لا يوجد مكان علي الارض إلا وعرف الحرب أو شهد نزاعاً مسلحاً، سواء كان دولي أو غير دولي . الكثير من الدول والمجتمعات الإنسانية عانت من الحروب ومخلفاتها وأثارها ، وتفننت الأطراف المتحاربة في أساليب الضغط والألم والقمع ، وفي أنواع العقاب الذي غالباً ما يكون علي المدنيين، ومن أسوأ وأبشع أساليب الحرب الموجهة ضد المدنيين سياسة (التجويع) كوسيلة تعذيب وأداة حرب ، ويتم التجويع غالباً عن طريق فرض حصار يهدف لمنع دخول المواد الغذائية ومياه الشرب والأدوية وحليب الأطفال ومنع المساعدات الإنسانية مما يزيد من معاناة المدنيين.

المتأمل للأوضاع في (الفاشر) الأبية يجد أنه يُمارس عليها أسوأ أساليب التجويع كما يحدث في غزة بالضبط ، مما يدل علي أن الجهة التي تدير هذة الحرب جهة “صهيونية واحدة” ولو تعددت “أياديها”.

المجتمع الدولي لم يجرم “تجويع المدنيين” إلا في العام 1977م لأنه يمس الحق في الحياة وقد يكون سبباً للإبادة الجماعية أو سبباً لظروف معيشية مزرية وقاسية على المدنيين الذين لا يشاركون في العمليات الحربية ولا صله لهم بها، ولكن ينالهم منها الموت والخراب .

تاريخياً القانون الدولي لم يحظر “تجويع المدنيين” حتي عام 1919م ولم يكن جريمة حرب واضحة المعالم ولكن كان مجرد “انتهاك” لقوانين الحرب دون تجريمه بشكل واضح ، إلى أن جاء العام 1977م واتجه العالم نحو تجريمه واعتباره “جريمة حرب” و وضع لذلك ضوابط وتدابير دولية.

ولكن حتي يتم إثبات جريمة “تجويع المدنيين” اشترط القانون الدولي في الحصار المفروض علي المدنيين شروطاً محددة :
1/ أن يكون الغرض الأساسي منه تجويع السكان المدنيين ومنع وصول المواد الغذائية و الأدوية ومياه الشرب والمساعدات الإنسانية لهم.
2/أن تكون الأضرار التي لحقت بالسكان المدنيين مفرطة بالمقارنة بالفائدة العسكرية المرجوة.
3/أن يرفض الطرف الذي فرض الحصار أي تفاوض أو اتفاق بشأن فتح ممرات إغاثة للمدنيين أو دخول مساعدات إنسانية لإنقاذ حياتهم
وهنا يتضح أنها سياسة حرب ضد المدنيين وبالتالي “جريمة دولية” يُحاسب عليها مرتكبوها !!

القانون الدولي حظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب في البرتوكول الأول حيث نص علي ذلك في المادة 1/54 من البرتوكول الإضافي الأول لعام 1977م ، وفي المادة 14 من البرتوكول الثاني لعام 1977م ، ألحق بهذة المواد أيضا مواد حظر تلويث مصادر مياه الشرب وشبكاتها و المحاصيل الزراعية والماشية و الأعيان التي يحتاجها المدنيون من مستشفيات ومدارس وأسواق وشبكات الكهرباء وهي كلها ليست أهدافاً عسكرية ، وذلك لحملهم علي النزوح أو اللجؤ أو التهجير القسري بغرض الاستيلاء علي بيوتهم أو أراضيهم أو توقيعه كعقاب جماعي لمجموعة سكانية معينة بغرض التغيير الديموغرافي، كذلك يشمل الحظر اتباع سياسة “الأرض المحروقة” باعتبارها أسلوباً لتجويع المدنيين.

كذلك يحظر عرقلة وصول المساعدات الإنسانية والأدوية وحليب الأطفال والمهمات الطبية المرسلة للمدنيين وقد ورد ذلك في المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة ، بشأن حماية المدنيين وقت الحرب لعام 1949م .

من جهة أخرى نجد أن الممارسة الدولية عبر المنظمات الدولية وأولها مجلس الأمن حينما وضع عقوبات ضد العراق والصومال ويوغسلافيا نص علي استثناء المواد الغذائية والطبية من الحصار الاقتصادي ، جاء ذلك في القرار رقم 706 الصادر في 15 أغسطس1991م ، كذلك الأمر ينطبق علي إعلان حقوق الطفل الصادر في 20 نوفمبر 1959م بموجب القرار 1386 وقد نص علي عدد من المبادئ والحقوق التي يجب أن يتمتع بها الطفل و منها الحق في الحياة والحق في الغذاء الكافي لنموه وعلي الحق في الرعاية الصحية ، وبالتالي فإن “التجويع” يتنافى تماما مع مبادئ الأمم المتحدة وحقوق الطفل التي توافق عليها المجتمع الدولي.

علي صعيد آخر نجد أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر كمنظمة إنسانية أدانت في المؤتمر الدولي السادس والعشرين للصليب الأحمر والهلال الأحمر عام 1995م بشدة تجويع المدنيين في النزاعات المسلحة واستخدام التجويع كاسلوب من أساليب الحرب واعتمدت ذلك في المؤتمر الدولي السابع والعشرين 1999م ، وتظل سياسة تجويع المدنيين محظورة دولياً لتنافيها مع المبادئ الإنسانية ومجافاتها لقواعد القانون الدولي.

بالتالي فإن اللجؤ لـ “تجويع المدنيين” في الحروب يُعد جريمة دولية أي “جريمة حرب” وفق رأي المحكمة الجنائية الدولية، لأن ذلك مقدمة لارتكاب جريمة أخرى وهي الإبادة الجماعية ، لذلك فإن أفعال مليشيا الدعم السريع الإرهابية وما تفرضه من حصار حول الفاشر “أيقونة الصمود” بغرض تجويع المدنيين فيها يعد “جريمة حرب” أخرى تضاف لسجل المليشيا الأسود الحافل بالجرائم والانتهاكات.

مع ملاحظة أن القصد الجنائي هنا لا يشترط فيه اعتراف الجاني “المليشيا” وإنما يستدل من مجمل الظروف المحيطة والتي يعيشها المدنيون المحاصرين تحت نيران الحرب ، وهذا ما أخذت به المحكمة الجنائية الدولية في النزاعات المسلحة الدولية، وهنا نذكر *نقطة جوهرية* حيث ظلت النزاعات المسلحة – غير الدولية – لا تدخل في نطاق محاسبة المحكمة الجنائية الدولية إلى أن نجحت سويسرا في تعديل نظام روما الأساسي وإدراج “تجويع المدنيين” كـ “جريمة حرب” تدخل ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية وذلك في العام 2019م وصادقت علي ذلك 11دولة !!

بالتالي فإن ما تفعله المليشيا الإرهابية المجرمة من فرض حصار طويل وتجويع المدنيين في الفاشر الأبية هو جريمة حرب، لا تحتمل التأويل و واضحة وضوح الشمس، وعلى “بعثة تقصي الحقائق” أن تأخذ جريمة تجويع المدنيين في الفاشر مأخذ الجد، ويجب أن تحاسب عليها المليشيا المجرمة ، وان يخرج المجتمع الدولي من صمته المخزي المخجل ويتجاوز مرحلة “الإعراب عن القلق” ولو مرة واحدة في تاريخه إنصافاً للعدالة والإنسانية.

ستنتصر الفاشر بإذن الله بعزيمة الرجال وإرادة الأبطال ، وتعود زاهية باهية منتصرة في ثوب العزة ليكتمل فرح السودان .

د.إيناس محمد أحمد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: المحکمة الجنائیة الدولیة تجویع المدنیین فی القانون الدولی جریمة حرب ذلک فی

إقرأ أيضاً:

الأمن الغذائي: ركيزة السيادة وقوة الصمود الوطني

 

محمد البادي

ليس في الأمر مبالغة حين نقول إن رغيف الخبز بات سلاحًا، وأن سنبلة القمح تساوي طلقة في معركة البقاء.

فمن يقرأ التاريخ بعين البصيرة، وينظر إلى الواقع بعدسة الحقيقة، يشيب رأسه لا من كِبر، بل من هول ما يرى من تفريط، وغياب، وانشغال عن أخطر القضايا: قضية الجوع والسيادة.

قد تسقط دولة بلا جيوش وتنهض من جديد، لكن إذا سقطت في هاوية الجوع، فلن تنهض إلا بعد أن تدفع الثمن باهظًا: كرامةً، وقرارًا، ومستقبل أجيال.

وفي زمن تُحاصر فيه الشعوب لا بالسلاح وحده، بل بـ"لقمة العيش"، صار لزامًا أن نعيد ترتيب الأولويات: فلا أمن بلا غذاء، ولا سيادة لمن لا يملك قوت يومه.

لقد أُنفقت في العالم العربي مئات المليارات على ناطحات السحاب، والمدن الذكية، والقصور الزجاجية، والسيارات التي تُقاس قيمتها بالأصفار.

لكن كم استُثمر من هذه الأموال في الزراعة؟ كم أرضًا عربية خُصصت لزراعة القمح؟

الأمن الغذائي لا تصنعه المظاهر ولا ترف العواصم. فناطحة السحاب لا تُشبع طفلًا جائعًا، والشارع الفاخر لا يُغني وطنًا عن استيراد خبزه من الخارج.

ومن الحكمة -بل من الواجب- إعادة توجيه جزء من هذه الثروات نحو الأرض، نحو سنابل القمح، نحو الاستثمار في رغيف الخبز قبل أن ينهار الزجاج تحت وطأة الجوع.

لا يقلّ الأمن الغذائي أهمية عن إعداد الجيوش أو بناء المدارس والمستشفيات، بل هو الأساس الذي تقوم عليه كرامة الأوطان واستقرارها.

فالوطن الذي لا يزرع لا يملك قراره، ولا يصمد طويلًا أمام الأزمات.

والقمح -بما يمثله من غذاء استراتيجي- هو حجر الزاوية في منظومة الصمود، وسلاح الشعوب في زمن الحروب والكوارث.

رغم كل الموارد، لم تحقق أي دولة عربية حتى اليوم الاكتفاء الذاتي من القمح، وهو مؤشر خطير على هشاشة الأمن الغذائي.

فكيف لأمة تتحدث عن السيادة، وهي عاجزة عن إنتاج خبزها؟!

الاكتفاء الذاتي ليس وهمًا، بل ممكن بوجود الإرادة واستغلال ما تيسر من الموارد المائية، ولو دون مكملات غذائية أخرى.

ففي زمن الحصار، يكفي ما يسد الرمق ويُبقي على الكرامة، أما من ينتظر المساعدات، فلن يملك يومًا قراره.

وقبل تجهيز الجيوش، يجب تجهيز لقمة العيش.

فهذا من الأولويات التي لا تحتمل التأجيل. الحرب لا تُعلن متى تبدأ، ولا تُمهل حتى تستعد، والعدو لا يرحم حين يُحاصر، ولا يكتفي بالسلاح إن كان الجوع أشد فتكًا.

لهذا، يجب أن نسير في خطين متوازيين: تأمين الغذاء، وتجهيز الجيوش.

فلا نصر في الميدان إن كانت البطون خاوية، ولا صمود في الحصار إن افتقد الشعب خبزه.

من يقرأ التاريخ بعقل مفتوح، يعلم أن الحصار كان قديمًا يُكسر بالحيلة والدهاء والطرق الوعرة.

أما اليوم، فأدوات الحصار تراقبك من الفضاء، وتغلق عليك الهواء والماء واليابسة.

لم يعد الهروب ممكنًا، ولم تعد الخيارات متاحة كما في السابق.

هذا الواقع يفرض علينا وعيًا أكبر، واستعدادًا أعمق، وإرادة صلبة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي.

ففي النهاية، الكرامة الوطنية تبدأ من رغيف الخبز.

إن الشعوب التي تُتقن صناعة السلاح، لكنها تُهمل تأمين الغذاء، تُقاتل بنصف قوتها، وتنهار عند أول حصار.

فالسلاح لا يكفي إن لم تُؤمَّن البطون والعقول، ولا نفع لجيوش تُقاتل خلفها شعوب جائعة.

ولهذا، فإن الأمن الغذائي يجب أن يُعامل بوصفه جزءًا لا يتجزأ من منظومة الدفاع الوطني.

فالنصر لا تصنعه البنادق وحدها، بل تسهم فيه الحقول والمزارع وأيدي الفلاحين كما تسهم فيه المصانع والثكنات.

وحين نُدرك أن رغيف الخبز هو خط الدفاع الأول، نكون قد بدأنا فعليًا مسيرة الكرامة والسيادة.

 

مقالات مشابهة

  • المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي لإيقاف جرائم السعودية بحق المدنيين في المناطق الحدودية
  • الأمن الغذائي: ركيزة السيادة وقوة الصمود الوطني
  • الطاهر حجر يدعو سكان الفاشر من المدنيين والعسكريين لمغادرة المدينة
  • إيران في الذكرى الأولى لاستشهاد “هنية”: جريمةٌ كبرى وانتهاكٌ صارخٌ للمبادئ الدولية
  • بلجيكا تحيل جنديين إسرائيليين إلى الجنائية الدولية.. شاركا بجرائم الإبادة في غزة
  • غزة في قلب العاصفة.. اعتراف بدولة فلسطين يعرقل وقف الحرب ويزيد الانقسام الدولي
  • موسكو تتهم كييف باتباع أساليب إرهابية ضد المدنيين داخل الأراضي الروسية
  • كاتب بريطاني: الغرب شريكٌ في جريمة تجويع غزة
  • الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعود إلى إيران للمرة الأولى منذ حرب الأيام الـ12