
إعلانمن جهتهم، ركز معظم قادة الدول الغربية، منذ الأيام الأولى لفرار بشار الأسد، على ضرورة إجراء عملية انتقالية سياسية جامعة، وتمثل جميع المكونات، إضافة لحماية الأقليات وضمان حقوق المرأة، ومكافحة الإرهاب.
وهناك إجماع لدى معظم ساسة الدول الغربية، وأيضًا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، على أن علاقات الغرب مع سوريا بعد سقوط نظام الأسد تحددها مجموعة عوامل.
وأسهم سقوط هذا النظام في إنهاء مرحلة ساد فيها ستاتيكو، نهض على إضعاف النظام وعزله وفرض عقوبات عليه، كي يذعن للانخراط في حل سياسي. وساهم إسقاط النظام في تلقي إيران وحلفائها في المنطقة ضربة قوية تضاف إلى الضربات الكبيرة الأخرى، حيث أفضى إلى تغيير توازن القوى وقواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب خارطتها بما يتناسب من زيادة نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، وتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية فيها.
ومع ذلك فإن المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط لن تكون سلسة وطيّعة، لذلك لجأت الإدارة الأميركية إلى إجراء اتصالات مباشرة مع "هيئة تحرير الشام"، على الرغم من أنها ما تزال تصنفها منظمة إرهابية، وهو أمر تحتاجه هيئة تحرير الشام بالنظر إلى سعيها للحصول على اعتراف دولي، يمنحها شرعية خارجية لحكم سوريا في المرحلة المقبلة.
أما الحراك الأوروبي، فلم يتأخر بدوره، إذ أرسلت كل من فرنسا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي، وفودًا إلى دمشق، وتم رفع العلم الفرنسي على السفارة الفرنسية بدمشق للمرة الأولى منذ 12 عامًا.
الضغوط والاشتراطاتركّز المسؤولون الغربيون على مطالب، أو بالأحرى شروط، تتمحور حول ضرورة إشراك كل مكونات المجتمع السوري في مفاصل الحكم، الذي يتوجب عليه ألا يستثني أحدًا، مع احترام حقوق الأقليات، وضمان عدم تحول سوريا إلى ساحة للتنظيمات الإرهابية، وجرى ربط الرفع التدريجي للعقوبات الغربية المفروضة على سوريا، ورفع اسم هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية، بمدى التقدم الفعلي في تحقيق هذه الشروط.
إعلانكما رُبط ذلك أيضًا بمساهمة الدول الغربية بإعادة الإعمار. لكن الحضور الأميركي اللافت والتواصل المباشر، يعكس حرص الولايات المتحدة على عدم إضاعة الفرصة، التي تمكنها من حصد المكاسب والمنافع مما تحقق في سوريا، ورسم خارطة جديدة لمستقبل علاقات الولايات المتحدة مع سوريا بعد انتهاء مرحلة النفوذ الروسي.
يبقى أن مشهد علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع سوريا تشوبه علاقتها مع القوى المسيطرة على مناطق شرقي الفرات، التي تتداخل مع عدم رغبتها في تسليم كل الملف السوري إلى تركيا، وميلها إلى تخفيف حدة الاندفاعة التركية، الساعية إلى تعزيز نفوذها في سوريا.
ولعل مستقبل علاقات الولايات المتحدة وسوريا الجديدة، مرتبط بمدى الرغبة الأميركية الحقيقية برؤية لوحدة التراب السوري وسيادة الدولة الجديدة، خاصة أن الإدارات السابقة لم تكترث بذلك، بل ساهمت في تفتيت سوريا، وفي الحفاظ على حالة التقسيم الفعلي إلى مناطق نفوذ لقوى أمر الواقع الداخلية المدعومة من قوى خارجية مختلفة.
تطلّع السوريينيتطلع السوريون بعد خلاصهم من نظام الأسد إلى الخلاص أيضًا من قوى الوصاية الخارجية، كي يتمكنوا من بناء جمهورية جديدة، لا يكونون فيها خارج المعادلات السياسية، ولا تتحكم بهم القوى الإقليمية والدولية التي لا تنظر إلا إلى حساباتها ومصالحها.
وعلى السلطة الجديدة إدراك أنها باتت تسير في حقول إلغام، لذلك يتوجب عليها الحذر الشديد، والموازنة بين الاعتماد على الداخل بغية تقوية نفسها بالاستناد إلى بيتها الداخلي؛ لمواجهة اشتراطات الخارج ومطامع قواه، وذلك عبر تلبية كل ما له علاقة بإشراك المجتمع السوري واحترام حقوق ناسه.
المشكلة في الضغوط الغربية أنها تطالب السلطات الجديدة بما عجزت عن تحقيقه دول الغرب مع نظام الأسد طوال عقود عديدة، إضافة إلى أن اشتراطاتها تخفي تركيزها على أمن إسرائيل، وتأمين مصالحها على حساب الأرض السورية والسوريين.
إعلانفضلًا عن أنه لم يتحدث أحد من المسؤولين الغربيين عن المواطنة ودولة المواطنة والمساواة في سوريا، مقابل تركيزهم الفج على الأقليات وحقوقها، والتعامل مع سوريا وكأنها دولة أقليات، الأمر يكشف عن عقلية خاصة لديهم لا تفترق عن عقلية استعمارية لها تاريخ طويل، يمتد إلى المسألة الشرقية.
يتعامى المسؤولون الغربيون عن تطلعات السوريين حين يطرحون اشتراطاتهم، ولا يعيرون أي اهتمام إلى حالة سوريا المنهكة والمدمرة، وحاجتها إلى مدّ يد العون والمساعدة في بناء ما تهدم، وإلى بذل جهود كبيرة للعمل على تمتين النسيج الاجتماعي الداخلي المتهتك، وتوفير الأمن والخدمات للناس، والعمل على تطوير الاقتصاد.
ويعي السوريون أنهم بحاجة إلى كسب مزيد من الداعمين لبلادهم في العالم وفي منطقتهم، لذلك فالمطلوب من القادة الجدد ممارسة السياسة بدقة وحصافة، وإتاحة المجال أمام جميع القوى الحية في المجتمع السوري من أجل بناء الدولة، وفتح الفضاء العام أمامهم للنقاش وتدارس أوضاعهم؛ بغية التعاون لإيجاد الحلول المطلوبة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة نظام الأسد إضافة إلى فی سوریا مع سوریا
إقرأ أيضاً:
المفاوضات السورية-الإسرائيلية: تاريخ من الأخطاء والدروس
لطالما كانت المفاوضات السورية الإسرائيلية فصلا غامضا. تارة يُنفى وجودها، وتارة يُسرب منها ما يكفي لإثارة الجدل العام. اليوم، يبدو أن إسرائيل تسعى لنقل ملف الجولان إلى منطقة تفاوضية أخرى عبر استغلال ملف الدروز حاليا و"قسَد" لاحقا، بهدف جعل المنطقة الجنوبية السورية برمتها خالية من السلاح، وهو ما يمثل تحديا جديدا ومعقدا للدولة السورية الناشئة.
من الضروري أن نتوقف اليوم، بوعي نقدي وتحليل عميق، أمام دروس الماضي التفاوضي الطويل لنفهم بوضوح: هل كانت السلطات السورية حقا تفاوض من أجل الوطن وسيادته، أم كانت تناور فقط من أجل بقائها؟
وقد بدأت قصة التفاوض السوري الإسرائيلي فعليا مع احتلال إسرائيل مرتفعات الجولان 1967، ليصبح هذا الاحتلال نقطة الارتكاز لأي حديث عن السلام أو الصراع.
جدلية الأرض والسلطةمحطات ما قبل المفاوضات ما بين 1967 و1973:بين عامي 1967 و1973، وقبل أن تندلع حرب أكتوبر/ تشرين الأول، هل شهدت العلاقة السورية الإسرائيلية أي مفاوضات؟ الجواب الصريح: لم تحدث مفاوضات مباشرة، لكن جرت محاولات دبلوماسية متعددة، فشلت جميعها في تحقيق أي اختراق.
قرار أممي ضاع أدراج الرياح: القرار 242 (نوفمبر/تشرين الثاني 1967)بعد احتلال الجولان وسيناء والضفة الغربية في حرب 1967، صدر قرار مجلس الأمن 242. هذا القرار دعا إلى مبدأين أساسيين: انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، والاعتراف بحق كل دولة في العيش بسلام داخل حدود آمنة.
كان موقف سوريا حاسما ورافضا للقرار، خاصة أنه يحكمها حزب قومي أيديولوجي [البعث] تسلم السلطة بحجة أن الحكم قبل 1963 كان انفصاليا، والقرار الصادر لم يُشر صراحة إلى "الانسحاب الكامل"، واعتبرته مساويا بين الجلاد والضحية.
أما إسرائيل، فقد قبلت القرار نظريا لكنها رفضت الانسحاب الكامل، وخاصة من القدس والجولان. وهكذا، وُلد القرار كبذرة أمل للحل في المنطقة، لكنه سرعان ما ضاع أدراج الرياح بين تباين التفسيرات ورغبة إسرائيل في السيطرة على القدس ومرتفعات الجولان الإستراتيجية.
إعلان جهود أممية بلا ثمار: مهمة غونار يارنغ (1967-1971)كُلف غونار يارنغ بمتابعة تنفيذ القرار 242، وقام بجولات مكوكية بين دمشق وتل أبيب، محاولا جس نبض الطرفين.
أبدت إسرائيل استعدادا للنقاش دون الالتزام بالانسحاب الكامل، فقد كانت راغبة في تسويق نفسها كدولة عقلانية قابلة للتفاوض. في المقابل، أصرت سوريا على مبدأ عدم التفاوض مع إسرائيل قبل الانسحاب الكامل من الجولان، لأسباب بنيوية في النظام.
كتب يارنغ في تقريره أن إسرائيل ترفض الانسحاب الكامل، وسوريا ترفض الاعتراف أو التفاوض مع الاحتلال. كانت الجهود الدولية عبثية بين إرادتين متناقضتين.
التركيز على جبهات أخرى: وساطات أميركية (نيكسون وكيسنجر)في تلك الفترة، لم يركز الرئيس الأميركي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر على المسار السوري بشكل جاد، كان تركيزهما ينصب على مصر والأردن، بينما ظلت سوريا متشددة في خطابها ورفضها التفاوض دون انسحاب إسرائيلي مسبق.
لم تكن دمشق مستعدة للتنازل عن أوراقها قبل أن تفرض واقعا جديدا على الأرض.
مسار المفاوضات بين سوريا وإسرائيلاتفاق فض الاشتباك (1974): تهدئة الجبهة وترتيب البيت الداخليكان هذا الاتفاق، الذي توسط فيه وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر، نقطة البداية العلنية للمفاوضات بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول.
يومها، لم يكن هدف النظام السوري تهدئة الجبهة بهدف استعادة الجولان فورا، بل كان هدف حافظ الأسد الأساسي إعادة ترتيب بيته الداخلي الذي لم يستقر بعد، وتعزيز شرعيته الإقليمية والدولية بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول التي أحدثت تحولا في المشهد الإقليمي.
أما هدف إسرائيل من الاتفاق، فكان باعتباره خطوة نحو تحييد الجبهة السورية جزئيا، وضمان أمن حدودها بعد قضمها أراضي واسعة من دول الجوار والتفرغ لملف مصر والأردن.
مؤتمر مدريد (1991): مناورة لكسب الوقت وتجنب العزلةبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتغير موازين القوى العالمية، جاء مؤتمر مدريد كمحاولة أميركية طموحة لجمع الأطراف العربية والإسرائيلية. دخلت دمشق المفاوضات بخطاب قومي حاد، لكنها في الواقع التزمت بقواعد اللعبة الدولية.
كان واضحا أن حافظ الأسد يفاوض ليكسب الوقت ويتفادى العزلة السياسية، ويستوعب المتغيرات الدولية وحرب الخليج، لا ليكسب الأرض. أما الهدف الإسرائيلي، فكان يكمن في كسر العزلة الإقليمية دون تقديم تنازلات جوهرية.
مفاوضات جنيف (1999-2000)في عهد حافظ الأسد، وتحت رعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، بلغت هذه المفاوضات السرية ذروتها. كادت دمشق أن توقع اتفاقا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، لكن في لحظة درامية عُرفت لاحقا، رفض الأسد الأب التوقيع على الخريطة بعد اكتشافه أنها لا تعيده إلى خط الرابع من يونيو/ حزيران 1967 بالكامل.
وتكرست بعدها مقولة: "لا مفاوضات دون سيادة كاملة". لكن السؤال الجوهري الذي طرحه السوريون: هل كنا نفاوض حقا من أجل السيادة الوطنية الكاملة، أم من أجل تعزيز صورة "الزعيم" وشعار الممانعة؟ خاصة أن حافظ الأسد كان مريضا ويريد تخليد ذكراه كزعيم عروبي.
مفاوضات غير مباشرة عبر تركيا (2008): بحث عن شرعية دولية لا اختراق حقيقيفي عهد الرئيس بشار الأسد، بدأت وساطة تركية مباشرة من الرئيس رجب طيب أردوغان لعقد اتفاق سوري إسرائيلي. حينها، قدمت دمشق وثيقة غير مسبوقة تضمنت تنازلات أمنية، وحتى ترتيبات مشتركة محتملة في الجولان المحتل.
إعلانكان الهدف الرئيسي لبشار كسر العزلة السياسية بعد مشاركته في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن فجأة انهارت المحادثات بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نهاية العام، ليتحول الخطاب الرسمي إلى شعار "الممانعة".
الواقع أن مفاوضات بشار الأسد، شأنها شأن مفاوضات والده، لم تكن أبدا تدور حول الأرض بمعناها الكامل، بل كانت تدور في جوهرها حول السلطة والبقاء.
كان التفاوض مجرد تكتيك لرفع العقوبات الدولية، وكسب الاعتراف الإقليمي، وشراء الوقت، باعتبارهم عائلة عروبية مقاومة ممانعة للتطبيع.
تجارب مفاوضات إقليمية: دروس يجب أن نتعلمهامقارنة بتجربتنا، مضى الرئيس المصري أنور السادات إلى كامب ديفيد بجرأة غير مسبوقة، فاستعاد سيناء بالكامل مقابل السلام المنفرد، ودفع ثمنا سياسيا باهظا على الصعيد العربي بتفكيك المنظومة.
أما الفلسطينيون فقد دخلوا أوسلو مضطرين، في لحظة انهيار إقليمي وعربي، لكنهم أخطؤُوا حين تنازلوا عن جوهر قضيتهم مقابل وعود مستقبلية لم تتحقق. أما الأردن في وادي عربة، فقد فاوض بهدوء وواقعية باعتباره دولة ضعيفة الموارد تحيطه دول إقليمية كبرى، وحافظ على حدوده، وربح استقرارا هشا في ظروف إقليمية معقدة.
تُظهر هذه التجارب الإقليمية بوضوح أن النية الصادقة بالتفاوض، ومعرفة سقف المطالب الواقعي، وفهم طبيعة الخصم ونقاط قوته وضعفه، كلها شروط حاسمة لأي نجاح تفاوضي مستقبلي.
أخطاء المفاوض السوري: بوصلة للمستقبلمن كل هذه التجارب، يبرز الخطأ الأكبر في أداء المفاوض السوري تاريخيا، وهو خطأ مركب ومتجذر في بنية النظام وطريقة تعاطيه مع قضايا الوطن المصيرية:
الخطأ الأول: المفاوضة بلا خريطة طريق واضحة، وبلا سند شعبي حقيقي يُضفي الشرعية على قراراته. هذا الغياب للرؤية الإستراتيجية والشرعية الشعبية جعل المفاوض السوري يدخل الطاولة وهو يخشى من كشف نواياه الحقيقية، أو ربما لا يمتلك نوايا واضحة من الأساس. في المقابل، يبدو الخصم أكثر وضوحا منه في تحديد الأهداف والمطالب، مما يمنحه اليد العليا في أي جولة.التفاوض من موقع ضعف داخلي، أو من خلف ظهر الشعب، هو وصفة مضمونة للفشل، لأنه يفقد المفاوض أهم أوراقه: الإرادة الوطنية الجامعة.
الخطأ الثاني: أن التفاوض كان لذاته، لا من أجل تحقيق نتيجة ملموسة. لم يكن الهدف هو الوصول إلى حل شامل وعادل، بل كان الهدف هو "الجلوس على الطاولة" بحد ذاته.جلس الأسد الأب أكثر من عقد من الزمان في مفاوضات لا يريد منها حلا شاملا، بل تسكينا مؤقتا للأوضاع، أو استخدامها كواجهة دبلوماسية لتخفيف الضغوط الدولية. والابن استخدم التفاوض كورقة في لعبة الأمم المعقدة، لرفع العقوبات أو كسب اعتراف إقليمي، لا كورقة في مشروع وطني للتحرير واستعادة الحقوق.
هذا التكتيك، وإن منح النظام بعض الأنفاس المؤقتة، إلا أنه أضاع فرصا تاريخية لاستعادة الأرض.
الخطأ الثالث: غياب الابتكار في الطرح التفاوضي. فمعظم ما قُدم من جانب عائلة الأسد كان تقليديا، يعتمد على استرجاع المبادرة العربية للسلام، أو الالتفاف حول خطاب "السلام مقابل الأرض"، دون تفاصيل عملية أو رؤى خلاقة. لم يحاولوا طرح مبادرات حقيقية تضعنا في موقع الفاعل الذي يقترح الحلول، لا المتلقي الذي ينتظر التنازلات.في عالم التفاوض المعاصر، الابتكار في الأفكار، وتقديم حلول غير تقليدية للمشاكل المعقدة، يمكن أن يغيرا ديناميكية الجلسات ويخلقا مساحات جديدة للاتفاق، وهو ما افتقدناه بشدة.
هل نتعلم من الماضي لنصنع مستقبلا أفضل؟إذا كنا نحلم بمفاوضات مستقبلية واعدة، فإن علينا أن ندرك هذه الدروس بعمق، وأن نعمل على:
بناء موقف وطني موحد وشرعية شعبية حقيقية: التفاوض دون سند شعبي وشرعية وطنية هو مغامرة خاسرة حتما. يجب أن يكون الشعب هو صاحب القرار والداعم الأكبر للمفاوض، وأن يكون الموقف التفاوضي نابعا من إجماع وطني حقيقي. امتلاك جرأة الطرح وابتكار الحلول: يجب ألا نخجل من طرح تصورات جديدة ومبتكرة تحفظ الحقوق الوطنية وتدير الواقع بذكاء، بدلا من التمسك بالخطاب التقليدي الذي لم يعد يفضي إلى شيء. يجب أن نكون السباقين في تقديم المبادرات التي تعكس رؤيتنا لمستقبل المنطقة، لا مجرد ردود أفعال على مبادرات الآخرين. فهم الخصم كما هو، لا كما نتخيله: إسرائيل دولة لا تهادن إلا من موقع القوة، ولا تقدم التنازلات إلا عندما تشعر أن البديل الإستراتيجي سيكون أكثر كلفة عليها. يجب فهم هذه العقلية بعمق، ودراسة نقاط قوتها وضعفها، وكيفية استغلالها لصالح الموقف التفاوضي السوري. التفاوض ليس صراعا عاطفيا، بل هو عملية عقلانية تتطلب فهما دقيقا للطرف الآخر. إدراك أننا لا نفاوض من أجل السلام فقط، بل من أجل الكرامة والسيادة: السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من موقع القوة والندية.المفاوضات في هذا السياق، إذا ما تمت، يجب أن تكون ذات إستراتيجية واضحة المعالم:
إعلان هدفها الأول والأخير هو استعادة السيادة الوطنية على الأراضي المحتلة بطريقة أو بأخرى. ترسية أمن واستقرار حقيقيين في المنطقة الجنوبية، لا عبر التنازل عن السيادة أو جعلها منطقة خالية من السلاح على حساب الأمن القومي، بل عبر اتفاقيات عادلة تضمن حقوق الجميع وتنمية المنطقة. بناء دولة قوية ومستقرة داخليا، قادرة على حماية حدودها ومصالح شعبها.إن سجل المفاوضات السورية الإسرائيلية يمثل كنزا من الدروس والتجارب المريرة، ليس لاستيعاب هذه الدروس لعدم تكرارها لاحقا، بل لتشكيل بوصلة للمستقبل، تضمن تحقيق سيادة سوريا ومصالحها الوطنية العليا في أي مسار تفاوضي قادم.
المستقبل الحقيقي لسوريا يكمن في قوتها الداخلية، في وحدتها، وفي قدرتها على التفاوض من موقع المبادئ والكرامة، لا من موقع الضعف أو الحاجة للبقاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline