في أعماقنا، نتوق جميعًا لأن نكون كرماء، أن نعطي بلا حدود، لأن العطاء بحد ذاته قوة تربطنا بالآخرين وتجعلنا نشعر بأننا جزء من شيء أكبر. لكن، ماذا لو تحوّل العطاء من فضيلة إلى عبء؟ ماذا لو أصبح هذا العطاء، الذي أردناه تعبيرًا عن الحب والكرم، استنزافًا لذواتنا وضياعًا لحدودنا؟
العطاء الزائد، وإن بدا نبيلاً، يحمل في طياته خطراً يُهمَل ذكره في كثير من الأحيان: خطر فقدان التوازن.
يقول الكاتب الأمريكي آدم غرانت في كتابه “Give and Take” إن “العطاء المفرط دون وعي يؤدي إلى استنزاف الشخص تمامًا”، مشيرًا إلى أن المانحين الذين لا يضعون حدودًا غالبًا ما يجدون أنفسهم في دائرة من الاستغلال أو التهميش. إن تقديم كل شيء، دون مقابل أو تقدير، لا يعني فقط أنك تضعف نفسك، بل يعني أيضًا أنك تُعلّم الآخرين أن يأخذوا بلا حساب.
في كثير من العلاقات، يصبح العطاء الزائد من طرف واحد وسيلة لإرضاء الآخرين، على حساب النفس. يحدث ذلك بدافع الخوف من الرفض، أو الرغبة في القبول، أو حتى بسبب ثقافة اجتماعية تُمجد التضحية المطلقة. لكن هنا تكمن المشكلة: التضحية التي لا تُقدر، تتحول مع الوقت إلى إحساس بالخذلان. كما قالت الكاتبة الأمريكية هارييت ليرنر في كتابها “The Dance of Anger”، “العطاء بلا حدود ليس حبًا، بل هو فقدان للذات.”
من المؤلم أن نرى كيف يمكن للعطاء المفرط أن يؤدي إلى اختلال التوازن في العلاقات. تخيل علاقة حيث يُعطي شخص كل ما لديه دون أن يتلقى شيئًا في المقابل؛ هذا النوع من العلاقات يخلق استغلالًا غير مقصود، حيث يصبح الطرف الآخر معتادًا على الأخذ دون تفكير. عندما يُتوقع منك دائمًا أن تكون موجودًا، أن تقدم المساعدة، أن تعطي بلا توقف، يصبح من الصعب رسم حدودك. الحدود هنا ليست قسوة، بل هي حماية لعطائك نفسه. كما تقول الباحثة برينيه براون: “الحدود الواضحة هي فعل حب تجاه النفس وتجاه الآخرين. إنها تعني أنني أهتم بك بما يكفي لأخبرك أين يتوقف عطائي.”
لكن لماذا نقع في هذا الفخ؟ جزء من الإجابة يكمن في مفهوم العطاء نفسه، الذي يُصوره دائمًا كرمز للفضيلة. نحن نكبر مع رسائل تُشيد بالعطاء اللامحدود وتربط التضحية بالسعادة، متناسين أن السعادة تأتي من التوازن، لا من المبالغة. العطاء الذي لا يترك مساحة للاهتمام بالنفس، والذي يُمارس دون وعي، يُصبح نقمة. العطاء الحقيقي لا يعني أن تُرهق نفسك من أجل الآخرين، بل أن تشارك معهم من وفرة نفسك، لا من استنزافها.
في بعض الأحيان، يكون قول “لا” أقرب إلى العطاء مما نعتقد. قول “لا” يعني أنك تحترم وقتك، طاقتك، واحتياجاتك. يعني أنك تضع قيمة حقيقية لعطائك، فلا يصبح شيئًا يُؤخذ كأمر مسلم به. تقول الكاتبة شيريل ريتشاردسون في كتابها “The Art of Extreme Self-Care”:: "عندما تقول ‘نعم’ للآخرين طوال الوقت، فإنك تقول ‘لا’ لنفسك.”
لكن، كيف نحافظ على التوازن؟ المفتاح يكمن في الوعي الذاتي. اسأل نفسك: لماذا أعطي؟ هل هو بدافع الحب والكرم؟ أم أنني أعطي لأشعر بالقيمة أو لتجنب الرفض؟ إدراك دوافعك هو الخطوة الأولى نحو عطاء صحي. الخطوة التالية هي تعلم وضع حدود واضحة. الحدود ليست حاجزًا أمام العطاء، بل هي ضمانة لأن يكون عطاؤك حقيقيًا ومستدامًا.
العطاء قيمة عظيمة، لكن قيمته تتضاءل عندما يصبح عبئًا. التوازن هو الحل، ذلك الخط الدقيق بين أن تعطي بسخاء، وأن تحفظ نفسك من الإنهاك والاستنزاف. كما قال الكاتب والفيلسوف البريطاني آلان واتس: “لا يمكنك صب شيء من كوب فارغ. امتلئ أولاً، ثم اعطِ الآخرين مما يفيض عنك.”
تذكّر دائمًا: العطاء الحقيقي يبدأ من عطائك لنفسك. أن تكون كريمًا مع ذاتك، أن تحترم وقتك وطاقتك، هو الأساس الذي يُبنى عليه أي عطاء للآخرين. فلا تجعل من نفسك شعلة تحترق لتضيء الطريق للآخرين، بل اجعلها نورًا مستدامًا يضيء الطريق للجميع، بمن فيهم أنت.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: سقوط الأسد الحرب في سوريا عودة ترامب خليجي 26 إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية
إقرأ أيضاً:
إطلاق مبادرات تقني العطاء التطوعية لأعمال الحج 1446 هـ
مكة المكرمة
أطلق المدير العام للتدريب التقني والمهني بمنطقة مكة المكرمة المهندس حسين بن علي البحيري، مبادرات “تقني العطاء” التطوعية لخدمة ضيوف الرحمن خلال موسم حج هذا العام 1446هـ.
وتهدف المبادرات إلى تدريب وتأهيل المتدربين المشاركين بموسم الحج 1446هـ، ورفع جاهزيتهم، للمشاركة في تنفيذ برامج ومهام تطوعية تقنية ومهنية، بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة.
وتتضمن المبادرات مجموعة من البرامج المتخصصة أبرزها برنامج “عون التقني”, بالتعاون مع الهيئة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي.
ويقدم أبناء المؤسسة خدمات تطوعية كخدمة كبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة وإرشاد التائهين وغيرها، بالتعاون مع النقابة العامة للسيارات وتهدف إلى نشر المواد التوعوية لحجاج بيت الله الحرام الصادرة من وزارة الحج من خلال الشاشات الموجودة على باصات نقل الحجاج، و”طوارئ الصيانة”، وتسعى إلى صيانة السيارات والباصات المتعطلة التي تحتاج إلى دعم على الطريق الدائري الثالث والرابع المتجهين إلى الحرم المكي الشريف، وبرنامج “آمن”، بالتعاون مع الدفاع المدني.
ويهدف إلى دعم ومساندة دوريات السلامة للتأكد من إجراءات السلامة في الأماكن التي يقطن بها حجاج بيت الله الحرام، وتوعية الحجاج الوافدين عن طريق قطار الحرمين عن أهم اشتراطات السلامة في المخيمات والسكن.
وأكد المهندس البحيري أن المبادرات تمثل نموذجًا يحتذى به في توظيف المهارات التقنية لخدمة المجتمع، لا سيما في هذا الزمان والمكان الشريفين لخدمة ضيوف الرحمن، وتنمية روح التطوع لدى الطلاب والطالبات، وتمكينهم ليكونوا نواة لعطاء وطني مستدام”.
من جانبه، أوضح المشرف على المبادرات في المنطقة المهندس ياسين عيسى، أن هذه المبادرات تُنفذ وفق خطة عمل محكمة تتكامل فيها جهود فرق المتدربين والمدربين، مع الحرص على أن تكون المشاركة نوعية ومؤثرة، ولا تقتصر على العمل الميداني فقط، بل تشمل التوعية والتقنيات الذكية وتقديم حلول مبتكرة تسهم في تحسين تجربة الحاج.